في وسط بيروت الذي سوي بالأرض في الحرب الأهلية ارتفعت ناطحات سحاب بناها مهندسون عالميون وامتلأت المراكز التجارية الفاخرة بأسماء تجارية لامعة وكانت المتاجر تقبل الدفع بالدولار. غير أن لبنان لم يكن لديه شيء يذكر مقابل جبل الديون الذي كبر ليعادل 150 في المئة من الناتج الوطني...
هوت العملة اللبنانية لتنزل عن مستوى مهم وتسجل سعرا متدنيا جديدا مقابل الدولار، مع استمرار الانهيار المالي والأزمة السياسية في البلاد.
وقال متعاملون في السوق إنه يجري تداول الليرة اللبنانية عند حوالي 15 ألفا و150 ليرة للدولار، لتفقد نحو 90 بالمئة من قيمتها أواخر 2019، حين اندلعت الأزمة المالية والاقتصادية.
يكابد لبنان انهيارا اقتصاديا عنيفا يهدد استقراره. ووصف البنك الدولي الأزمة بأنها أعمق كساد في التاريخ الحديث. بحسب رويترز
كانت المرة السابقة التي هوت فيها الليرة إلى 15 ألفا مقابل الدولار في مارس آذار، واندلعت حينها احتجاجات في شوارع لبنان لأكثر من أسبوع وسُدت الطرق بالإطارات المحترقة.
ويُستنفد الاحتياطي الأجنبي الذي يُستخدم في برنامج دعم السلع الأساسية مثل الوقود والأدوية والقمح، وقد تفاقم نقص السلع عموما في الأسابيع الأخيرة.
وترفض بعض المستشفيات إجراء الجراحات غير الضرورية وتقتصر على الحالات الطارئة لترشيد استخدام ما تبقي من إمدادات طبية. ونظمت معظم الصيدليات إضرابا ليومين هذا الأسبوع بسبب نفاد العقاقير بينما تثير ساعات الانتظار في صفوف للتزود بالبنزين غضب سائقي السيارات مما أدى لوقوع مشاجرات.
ويتزامن الانهيار الاقتصادي مع خلافات بين الساسة بشأن تشكيل حكومة جديدة.
وثمة خلاف بين رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري والرئيس ميشال عون بشأن اختيار الوزراء منذ تكليفه في أكتوبر تشرين الأول. والحكومة السابقة مستمرة كحكومة تسيير أعمال عقب استقالتها إثر انفجار ميناء بيروت في الرابع من أغسطس آب.
ووعد مصرف لبنان المركزي المودعين، الذين حيل بينهم وبين حساباتهم منذ العام الماضي، بإمكانية سحب ما يصل إلى 400 دولار شهريا وما يوازيها بالليرة اللبنانية بسعر قريب من سعر السوق.
لكن صندوق النقد الدولي انتقد مقترح السحب من الودائع الدولارية وقانون ضبط رأس المال في لبنان الذي لم يقره البرلمان بعد، قائلا إنه لن يكون لأي منهما مغزى إلا في إطار إصلاحات أوسع نطاقا.
الاستعداد لوقف دعم البنزين
قال وزير الطاقة اللبناني إن دعم البلاد للبنزين لن يدوم وسيتوقف في نهاية المطاف.
وقال ريمون غجر بعد اجتماع برلماني “علينا أن نتعود ونقتنع أن هذا الدعم الذي استفدنا منه سنة ونصف السنة وربما لسنوات قبل، دون أن نعرف، سينتهي”.
لبنان في خضم أزمة اقتصادية عميقة تشكل أسوأ تهديد لاستقراره منذ الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
وتنفد احتياطيات البنك المركزي لتمويل برنامج يدعم السلع الأساسية مثل القمح والوقود والأدوية.
وفي الأسابيع الأخيرة، أجبر نقص الوقود قائدي السيارات اللبنانيين على الوقوف في طوابير لساعات للحصول على أي قدر من البنزين الشحيح، وهو ما صاحبه نشوب مشاجرات بين المواطنين الغاضبين. ويكلف برنامج الدعم لبنان نحو ستة مليارات دولار سنويا ينفَق نصفها على الوقود.
وقال غجر “الذي لا يستطيع أن يدفع سعر الصفيحة بسعر 200 ألف (ليرة لبنانية) سيتوقف عن استعمال السيارة وسيستعمل وسيلة أخرى”.
وأضاف الوزير أن 200 ألف ليرة، أي ما يعادل 13 دولارا بسعر السوق غير الرسمية، تعكس القيمة الحقيقية للبنزين، بينما لا يتجاوز سعره حاليا 40 ألف ليرة.
بنوك لبنان عالقة
تقوم بنوك لبنان، التي كانت محركا للاقتصاد ذات يوم عبر استقطاب ودائع بمليارات الدولارات من الخارج، بخفض الوظائف، وتشهد انكماشا في دفاتر القروض وتلاحق السيولة لكي تظل قيد النشاط.
وقال أربعة مصرفيين كبار لرويترز إن نحو ثلاثة آلاف مصرفي، أو ما يزيد عن عشرة بالمئة من قوة العمل في القطاع المصرفي، استقالوا أو خسروا وظائفهم منذ اندلاع الأزمة المالية في أواخر 2019، فيما تواصل الأرقام الارتفاع.
وتسري قيود فعلية على رأس المال، وحيل بين المودعين ومعظم مدخراتهم وهوى الإقراض للقطاع الخاص. وفي أبريل نيسان، انخفضت القروض المصرفية 25 بالمئة على أساس سنوي إلى 33 مليار دولار وفقا لمذكرة صادرة عن بنك بيبلوس.
وقال أحد المصرفيين الذي طلب عدم نشر اسمه “القطاع مات. لا يقوم بالإقراض، ولا يحقق أرباحا”.
وتواجه البنوك أكبر تحد منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الفترة بين 1975 و1990، وهو الصراع الذي أسفر عن أضرار أقل للبنوك وفقا لبعض المعايير. وكبدت الأزمة القطاع خسائر بقيمة 83 مليار دولار وفقا لتقرير حكومي صادر في العام الماضي، وهو رقم يتضاءل إلى جانبه الناتج الاقتصادي للبنان البالغ 55 مليار دولار في 2019.
وقال توفيق غاسبار الخبير الاقتصادي الذي عمل مستشارا لصندوق النقد الدولي ووزير مالية سابق “الأزمة في لبنان بالأساس انهيار مصرفي في المقام الأول”.
وشكل قطاع الخدمات المالية في لبنان، الذي كان يصور نفسه في وقت ما على أنه سويسرا الشرق الأوسط، قرابة تسعة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2018.
وبدعم من البنك المركزي الذي يعرض أسعار فائدة مغرية للدولارات الجديدة لخدمة الدين الآخذ في الانفجار في البلاد، استقطبت البنوك الودائع، على الأخص من اللبنانيين في المهجر. وحينما انهار ذلك الهيكل في 2019، تداعى الاقتصاد، وتضرر النظام المصرفي.
وقال سليم صفير رئيس جمعية المصارف اللبنانية إن البنوك الآن تصمد بفعل عوامل من بينها السيولة الناتجة عن “التخلص من المديونية”، إذ ينقل الكثير من اللبنانيين أموالهم من البنوك لسداد ديون على أفراد وأخرى خاصة بالشركات.
وقال صفير وهو أيضا الرئيس التنفيذي لبنك بيروت “في الأوضاع العادية يكون الإقراض هو عمل البنك، لكن في مثل تلك الأوضاع يمنحنا ذلك السيولة، يمنحنا هواء جديدا لمواصلة الصمود خلال الأزمة”.
وبحسب تقديره، فإن القطاع، الذي كان يوظف نحو 28 ألفا قبل الأزمة، يعمل به الآن نحو 25 ألفا.
وقدم المصرفيون الكبار الثلاثة الآخرون أرقاما مماثلة لخسائر الوظائف في القطاع، وأضافوا أن الرقم سيواصل الزيادة.
وقالت المصادر إن معظم فاقد الوظائف في قطاع التجزئة المصرفية، الذي يخدم في المعتاد أنشطة مصرفية أساسية مثل استقطاب الودائع أو بيع القروض إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة التي فقدت قوة الدفع أو ببساطة انهارت.
وتراكمت خسائر الوظائف في ظل الجمود السياسي الذي ترك لبنان بلا حكومة، بعد أن استقال مجلس الوزراء في أعقاب انفجار هائل بمرفأ بيروت العام الماضي والذي ألحق أضرارا بأجزاء كبيرة من العاصمة.
وأدى الجمود السياسي لتأخير اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو عامل حيوي في خطة إنقاذ أوسع نطاقا لإصلاح النظام المالي والاقتصادي اللبناني المتضرر.
ويقول مصرفيون ومحللون إن أي إعادة هيكلة لبنوك لبنان البالغ عددها نحو 40 يجب أن يكون جزءا من خطة إعادة هيكلة شاملة.
وقال مصرفي كبير آخر “لا توجد إستراتيجية للقطاع المصرفي. نعمل في ظل انعدام للرؤية” مضيفا أن البنوك قادرة على العمل فقط “في وضع الاستمرارية”.
وقالت وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز بعد أن تعثرت الحكومة في سداد الديون العام الماضي إن المدى الكامل للخسائر لن يتضح إلا حين تعيد الحكومة هيكلة جبل ديونها.
وأضافت ستاندرد أند بورز أن تكلفة إعادة هيكلة النظام المصرفي قد تتراوح بين 23 مليار دولار إلى 102 مليار دولار.
وأصدر البنك المركزي توجيهات للبنوك بزيادة رأسمالها الدفاعي 20 بالمئة بحلول نهاية فبراير شباط وطالب البنوك بتعزيز السيولة بنسبة ثلاثة بالمئة لدى بنوك المراسلة التي تتعامل معها.
وقال رئيس جمعية المصارف صفير إن البنوك أكملت الزيادة.
وقال “التوجيه الآخر كان بزيادة السيولة الأجنبية” مضيفا أن هذا “أكثر صعوبة إذ أنه يجب عليك تسييل بعض أصولك الأجنبية، وسيتعين على المودعين إعادة تحويل بعض ودائعهم في الخارج للبلاد”.
وقال “هذا السبب في أنه يستغرق بعض الوقت”.
كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟
يواجه لبنان أزمة اقتصادية عميقة بعد أن عملت حكومات متعاقبة على تراكم الديون في أعقاب الحرب الأهلية (1975-1990) دون أن يكون لديها ما تستند إليه مقابل انغماسها في الإنفاق.
وتعاني المصارف، التي تعد محورية للاقتصاد القائم على الخدمات، من حالة من الشلل. وقد حالت البنوك بين أصحاب المدخرات وحساباتهم الدولارية أو أبلغتهم أن قيمة الأموال التي يمكنهم الحصول عليها انخفضت. وانهارت العملة اللبنانية مما زج بقطاعات من السكان في براثن الفقر.
كيف ساءت الأمور؟
قصة انهيار لبنان المالي منذ 2019 هي قصة تعثر رؤية لإعادة بناء دولة كانت تعرف في وقت من الأوقات بأنها سويسرا الشرق بفعل الفساد وسوء الإدارة إذ أقبلت النخبة الطائفية على الاقتراض دون ضوابط تذكر.
ففي وسط بيروت الذي سوي بالأرض في الحرب الأهلية ارتفعت ناطحات سحاب بناها مهندسون عالميون وامتلأت المراكز التجارية الفاخرة بأسماء تجارية لامعة وكانت المتاجر تقبل الدفع بالدولار.
غير أن لبنان لم يكن لديه شيء يذكر بخلاف ذلك مقابل جبل الديون الذي كبر ليعادل 150 في المئة من الناتج الوطني فيما يمثل واحدا من أعلى أعباء الدين في العالم. وأصبحت محطات توليد الكهرباء عاجزة عن توفير احتياجات البلاد بينما كانت صادرات لبنان الوحيدة التي يعتمد عليها هي رأس المال البشري.
كيف اقترض لبنان هذا القدر من المال؟
وصف بعض الاقتصاديين النظام المالي في لبنان بأنه خطة احتيال منظمة على الصعيد الوطني مثل سلسلة بونزي الهرمية التي يتم فيها اقتراض المال لسداد أموال دائنين سابقين. وتفلح الخطة إلى أن تنفد الأموال الجديدة.
لكن كيف وصل لبنان الذي يبلغ عدد سكانه ستة ملايين نسمة إلى هذا الوضع؟
بعد الحرب الأهلية عمل لبنان على موازنة دفاتره بإيرادات السياحة والمساعدات الخارجية وأرباح القطاع المالي وسخاء دول الخليج العربية التي مولت الدولة من خلال تدعيم احتياطيات المصرف المركزي.
غير أن واحدا من أكثر مصادر الدولارات التي يعتمد عليها كان تحويلات ملايين اللبنانيين الذي سافروا للخارج بحثا عن عمل. وحتى خلال الانهيار المالي العالمي عام 2008 كان اللبنانيون يحولون الأموال إلى بلادهم.
غير أن التحويلات بدأت تتباطأ بدءا من 2011 عندما أدت الخلافات الطائفية في لبنان إلى مزيد من التعثر السياسي وهوى قطاع كبير من الشرق الأوسط بما فيه سوريا المجاورة في حالة من الفوضى.
وأدارت دول الخليج السنية ظهرها مع تزايد نفوذ إيران في لبنان عن طريق جماعة حزب الله المسلحة التي تزايد نفوذها السياسي.
وسجل العجز في الميزانية ارتفاعا كبيرا وازداد العجز في ميزان المدفوعات بينما فشلت التحويلات في مجاراة واردات تشمل كل شيء من المواد الغذائية الأساسية إلى السيارات الفارهة.
استمر ذلك حتى عام 2016 عندما بدأت البنوك في عرض أسعار فائدة كبيرة على الودائع الجديدة بالدولار الذي أصبح عملة مقبولة رسميا في اقتصاد مدولر وعرض أسعار فائدة أعلى بصورة غير عادية على الودائع بالليرة اللبنانية.
وفي بقية أنحاء العالم كان أصحاب المدخرات يحصلون على عوائد بسيطة.
وفي ضوء ربط العملة اللبنانية بالدولار بسعر 1500 ليرة لأكثر من عقدين وإمكانية تغييرها بحرية من أي بنك أو من محصل في سوبرماركت، لم تكن هناك أي خسارة.
وتدفقت الدولارات من جديد وأمكن للبنوك أن تستمر في تمويل انغماسها في الإنفاق.
كيف استطاعت البنوك أن تعرض هذه العوائد المرتفعة؟
كان لبنان لا يزال يعاني خللا وظيفيا في الحياة السياسية إذ تركه التناحر دون رئيس معظم الوقت خلال عام 2016.
لكن مصرف لبنان المركزي، الذي يقوده منذ 1993 المصرفي السابق في ميريل لينش رياض سلامة، استحدث عمليات “هندسة مالية” وهي مجموعة من الآليات التي وصلت إلى عرض عوائد سخية على البنوك مقابل الدولارات الجديدة.
وانعكس تحسن تدفقات الدولار على زيادة الاحتياطيات الأجنبية. لكن أمرا كان أقل وضوحا، وأصبح الآن نقطة مثيرة للجدل، هو زيادة الالتزامات. فبحسب بعض الروايات، فإن ما يدين به المصرف المركزي يمحو أصوله وأكثر، لذا قد يكون متكبدا لخسائر كبيرة.
في الوقت نفسه، ارتفعت تكلفة خدمة ديون لبنان إلى حوالي ثلث النفقات بالميزانية أو أكثر.
ما الذي أشعل فتيل الانهيار؟
عندما احتاج البلد لكبح الإنفاق، أنفق السياسيون بإسراف على زيادة أجور العاملين بالقطاع العام قبل انتخابات 2018. وأدى إخفاق الحكومة في تنفيذ إصلاحات إلى إحجام المانحين الأجانب عن تقديم مساعدات بمليارات الدولارات كانوا قد وعدوا بها.
وفي أكتوبر تشرين الأول 2019 اندلعت الشرارة الأخيرة التي أشعلت الاضطرابات في البلاد وهي خطة لفرض ضرائب على المكالمات الصوتية عبر تطبيق واتساب. وفي ظل عيش عدد كبير من اللبنانيين في الخارج ونظام الضريبة المنخفضة الملتوي لصالح الأغنياء، كان فرض ضريبة على الوسيلة التي استخدمها كثير من اللبنانيين للبقاء على تواصل مع أقاربهم أمرا كارثيا.
واندلعت احتجاجات حاشدة، بقيادة شباب محبطين يطالبون بتغيير شامل، ضد النخبة السياسية، وكثير من أفرادها أمراء حرب كبار في السن عاشوا في رخاء وازدهار فيما تكبد الآخرون الصعاب.
وجفت تدفقات النقد الأجنبي الداخلة وخرج الدولار من لبنان. ولم يعد لدى البنوك ما يكفي من الدولارات للدفع للمودعين المصطفين خارجها، فأغلقت أبوابها.
وانهارت العملة، إذ تراجعت من 1500 مقابل الدولار إلى نحو 15 ألفا في السوق السوداء في يونيو حزيران هذا العام.
ومما فاقم من المشكلات، الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس آب والذي أودى بحياة نحو 190 شخصا وسبّب خسائر بمليارات الدولارات.
ماذا يحدث الآن؟
تقود فرنسا جهودا دولية لدفع لبنان لمكافحة الفساد وتنفيذ إصلاحات أخرى يطلبها المانحون. ويحتاج لبنان بشدة إلى تشكيل حكومة جديدة حتى يتمكن من استئناف المحادثات المتوقفة مع صندوق النقد الدولي.
لكن يتعين على السياسيين والمصرفيين الاتفاق على حجم الخسائر الكبيرة والأخطاء التي حدثت، حتى يتمكن لبنان من تغيير المسار والتوقف عن الإنفاق والعيش بما يفوق قدرته على السداد.
سيريالية مالية
في مواجهة الاختيار بين إبقاء المدخرات معطلة في البنوك أو استثمارها بخسارة كبيرة يختار بعض اللبنانيين اللجوء إلى البيرة حلا للمعضلة. فبالنسبة لهم إنها الخيار الوحيد المعقول في نظام مالي شوهته الأزمة.
فقد حال انهيار الليرة اللبنانية واضطراب النظام المصرفي في أواخر 2019 وسط احتجاجات سياسية واسعة بين أصحاب المدخرات وبين ودائعهم الدولارية إلى حد كبير.
وأصبح بعضهم يرى في الاستثمار في شركات يتركز نشاطها على التصدير وسيلة للوصول إلى العملة الصعبة والاستفادة بشكل من الأشكال من الدولارات المحتجزة في مصارف لبنان والتي أصبح البعض يسمونها “لولارات”. بحسب رويترز.
ويلقى خيار مصدري المشروبات الكحولية رواجا بما في ذلك مصنعي البيرة وتجار مشروب الجن.
قال كمال فياض الرئيس التنفيذي لشركة بيرة 961 المتخصصة في تصدير البيرة اللبنانية “إذا استثمرت معي اليوم الدولارات المحتجزة سأردها لك دولارات جديدة”.
وبمقتضى القيود غير الرسمية على الأموال، يمكن للمودعين كتابة شيكات على حساباتهم المقومة بالدولار الأمريكي لكن لا يمكن استخدام هذه الشيكات في الخارج وإذا بيعت محليا فإنها تفقد 75 في المئة على الأقل من قيمتها.
ويعكس هذا الفرق الكبير محنة امتلاك دولارات محتجزة في مصارف لبنانية. وتفرض البنوك التي انخفض بشدة ما لديها من سيولة دولارية قيودا على تصرف زبائنها في أموالهم وتسمح لهم الآن بالسحب من الودائع الدولارية بالعملة اللبنانية بسعر 3900 ليرة مقابل الدولار أي حوالي ربع قيمة الدولار في السوق السوداء.
قال فياض إنه يجري محادثات مع مستثمرين لجمع ما يعادل أكثر من مليون دولار من بينها ما يتراوح بين ثلاثة وأربعة ملايين “لولار” من الدولارات المحتجزة.
وأضاف أن “المستثمرين يفضلون قبول المخاطرة معي بدلا من الاحتفاظ بالمال في البنك. على الأقل أنا أفيد الصناعة. أنا أكثر أمنا اليوم بالنسبة لهم من المصرف”.
ويعكس الاستعداد لقبول الخسارة المالية يأسا من خروج لبنان من مسار الأزمة الذي تسده خلافات سياسية فاقمها الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت العام الماضي.
وزج الانهيار الاقتصادي بنصف السكان البالغ عددهم ستة ملايين نسمة في براثن الفقر ومحا قيمة المدخرات وخفض القدرة الشرائية لدى المستهلكين بشدة.
وقد قال المانحون الدوليون إنهم لن يمدوا يد العون إلا إذا نفّذ لبنان إصلاحات كبرى لمكافحة فساد واسع النطاق غير أن جمودا مستمرا منذ قرابة عام بسبب خلافات على تشكيل حكومة جديدة يعني أن هذه الإصلاحات لا تزال بعيدة المنال.
قال توفيق غاسبار الخبير الاقتصادي الذي عمل مستشارا بصندوق النقد الدولي ومستشارا لوزير مالية سابق في لبنان “هذه فعلا سيريالية سياسية ومالية”.
وأضاف “إذا رفض المريض أن يأخذ الدواء على مدى 20 شهرا فماذا نتوقع أن يحدث له؟ بالطبع ستتدهور صحة المريض. وهذا بالضبط هو ما نشاهده في لبنان، تناقص الاحتياطيات ومزيد من الانخفاض في قيمة العملة ومزيد من أزمات نقص السلع الأساسية”.
ولم يرد مكتب كل من وزير المالية ووزير الاقتصاد على طلبات التعليق.
أزمات الاستيراد
يعتمد لبنان على الاستيراد وظل المصرف المركزي يساعد منذ سنوات في تمويل العجز التجاري بعرض أسعار فائدة مرتفعة على الودائع الدولارية في البنوك التجارية. وطبقت البنوك هذه الأسعار على زبائنها فاجتذبت طوفانا من الودائع والأرباح الوفيرة للنظام المصرفي الذي تضخمت أصوله لما يصل إلى 167 في المئة من الناتج الاقتصادي للبلاد عام 2015.
وانهار النظام عندما تخلفت الحكومة عن سداد دينها العام الماضي. وانخفضت الاحتياطيات الخارجية لدى المصرف المركزي من أكثر من 30 مليار دولار قبل الأزمة إلى حوالي 15 مليارا في مارس آذار كما أن برنامجا باهظ الكلفة لدعم أسعار الواردات يدفع الاحتياطيات القابلة للاستخدام إلى الحد الذي تكاد معه أن تنفد.
وامتد أثر نقص الواردات الآن إلى الحياة اليومية للمواطن اللبناني العادي. وأدى تشكل طوابير طويلة انتظارا للحصول على الوقود إلى وقوع اشتباكات في شمال لبنان بينما شهدت الصيدليات إضرابا لمدة يومين الأسبوع الماضي لنفاد الأدوية.
وقال هاني بحصلي نقيب مستوردي السلع الغذائية والمنتجات الاستهلاكية والمشروبات إن كثيرين من المستوردين يواجهون تأخيرات في مدفوعات الدعم من المصرف المركزي الأمر الذي أثر سلبا على تدفقات السيولة المالية.
وأضاف “من مجرد الحديث مع التجار يمكنني القول إن هناك ما بين 50 مليون دولار و100 مليون دولار من الفواتير غير المسددة عن واردات غذائية. البضائع وصلت وتم بيعها لكن المصرف المركزي لم يتول تغطيتها”.
وقال إن مثل هذه التأخيرات أصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لأن المستوردين لا يعرفون متى سيحصلون على المال ولا يمكنهم الاعتماد على المصارف في تمويل الواردات.
وأضاف “تحتاج لتمويل مشترياتك من قدرتك المالية باستخدام أموال من حساباتك الشخصية، أو بدولارات جديدة تأخذها من حسابات أجنبية”.
ولم يرد المصرف المركزي على طلب للتعليق.
وتتطلع الحكومة لإصلاح نظام الدعم غير أنها امتنعت عن إنهاء العمل به لحين موافقة البرلمان على نظام بديل يقوم على الدعم النقدي.
مزيد من الركود
تبخرت الثقة في المصارف، التي كانت في يوم من الأيام ركيزة الاستقرار، منذ تخلف الحكومة عن السداد وأصبحت فروع البنوك المحصنة بألواح معدنية هدفا للاحتجاجات.
ويقدر أن خسائر القطاع المالي أكبر دائن في الدولة تجاوزت 80 مليار دولار وفقا لتقديرات الحكومة المستقيلة العام الماضي وهو رقم يتضاءل إلى جانبه الناتج الاقتصادي السنوي في لبنان.
وحاول كثيرون من اللبنانيين، خوفا على مدخراتهم، نقل أموالهم من البنوك من خلال سداد ديون على أفراد وعلى شركات.
وقال مدير تنفيذي في شركة للخدمات المالية مقرها بيروت، مشترطا عدم الكشف عن هويته، إنه شهد ارتفاعا في طلب المستثمرين على تمويل المصدرين والمصنعين مما أسفر عن إغلاق بعض الشركات لتسهيلاتها الائتمانية المصرفية.
وقد شهد أندريه ملاك من شركة “ثري براذرز” اللبنانية المنتجة لمشروب الجن زيادة بنسبة 30 في المئة في استثماراتها الخارجية منذ الأزمة.
وأضاف “بدأنا نشهد زيادة في الاهتمام منذ بداية الركود عندما كان الناس يريدون نقل أموالهم من البنك”.
وقال مايك عازار المستشار المالي في بيروت إن نظام لبنان المالي شهد تخفيض قيمة الديون بأكثر من 20 مليار دولار منذ أكتوبر تشرين الأول 2019 وساهم استخدام الدولارات المحتجزة في سداد ديون مستحقة في تخفيض قيمة العملة إذ أن بيع الشيكات مقابل دولارات أمريكية يرفع الطلب على إمدادات لا تفتأ تتقلص.
من ناحية أخرى ينوي المصرف المركزي السماح للمودعين بسحب جزء من دولاراتهم المحتجزة من خلال خطة جديدة بحد لا يتجاوز 800 دولار شهريا نصفها بالدولار والباقي بالليرة اللبنانية بسعر صرف حكومي يبلغ حوالي 12 ألف ليرة للدولار.
وسيمثل ذلك خفضا لقيمة أموال المودعين لأن سعر الصرف في السوق السوداء يبلغ حوالي 15 ألف ليرة للدولار كما أنه يرتفع يوما بعد يوم.
وقال عازار “المصرف المركزي يريد خفض الالتزامات الدولارية في النظام وإن كان يفعل ذلك بطريقة لا تقلل الخسارة لكنه يجعلها تتبلور في شكل تخفيض في قيمة العملة ومزيد من التخفيض في قيمة الودائع الباقية ومزيد من الركود للاقتصاد الحقيقي”.
اضف تعليق