مثل هذا العالم الذي أُعيد إليه توازنه سيحتاج إلى عدد أقل من الدولارات. وسوف يكون إنهاء النظام الحالي شديد الإرباك دون أدنى شك، وقد يتبين أن احتمال إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة محض وهم. ولكن من المهم أن نتذكر أن كلا الحزبين يعتبران هذا ضروريا. لقد بدأت عملية...
بقلم: مارك بلايث

بروفيدنس ــ مع إصرار إدارة ترمب على فرض تعريفات جمركية "مجنونة" على بقية دول العالم، يُـبدي كثيرون من المعلقين القلق إزاء مشكلة "عَـقـلَـنة اللامعقول": إسناد مبررات منطقية مقنعة إلى سياسات تفتقر إلى مثل هذه المبررات. وهم يزعمون أن مثل هذه المحاولات الساذجة تصرف الانتباه عن عمليات الخداع والاحتيال التي تتكشف أمام أعيننا. ومن المؤكد أن تحركات عائلة ترمب في مجال العملات المشفرة ــ حيث تعمل عملاتها الميمية كدعوة مفتوحة للرشوة ــ تدعم هذا التفسير. ولكن هل هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه، أو هل ينطوي الأمر على خفايا أخرى؟

لنتأمل هنا في تفسير بديل.

كان مشروع الولايات المتحدة لتعزيز التجارة الحرة العالمية مهجورا بالفعل بحلول وقت انتخابات 2016، عندما خاض كل من دونالد ترمب وهيلاري كلينتون الحملة الانتخابية على أساس معارضة الشراكة عبر المحيط الهادئ. ثم فرض ترمب تعريفات جمركية على السلع المستوردة من الصين ودول أخرى، وظل عدد كبير من هذه الرسوم باقيا أو جرى تمديد العمل بها في عهد الرئيس جو بايدن.

 يُـعَـد قانون خفض التضخم من أكثر سياسات بايدن تميزا، وكان في جوهره محاولة لتشجيع إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة في القطاعات الخضراء، والتي، بالإضافة إلى كونها محمية بتعريفات ترمب، ستحصل أيضا على إعانات دعم. من المفترض أيضا أن تعمل أحدث موجة من تعريفات ترمب الجمركية على دفع عجلة إعادة التصنيع، وإن كان ذلك التصنيع من النوعية الأكثر كثافة في استهلاك الكربون. وبالتالي، يبدو أن التجارة الحرة أصبحت خارج قائمة الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.

السبب وراء تبني الحزبين لسياسات الحماية يتعلق بالدور العالمي الذي يضطلع به الدولار في تعزيز الاختلالات التجارية البنيوية. فكما أدرك جون ماينارد كينز في عام 1944، كل البلدان تفضل أن تكون مُـصَـدِّرة صافية على أن تكون مستوردة صافية، إذا سُـمِـح لها بالاختيار. اليوم، تكسب الدول الـمُـصَـدِّرة الصافية في الاتحاد الأوروبي، وآسيا، والخليج دولارات لا قِـبَل لاقتصاداتها باستيعابها، لأن هذا من شأنه أن يرفع الأجور والأسعار المحلية، فيقوض قدرتها التنافسية. تُـعَـد الدولارات المكتسبة التزامات على البنوك المحلية، وأسهل طريقة لتحويلها إلى أصول هي شراء ديون الحكومة الأميركية، وهذا يعني فعليا إعادة الأموال النقدية إلى الولايات المتحدة حتى يتسنى لها الاستمرار في شراء الصادرات.

وهكذا، على مدار الأعوام الأربعين الأخيرة، استوردت الولايات المتحدة أي شيء تريده تقريبا عن طريق إصدار سندات دين رقمية تدفع فائدة 2% دون أن تُـسـتَـرَد أبدا، لأن أذون الخزانة هي ذاتها وسيلة الادخار التي يلجأ إليها المصدرون. هذا يعني، بين أمور أخرى، أن الولايات المتحدة لا تحكمها قيود فيما يتصل بالحساب الجاري.

ما الذي قد يجعل الولايات المتحدة راغبة في إنهاء هذه الحالة التي تبدو سحرية؟ لأن تحدي قيود الحساب الجاري، كما يزعم ماثيو كلاين ومايكل بيتيس، ينطوي في حقيقة الأمر على تكاليف طويلة الأجل. فالبلدان المصدّرة الصافية تتراكم لديها فوائض ضخمة على حساب تقويض الاستثمار المحلي والأجور المحلية، وهذا يؤدي إلى كساد اقتصاداتها، بينما "تستفيد" الولايات المتحدة من مدد بلا حدود من السلع الأجنبية الرخيصة، ولكن على حساب تفريغ قدرتها الصناعية. 

في عام 1975، كان أكبر ثلاثة أرباب عمل في الولايات المتحدة Exxon corporation، وGeneral Motors، وFord؛ وفي عام 2025، أصبح أكبر أرباب العمل Walmart، وAmazon، وHome Depot. كانت المجموعة الأولى تصنع سلعا قابلة للتداول، في حين تبيع الأخيرة الواردات محليا في الأغلب الأعم.

نظرا لهذه الآثار الطويلة الأجل، أصبحت الشخصيات البارزة في كلا الحزبين الأميركيين تعتبر "الامتياز الباهظ" الذي يتمتع به الدولار "عبئا باهظا". يرغب كل من الحزبين في "إعادة التوازن" إلى الاقتصاد الأميركي من خلال تشجيع الإنتاج المحلي، وهذا يستلزم فرض التعديل قسرا على المصدرين الأجانب للحد من طلبهم على الدولار.

ولكن لماذا لا يعلنون ذلك صراحة؟ ربما لأن الحديث عن "كونهم ضحية لعملية نهب" من قِـبَـل دول أخرى أكثر إقناعا للقاعدة الشعبية من الـحُـجَّـج حول نقاط دقيقة في السياسة التجارية. علاوة على ذلك، لا تعني حقيقة افتقار إدارة ترمب إلى خطة شاملة لإعادة التوازن إلى النظام العالمي أن إعادة الترتيب على هذا النحو ليست جارية بالفعل.

في نهاية المطاف، كان محرك التصدير الألماني متعثرا حتى قبل الجائحة. ويشير تخفيف ألمانيا مؤخرا من ضغطها على "مكابح الديون" (تحديد سقف دستوري للعجز البنيوي) واتجاهها إلى احتضان الاستثمار إلى أن إعادة التوازن نحو الاستهلاك المحلي جارية بالفعل. وسوف تضيف طفرة الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي المدفوعة بضغوط من ترمب مزيدا من الزخم إلى هذا الاتجاه، كما أن احتمال اتجاه منطقة اليورو بدرجة أكبر إلى الاستهلاك من شأنه أن يمنح المستثمرين العالميين بديلا عمليا للدولار.

أما عن الصين، فيبدو أنها أدركت أن إغراق بقية العالم بالصادرات الخضراء (المركبات الكهربائية، والألواح الشمسية، وما إلى ذلك) ليس بلا حدود. فقد اتجهت بالفعل إلى التنويع بعيدا عن السوق الأميركية، فتسبب هذا في تعظيم الحاجة إلى مزيد من الاستهلاك المحلي. من ناحية أخرى، يبدو أن بقية دول آسيا التي تعتمد على التصدير حريصة على إنشاء متاجر لها في الولايات المتحدة للحفاظ على قدرتها على الوصول إلى الأسواق.

مثل هذا العالم الذي أُعيد إليه توازنه سيحتاج إلى عدد أقل من الدولارات. وسوف يكون إنهاء النظام الحالي شديد الإرباك دون أدنى شك، وقد يتبين أن احتمال إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة محض وهم. ولكن من المهم أن نتذكر أن كلا الحزبين يعتبران هذا ضروريا. لقد بدأت عملية إعادة التوازن قبل وصول ترمب إلى المشهد، وهي مدفوعة بقوى قد تدوم طويلا بعد رحيله.

* مارك بلايث، أستاذ الاقتصاد الدولي ومدير مركز رودس للاقتصاد الدولي والتمويل في معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، هو المؤلف المشارك (مع نيكولو فراكارولي) لكتاب "التضخم: دليل للمستخدمين والخاسرين" الذي سيصدر قريباً، ومؤلف كتاب "التقشف: تاريخ فكرة خطيرة"

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق