أصبح العراق في 2019 واحداً من شركاء الصين في مبادرة الحزام والطريق، وتهدف المبادرة إلى بناء مشاريع بنى تحتية بحرية وبرية، تصل الصين بشكل أفضل بآسيا وأوروبا وإفريقيا. لكن الغرب يرى فيها أداة لتعزيز نفوذ الصين في الدول الفقيرة، منددا خصوصا بتسبب هذه المشاريع في تراكم مديونية كبيرة...
في العراق الغني بالنفط والفقير في البنى التحتية، وجدت الصين لها موطأ قدم. فبالإضافة إلى عمل شركاتها في مجال النفط، تبني مدارس ومطاراً في مشاريع يحتاج إليها هذا البلد لكنها تضعه في مواجهة خطر الوقوع بفخّ الديون مع بكين في وقت ليس بعيدا.
والحضور الصيني في العراق ليس جديداً. لكن بكين نوّعت مشاريعها ووسّعتها مؤخرا في هذا البلد الذي عانى من الحروب والنزاعات لأكثر من أربعين عاماً.
ويشير مدير مشروع الشرق الأوسط وآسيا في معهد الشرق الأوسط جون كالابريز في تصريحات لوكالة لفرانس برس إلى أن "العراق بحاجة ماسة إلى الاستثمار الأجنبي لا سيما في مجال البنى التحتية الخاصة بالطاقة".
وهنا وجدت الصين الفرصة.
فالجمهورية الشعبية بحاجة إلى تأمين حاجاتها من الطاقة وتنويع مصادرها وأصبحت أوّل مستورد للنفط العراقي. وهي وحدها تستورد 44 بالمئة من صادرات النفط العراقية، حسبما ذكر مستشار رئيس الوزراء مظهر صالح لوكالة الأنباء العراقية.
في مجال الطاقة "الوضع نشط"، كما يقول السفير الصيني تسوي وي ردا على سؤال لفرانس برس في مؤتمر صحافي. لكنه يضيف "ما زلنا في مرحلة الدخول إلى العراق ونتعاون مع الجانب العراقي وكذلك مع الشركات الأجنبية التي تعمل في العراق".
ويوضح تسوي أنه من "حيث عدد وقيمة المشاريع" في مجال الطاقة، "لا يزال الجانب الصيني في مرحلة البداية".
ويرى جون كالابريز أنه وراء الأهداف التجارية الواضحة "يقبع أيضاً طموح الصين في استعراض عملها وتلميع صورتها وترسيخ نفسها بعمق في بلد ومنطقة هيمن عليها الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة" لوقت طويل.
الحزام والطريق
أصبح العراق في 2019 واحداً من شركاء الصين في مبادرة "الحزام والطريق"، مع توقيع البلدين اتفاقية في هذا الشأن.
وتهدف مبادرة "الحزام والطريق" إلى بناء مشاريع بنى تحتية بحرية وبرية، تصل الصين بشكل أفضل بآسيا وأوروبا وإفريقيا.
لكن الغرب يرى فيها أداة لتعزيز نفوذ الصين في الدول الفقيرة، منددا خصوصا بتسبب هذه المشاريع في تراكم مديونية كبيرة على تلك البلدان. كما يشتبه الغربيون بوجود ممارسات فساد وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وقال متحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية لفرانس برس إن "الصين تشارك بشكل نشط في إعادة بناء الاقتصاد العراقي"، مؤكدا أن بغداد "شريك مهم" في مبادرة "الحزام والطريق".
وفي إطار هذه المبادرة، "بقي العراق الشريك الثالث الأكثر أهمية" للصين في قطاع الطاقة "بين عامي 2013 و2022"، كما ذكر تقرير لكريستوف نيدوبيل لصالح مركز التنمية والتمويل الأخضر في جامعة فودان بشنغهاي.
وعلى سبيل المثال، في محافظة ميسان في جنوب العراق يتمّ تطوير حقل الحلفاية مع ائتلاف شركات تقوده شركة "بتروتشاينا" الحكومية الصينية، إلى جانب مجموعتي توتال الفرنسية وبتروناس الماليزية، كما أوضح مدير شركة نفط ميسان في تصريح لوكالة الأنباء العراقية.
أما التبادل التجاري بين البلدين، فهو مزدهر وبلغ في العام 2020، 30 مليار دولار، كما نقلت وكالة الأنباء العراقية عن مسؤول في السفارة الصينية.
ونظرا لأهمية إعمار البنى التحتية، يندرج العديد من المشاريع التي تقوم بها الصين في هذا المجال في إطار الاتفاق الموقّع بين البلدين في 2019 تحت عنوان "الإعمار مقابل النفط". ومن هذه المشاريع ألف مدرسة ومطار الناصرية.
في مدينة الناصرية في جنوب العراق، تقوم شركة "باور تشاينا"، بالعمل على إحدى هذه المدارس. وهي واحدة من شركتين صينيتين تنفذان مشروعا يقضي ببناء ثمانية آلاف مدرسة في المجموع على ثلاث مراحل، وتجري المرحلة الأولى منه التي تشمل ألف مدرسة في 15 محافظة عراقية.
دروس لغة
تموّل هذه المشاريع من بيع العراق مئة ألف برميل نفط يومياً إلى الصين، تودع إيراداتها في حساب يديره البنك المركزي العراقي في الصين. ولا يمكن أن تستخدم هذه العائدات إلّا في مشاريع تقوم بها شركات صينية حصراً في العراق.
وعلى الشركات الصينية كذلك العمل مع شركات مقاولة محلية عراقية "لتوفير الأيادي العاملة والمواد الأولية"، كما يشرح لفرانس برس المتحدّث باسم الأمانة العامة لمجلس الوزراء حيدر مجيد.
ويعتبر يسار المالكي الخبير الاقتصادي في معهد "ميدل إيست إيكونوميك سرفي" أن توفير فرص عمل لليد العاملة العراقية "أمر إيجابي" لكن "هناك شائعات أن غالبية الشركات العراقية متّصلة سياسياً، وغير معروفة، لذلك توجد مخاوف من وجود فساد".
وقال مجيد إن هناك خططا لإدراج "مشاريع طرق وجسور وسكك حديد وطاقة ونفط وصحة" أيضا في الاتفاقية.
لكن المالكي يحذّر من أن "تستخدم السلطات العراقية الاتفاقية في مشاريع غير مجدية، وينتهي بها المطاف بكثير من الديون، كما هي حال الكثير من الدول الإفريقية".
تجذب الصين أيضاً عراقيين راغبين بتعلّم لغتها. من هنا، أسست "جمعية الصداقة العراقية الصينية" معهداً لتعليم اللغة الصينية هو الوحيد في العراق، باستثناء إقليم كردستان، قبل أقلّ من عام.
على مقاعد الدراسة هنا طلّاب راغبون في استكمال تعليمهم في الصين وتجار يستوردون بضائعهم من هذا البلد. أما المدرّس سجاد القزاز (25 عاماً)، فقد تعلّم اللغة خلال ست سنوات درس فيها الطب بالصين.
ويقول القزاز "عندما عدت إلى العراق من الصين، وجدت أن الكثير من الناس يرغبون بتعلم اللغة الصينية".
وغالبية الطلاب تجار مثل ليث أحمد. ويقول الرجل "أملك شركة استيراد أجهزة كهربائية من الصين".
واضاف "أذهب إلى هناك دائما وأجد صعوبة بالتعامل مع الصينيين لأن غالبيتهم لا يتكلمون اللغة الانكليزية لذلك قررت أن أتعلم الصينية حتى أسهل التواصل معهم".
هدف رئيسي لمبادرة الحزام والطريق
وأفادت دراسة نشرت مؤخرا بأن العراق كان الهدف الرئيسي لمبادرة البنية الأساسية "الحزام والطريق" الصينية في 2021 إذ تلقى تمويلا قدرة 10.5 مليار دولار لمشروعات تشمل محطات توليد كهرباء تعمل بالنفط الثقيل.
وإجمالا بلغت استثمارات الصين من خلال الاستثمار والتعاون في 144 دولة تشملها المبادرة 59.5 مليار دولار دون تغيير كبير عن 60.5 مليار دولار في 2020 وفقا لتقرير مركز التمويل الأخضر والتنمية بجامعة فودان في شنغهاي.
وقالت الدراسة إن الاستثمارات في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط العام الماضي زادت بنسبة نحو 360 بالمئة والمشروعات الإنشائية بنسبة 116 بالمئة بالمقارنة بعام 2020.
وتابعت الدراسة أن العراق، الذي أنهت فيه الولايات المتحدة عملياتها العسكرية العام الماضي، أصبح ثالث أكبر شريك في المبادرة في مشروعات الطاقة منذ عام 2013 بعد باكستان وروسيا.
وتتعاون الصين مع العراق على بناء محطة الخيرات التي تعمل بالوقود الثقيل في محافظة كربلاء في العراق وفازت شركة سينوبك الصينية بعقد تطوير حقل المنصورية العراقي للغاز الطبيعي قرب الحدود مع إيران. ويتعاون البلدان كذلك لبناء مطار ومحطة طاقة شمسية ومشروعات أخرى.
وأطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013 لتعزيز الروابط التجارية مع بقية العالم وأنفقت الكثير على تطوير البنية الأساسية في عشرات الدول على مستوى العالم.
لكن منتقدين يقولون إن التمويل الذي تقدمه الصين عادة ما يكون غير مرغوب فيه ويفتقر للشفافية ويجعل بعض الدول الأكثر فقرا خاصة في أفريقيا معتمدة على الصين عن طريق الديون.
مبادرة الحزام والطريق الصينية في العالم
وتقوم مبادرة الحزام والطريق الصينية على إقامة مشاريع بتريليون دولار لتحسين العلاقات التجارية عبر العالم من خلال بنى تحتية غاية في الأهمية. ويعد انضمام الأرجنتين إليها مكسبا مهمّا لبكين وأميركا اللاتينية.
واستثمرت شركات صينية أكثر من عشرين مليار دولار في مشاريع استثمارية مباشرة غير مالية في دول مبادرة الحزام والطريق عام 2021، وفق وزارة التجارة الصينية.
وأكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن بكين لا توقع إفريقيا في فخّ الديون، وذلك أثناء جولة إفريقية يزور خلالها عدة مشاريع بنى تحتية تموّلها بلاده.
في مومباسا حيث تموّل الصين بناء محطة جديدة في قلب أكبر مرفأ في شرق إفريقيا، أكد وانغ أن القروض المرتبطة بهذه المشاريع تمثل "منفعة متبادلة"، رافضًا فكرة أن بلاده تنصب فخًّا للدول الإفريقية.
وقال للصحافيين "إنها قصة اختلقها أولئك الذين لا يريدون رؤية تطوّر إفريقيا".
وأضاف "إذا كان هناك فخّ، فهو فخّ الفقر والتخلّف".
تأتي جولة وانغ بعد وقت قصير من زيارة أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القارة السمراء وكانت مخصصة للتصدي لنفوذ الصين المتزايد في إفريقيا.
بكين هي أول شريك تجاري للقارة، مع مبادلات مباشرة فاقت قيمتها المئتي مليار دولار عام 2019، بحسب الأرقام الصينية الرسمية.
إلا أن الصين لطالما اتُهمت باستخدام وضعها كجهة دائنة لانتزاع تنازلات دبلوماسية وتجارية، ما يثير القلق من قدرة دول إفريقية كثيرة على سداد الديون المتفق عليها.
أصبحت الصين ثاني جهة دائنة لكينيا بعد البنك الدولي وقد موّلت مشاريع بنى تحتية باهظة الثمن في بلد ارتفع فيه مستوى الديون بشكل حاد في السنوات الأخيرة.
في مومباسا، يمثل بناء محطة جديدة في المرفأ استثمارًا بقيمة 353 مليون دولار.
وموّلت بكين أيضًا مشروع البنى التحية الأغلى كلفةً منذ استقلال كينيا، وهو خطّ قطار بلغت تكلفته خمسة مليارات دولار.
أثناء زيارته كينيا في كانون الثاني/يناير 2020، وصف وانغ هذا الخط بأنه "نموذج" لمبادرة "حزام وطريق" الصينية التي تموّل بكين مشاريع بنى تحتية على أساسها.
يوضح المحلل الاقتصادي والجيوسياسي أليخان ساتشو لوكالة فرانس برس أن كينيا كانت تواجه مستويات فائدة مرتفعة لتمويل استثمارات "لا تولّد أي عائد على الاستثمار في المستقبل القريب".
كما دشنت لاوس أول خط لسكك الحديدية هو واحدة من البنى التحتية التي مولتها الصين بحوالى ستة مليارات دولارات ما يرفع ديون البلاد بشكل كبير.
ويعبر الخط الذي يبلغ طوله 1035 كلم سلاسل جبال وتلال خصبة ليربط مدينة كونمينغ الصينية (جنوب شرق) بمدينة فيينتيان عاصمة لاوس.
وموّلت الصين التي تأمل في أن يصل خط القطارات إلى سنغافورة مرورا بتايلاند وماليزيا، هذا المشروع في إطار سياستها لتأمين "طرق حرير جديدة" أو "الحزام والطريق".
وهي تؤكد أن 414 كلم من المقطع الذي يمر عبر لاوس سيسمح لواحد من أفقر بلدان آسيا، بتعزيز اقتصاده الهش عبر ربطه بالسوق الصينية العملاقة.
واعترف محللون بالإمكانيات الاقتصادية التي ينطوي عليها المشروع لكنهم يتساءلون كيف ستتمكن لاوس الفقيرة بالبنى التحتية، من سداد ديونها البالغة 1,06 مليار دولار.
وكشف تقرير للبنك الدولي أن حكومة لاوس يجب أن تقوم بإصلاحات وخصوصا تحسين نظامها لإدارة الحدود، لتتمكن من الاستفادة من خط القطارات.
وقال غريغ ريموند الأستاذ في الجامعة الوطنية الأسترالية إن هناك القليل من الشفافية حول كيفية تمويل لاوس لديونها في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه نحو 110 دولارات.
واضاف أن "السؤال يتعلق بمعرفة ما إذا كان الاقتصاد (الذي ما زال زراعيا إلى حد كبير) قادرا على الاستفادة من نظام النقل هذا".
وكان لدى هذه الدولة الشيوعية وسكانها البالغ عددهم 7,2 ملايين نسمة، أربعة كيلومترات فقط من سكك الحديد.
ستعمل قطارات أنيقة باللون الأحمر والأزرق والأبيض بسرعة يمكن أن تصل إلى 160 كلم في الساعة على هذا الخط. واستغرق بناء هذا المقطع في لاوس وحده خمس سنوات وتطلب شق 75 نفقا وبناء 167 جسرا.
وقد أثر المشروع حتى الآن على نحو 4400 مزارع وقروي أجبروا على التنازل عن أراضيهم.
وقد اضطر كثيرون إلى الانتظار لفترة طويلة للحصول على تعويض أو لم يتلقوا مبالغ كافية، حسب تقرير لحركة حقوق الإنسان في لاوس.
سريلانكا والرهانات الغبية
من جهته قال رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) إن سريلانكا قامت بـ"رهانات غبية" من خلال الاستدانة من الصين، ليشرح جزئيا الأزمة التي تشهدها الجزيرة حاليا موضحا أن عليها أن تكون بمثابة تحذير للدول الأخرى التي يغريها مثل هذا التقارب مع بكين.
وأوضح بيل بيرنز خلال منتدى الأمن في أسبن في ولاية كولورادو "للصينيين نفوذ كبير ويمكنهم أن يجعلوا استثماراتهم جذابة للغاية".
وأضاف أنه ينبغي على الدول الأخرى مراقبة الوضع "في بلد مثل سريلانكا اليوم، فهي مثقلة بالديون للصين وقامت ببعض الرهانات الغبية على مستقبلها الاقتصادي، وبالتالي فهي تعاني تداعيات سياسية واقتصادية كارثية".
وتابع بيرنز أن الأزمة في سريلانكا يجب أن تكون بمثابة درس "ليس في الشرق الأوسط أو جنوب آسيا فحسب بل أيضا في كل أنحاء العالم، بالحفاظ على اليقظة بشأن هذا النوع من الصفقات".
واستثمرت الصين بكثافة في سريلانكا التي تحتل موقعا استراتيجيا في المحيط الهندي قبالة الهند التي غالبا ما تُعتبر منافسة لبكين. كما تعاونت البلاد بشكل وثيق مع الرئيس السابق غوتابايا راجابكسا.
واقترضت سريلانكا مبالغ كبيرة من الصين لمشاريع بنى تحتية اعتبر البعض أنها باهظة وليست ذات منفعة عامة فعلية.
في العام 2017، وجدت سريلانكا نفسها عاجزة عن سداد قرض يبلغ 1,4 مليار دولار لبناء ميناء في جنوبها وأجبرت على تسليم عقد إيجار الموقع لشركة صينية لمدة 99 عاما.
وقرب الميناء أيضا، يوجد مطار راجابكسا الذي أنشئ بقرض يبلغ 200 مليون دولار من الصين، لكن استخدامه المنخفض في وقت من الأوقات حال دون أن يكون مربحا بما يكفي لتغطية فاتورة الكهرباء الخاصة به.
اضف تعليق