قبل أقل من عام، كانت الجزائر تستعد لمعركة قانونية مع عملاق قطاع النفط توتال الفرنسية وبدا الأمر معتادا في دولة معروفة بالبيروقراطية وصعوبة عقودها والعلاقات التي غالبا ما تكون متقلبة مع مجموعات الطاقة الأجنبية.
لكن في غضون أشهر تخلت توتال عن مساعيها مع المحكمين الدوليين ووقعت اتفاقا جديدا للغاز مع شركة الطاقة الحكومية العملاقة سوناطراك بشروط أفضل، وحينما خرج النزاع إلى النور في يوليو تموز تعهدت سوناطراك، وهي محرك الاقتصاد الجزائري القائم على الطاقة ومالية الدولة، بالدفاع عن القضية بقوة ووصفت توتال بأنها طرف ثانوي في البلد العضو بمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك).
لكن شيئا تغير، إذ توصل الطرفان في الشهر الماضي إلى تسوية بشأن شكوى توتال من أن الجزائر غيرت بنود تقاسم الأرباح في عقود النفط والغاز في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وسمح ذلك بالتوصل إلى اتفاق جديد بشأن مشروع غاز مؤجل مع توتال في الصحراء الكبرى، وهو في القلب من خطط الجزائر لتعزيز صادرات الطاقة إلى أوروبا، هذه إشارة واحدة فقط على ما صار عليه الوضع مع تدني أسعار النفط العالمية على مدار ثلاث سنوات، إذ تظهر الجزائر مرونة وإلحاحا جديدا في الوقت الذي يضع فيه نضوب إيرادات الطاقة والتنافس في سوقها الأوروبية ضغوطا على الحكومة وميزانية الدولة التي تعتمد على الطاقة في 60 بالمئة من إيراداتها.
ولا يتحدث أحد عن تغيير جذري إذ من الممكن أن يكون التغيير بطيئا في الجزائر التي يقدر قادتها قيمة الاستقرار وحيث تدير الدولة معظم الاقتصاد ويتشبث الحرس القديم بأفكار تأصلت في اشتراكية الحزب الواحد التي أعقبت الاستقلال عن فرنسا في عام 1962، وحاجة الجزائر إلى تعزيز إيرادات الطاقة ليست ملحة بذات الدرجة في بعض الدول المصدرة للنفط. فبينما تعاني الجزائر من عجز كبير في الموازنة تظل احتياطياتها من العملات الأجنبية عند نحو 100 مليار دولار، على الرغم من انخفاضها بشدة، كما أن الدين الحكومي منخفض.
بيد أن وزير الطاقة نور الدين بوطرفة لمح إلى بنود أفضل للمستثمرين الأجانب في العقود مع الاتحاد الأوروبي الساعي إلى بديل استراتيجيي للغاز الروسي بسبب توتر العلاقات مع موسكون وقال بوطرفة خلال زيارة إلى بروكسل الشهر الماضي إن الجزائر تجري محادثات مع شركات طاقة لتسليط الضوء على تفهمهم لقوانين البلاد بما في ذلك مخاوفهم المتعلقة بالضرائب ولعرض التصحيحات الضرورية.
أضاف في بيان أن الهدف هو تعزيز تطوير الشراكة معهم وجعل البلاد أكثر جاذبية لكنه لم يخض في مزيد من التفاصيل، وأصبحت سوناطراك أكثر سلاسة مع الشركاء. وقال مصدر في القطاع "هناك مرونة لم تكن موجودة قبل خمس سنوات.. هو ليس تغيرا جذريا لكنك ترى خطابا وموقفا يقول إننا لسنا سوناطراك القديمة"، ولم يرد مسؤول إعلامي لدى سوناطراك على الفور على أسئلة لرويترز بشأن التعامل مع الشركاء الأجانب وتفاصيل اتفاقية توتال.
خطأ في التقدير
يتجه إنتاج الغاز في الجزائر بالفعل صوب الارتفاع وتتوقع سوناطراك وصول الإنتاج إلى 141 مليار متر مكعب هذا العام، ارتفاعا من 132.2 مليار متر مكعب في 2016. وستبلغ الصادرات 57 مليار متر مكعب هذا العام من 54 مليار متر مكعب في 2016.
والجزائر ثالث أكبر مورد للغاز إلى أوروبا، لكن مسؤولي الاتحاد الأوروبي يتشككون في إمكانية الاعتماد عليها في الأجل الطويل بسبب توقف الإنتاج في السابق والعقود التي يشكو مشغلون أجانب من أنها تركت لهم القليل من الربح حتى عندما كانت الأسعار مرتفعة. كما أن من شأن الطلب المحلي المتزايد على الغاز لتوليد الطاقة، والذي يرجع لأسباب منها زيادة عدد السكان، تقليص حجم الإمدادات المتاحة للتصدير.
وتعاني سوناطراك من مشاكل داخلية أيضا إذ عينت رئيسا جديدا لها هو السادس في سبع سنوات. وبعد فضائح فساد، يخشى المسؤولون من اتخاذ قرارات خوفا من الوقوع في مشاكل كما أن بعض المشاريع الأجنبية دخلت في طي النسيان.
وتقول مصادر في قطاع الطاقة إن بعض المشكلات مستمرة لكن قيادة قطاع الطاقة في الجزائر بدأت ترى أنها أساءت تقدير الاستراتيجية وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بتقديرها لفترة تدني أسعار النفط والأثر السيء للإنتاج الجديد من مكامن النفط الصخري الأمريكي، وقال مسؤول تنفيذي كبير في سوناطراك لرويترز "كان هناك سوء تقدير أو دعنا نقل سوء إدارة للاحتياطي"، وقال مصدر آخر في سوناطراك إن الاتفاق الجديد مع توتال يعني أن حقل تيميمون سيجري تشغيله بموجب تعديلات عام 2013 على قانون المحروقات والذي يمنح حوافز أكثر من العقد السابق. ولم ترد توتال على طلب للتفاصيل لكنها كانت قالت إنها حصلت على "إطار عمل تعاقدي جديد" لحقل تيميمون.
وقال جيف بورتر من نورث افريكا ريسك للاستشارات "إنه مؤشر إيجابي للغاية.. هناك إحساس الآن في قطاع النفط والغاز الجزائري أنه يجب تعويض ما فات من وقت. هذا الإلحاح في عودة التنقيب والإنتاج للزيادة مجددا هو ما أدى جزئيا إلى التغييرات في قيادة سوناطراك".
إصلاحات حذرة
للتاريخ أثر كبير على الإصلاح في الجزائر. ففي ثمانينات القرن الماضي اضطر انخفاض أسعار النفط البلاد إلى الدخول في تقشف أيده صندوق النقد الدولي ولعب ذلك دورا في صعود المتشددين الإسلاميين وهو ما أدى إلى حرب أهلية دامت عشر سنوات.
وجعلت هذه التجربة قادة البلاد يحذرون. وأدت الانخفاضات اللاحقة في أسعار النفط إلى وضع خطط للخصخصة وإصلاح قانون الطاقة، لكن ذلك كان يتلاشى أو يتغير مساره بعد تعافي أسعار الخام، ومما يلقي بظلاله على أي حديث عن الإصلاح انتقال السلطة في النهاية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يعتليها منذ نحو عشرين عاما ونادرا ما يظهر علنا منذ تعرضه لجلطة في عام 2013، بالإضافة إلى سلطة تأميم الموارد.
وفي عام 2005 ضغط وزير الطاقة آنذاك شكيب خليل صاحب الفكر الإصلاحي من أجل سن قانون للنفط أكثر ملاءمة للمستثمرين لكن الرئاسة تراجعت عن ذلك في العام التالي وأقرت إجراءات تضمنت فرض ضريبة مفاجئة على الطاقة.
واضطرت الفضائح خليل إلى مغادرة البلاد لكن لم توجه له أي اتهامات بارتكاب جرائم وعاد إلى البلاد هذا العام. وعلى الرغم من أنه لا يشغل منصبا رسميا يرى بعض المراقبين يدا له في هذا التحول الظاهر في المسار.
وحين كان النفط فوق 100 دولارا للبرميل جرى التخلي عن تطوير إنتاج الغاز حول حقلي حاسي مسعود وحاسي بركين العملاقين. وعوضا عن ذلك فضلت الجزائر المناطق غير المستكشفة في مسعى للعثور على كشف كبير.
لكن تحول التركيز بعيدا عن الزيادات السريعة في الإنتاج إلى المناطق غير المستكشفة مثل تندوف قرب الصحراء الغربية لم يؤت ثماره. وقال مصدر في سوناطراك "خسرنا مليار دولار حين لم نعثر على شيء بعدما حفرنا تسع آبار في منطقة تندوف في 2014.. كنا نركز كثيرا على التنقيب وليس على الإنتاج الفوري".
وأصبحت سوناطراك أكثر حصافة مع الشركاء الأجانب إذ انتقلت إلى المفاوضات الثنائية العام الماضي بدلا من المزايدات التي تستغرق وقتا طويلا. ويمنحها ذلك مجالا أكبر لتجديد العقود وزيادة إنتاج الغاز في الأجل القصير، وقال مصدر في قطاع الطاقة "أشعر أن وزير النفط الجديد أكثر إقداما ومن المرجح أن يجعل أمورا تتحقق.. ترى شخصا يسعى لعقد صفقات".
ومن المتوقع حاليا أن تضخ الحقول في جنوب الجزائر نحو تسعة مليارات متر مكعب من إنتاج الغاز الجديد. ويشمل هذا 1.6 مليار متر مكعب من تيميمون الذي تعمل فيه توتال، و4.5 مليار متر مكعب من حقل توات الذي تديره إنجي الفرنسية و2.9 مليار متر مكعب من رقان شمال الذي تعمل به ريبسول الإسبانية. ومن المقرر أن يبدأ إنتاج حقل ايسارين الذي تشغله بتروسيلتيك في وقت لاحق.
متاعب قادمة
الوقت ليس في صالح الجزائر فيما يخص الإنتاج في الأجل الطويل. وتوقعت بي.إم.آي للأبحاث التابعة لفيتش العام الماضي أن يرتفع إنتاج الغاز 2.2 في المئة سنويا حتى عام 2020 على أن يستقر بعد ذلك.
وحتى الاحتمالات المستقبلية فيما يتعلق بالإنتاج الصخري تظل عالقة بسبب حساسيات سياسية ونقص البنية التحتية والحاجة إلى ضخ الكثير من السيولة الأجنبية والتكنولوجيا. والجزائر لديها ثالث أكبر احتياطيات من الغاز غير التقليدي في العالم.
وستتسم التنمية في كل الأحوال بالبطء. وقال مصدر بالقطاع إن الموارد "غير التقليدية هي من الموارد التي يمتلكونها وسيستغرق ذلك عشر سنوات"، وتشهد سوناطراك تغييرا مستمرا من جديد حيث عينت رئيسا تنفيذيا جديدا هو عبدالمؤمن ولد قدور في مارس آذار. وقال مصدر في الشركة "تكرار تغيير القيادة العليا في سوناطراك ليس الإشارة المثلى".
لكن بورتر أشار إلى أن بوطرفة وولد قدور كليهما مقربان من خليل، وهو تكنوقراطي تلقي تعليمه في الولايات المتحدة وعمل سابقا في البنك الدولي ورئيسا لأوبك وينظر إليه على أنه ذو تأثير إصلاحي، وقال بورتر "هناك حليفان لخليل الآن على رأس قطاع الطاقة الجزائري.. سيصبح الآن قادرا على ممارسة نفوذه على السياسة لكنه يظل بعيدا عن الأضواء".
اضف تعليق