حرية التجارة على أنها حق كل إنسان في العمل بالتجارة أو سائر الأنشطة الاقتصادية ولا يخضع في مباشرة عمله إلا للقيود الضرورية اللازمة لحماية المجتمع والقيم الأخلاقية التي تمثل النواميس الإنسانية بوصفها أساساً للتعايش المشترك، تحرير الاقتصاد من هيمنة السلطات الوطنية لاسيما في الدول المتخلفة والنامية للنهوض وتحقيق التنمية...
تباينت النظم السياسية الحاكمة في نظرتها إلى حرية التجارة بين التقييد والإطلاق حيث تبنت الدساتير مناهج شتى في التعامل مع ذلك في ضوء الفلسفة التي يؤمن بها القابضين على السلطة، بين من يرى الصلاح في ان تباح كاملة للفرد وتكون الدولة بمنأى عنها، وبين من وجدت في القطاع العام ضالتها فمنحته دون غيره الحق الكامل في الشأن الاقتصادي لتوجيهه وإتاحة الفرصة كاملة أمامه للهيمنة على التجارة والشأن الاقتصادي.
إلى ان بدأت مفاهيم العولمة تأخذ مأخذها حتى من الدول الاشتراكية بل والشيوعية حينها بدأت المفاهيم التجارية تجد طريقها إلى التحرر، والسؤال الأهم فيما تقدم متى سنصل في العراق إلى مفهوم الحياد الاقتصادي للسلطات العامة التابعة للدولة، ليكون للمواطن العراقي الحرية التامة في التجارة؟
فمن الثابت ان العلاقة طردية بين الحرية الاقتصادية والمذهب الديمقراطي وان ثمار الحياد المنشود ستظهر على النظام السياسي أولاً، وستضعف قبضة الفساد والمال السياسي وستسود مفاهيم اقتصاد السوق شيئاً فشيئاً، ما سيلقي بظلاله على إصلاح النظام التعليمي والصحي والبيئي في العراق، ومعالجة الاختلال البنيوي في النظام الاقتصادي إذ ستتجه البوصلة إلى التعليم المهني والمراكز التأهيلية والضمان الصحي، وسنشهد هجرة عكسية من الطلب غير المسبوق على وظائف الدولة إلى طلب الوظائف في القطاع الخاص، وحينها سيضطر القابض على السلطة إلى إصلاح النظام الوظيفي في القطاع العام واعتماد المهارة والخبرة بديلاً عن الشهادة والمؤهل الذي قد يتم الحصول عليه بطرق غير علمية أصلاً، فستنتشر حينها مراكز التدريب بدل الجامعات والكليات التي تعاظمت إعدادها وسعتها أضعافاً مضاعفة عن حاجة السوق الحقيقية ما تسبب ببطالة مقنعة وظاهرة، فمما لا شك فيه ان هنالك علاقة عكسية بين كفالة حرية التجارة ووظيفة الدولة الاقتصادية، فحيثما يضعف تدخل الدولة تتسع تطبيقات الحرية الاقتصادية ونشهد ازدهاراً في التنمية.
فالحرية التي ننشد تعني حرية الفرد في ممارسة العمل التجاري أو الصناعي، وعلى السلطات العامة ان لا تقف حائلاً بين الأفراد وحرية العمل بدء من حرية اختيار العمل والتدريب وانتهاءً بحرية ترك العمل وفق ما يرغبون ولا يرغم الفرد بشكل مباشر على الانخراط في عمل معين أو مهنة قد تضطره الظروف إليها وهذا ما أكده الدستور العراقي لسنة 2005 في المادة 22 التي تنص على ((العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة))، بعبارة أخرى نعني بالحرية حق الفرد في مباشرة العمل التجاري أو الصناعي أو أي نشاط هادف يتفرع عما تقدم، ما يتطلب إطلاق العنان للفرد والمجتمع عامة للعمل الحر في ميدان التبادل التجاري الوطني والدولي دون قيود من شأنها ان تعيقه في انتقال أو السفر أو العمل داخل أو خارج الحدود الوطنية أو فيما يخص نقل البضائع والخدمات والعمالة ورؤوس الأموال بين المحافظات والعالم الخارجي بعبارة أخرى ان حرية التجارة تعني ضمان الحق الكامل للفرد والمجتمع في بناء الحياة الاقتصادية.
وقد أشار المشرع الدستوري العراقي إلى أهمية تبني المعنى المتقدم في المادة الخامسة والعشرين حين صرح بأنه ((تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته))، كما أشار المشرع العراقي في قانون التجارة رقم (۳۰) لسنة ١٩٨٤ النافذ لهذا المفهوم فالعمل يعتبر تجارياً إذا وقع بقصد الربح، ويفترض هذا القصد مالم يثبت العكس، إذ أشار المشرع إلى مجموعة من الأعمال على سبيل المثال بضمنها الصناعة وعمليات استخراج المواد الأولية والاستيراد والتصدير وغيرها.
وإن تتباين النظم الحاكمة في تبنيها للنظام الديمقراطي بحسب رؤية القائمين على السلطة والتطور الذي وصلت إليه الحياة العامة ومقدار التدخل في حياة الأفراد كلها عوامل تنعكس ايجابياً أو دون ذلك على الحرية الاقتصادية، ففي الدول التي تتبنى نظام الديمقراطية السياسة ينظر إلى الحرية التجارية كحرية سلبية فلا تتدخل فيها السلطات العامة إذ تكون محايدة وغير متدخلة في الشأن التجاري أو الاقتصادي، في الوقت الذي تعد فيه حرية ايجابية في الديمقراطية الاجتماعية حيث تتدخل الدولة في توجيه الاقتصاد الوطني وتعمل على التدخل العميق في النشاط التجاري.
في المنهج الأول تعد الحرية الاقتصادية المحدد لدور الدولة إذ يقتصر دورها على حماية الحقوق والحريات الفردية دون التدخل في تنظيمها أو تحديد نطاقها بما من شأنه ان يجعل الأصل هو المبادرة الفردية كما هو سائد في النظام الليبرالي الرأسمالي، الذي يؤكد على ضرورة احترام الحريات الأساسية واعتبارها ذات طابع شخصي ومن بينها الحرية التجارية التي يحق للأفراد مزاولتها، ويرجح القائلون بما تقدم ان السبب يعود إلى القانون الطبيعي وما تبناه المفكرين في القرن التاسع عشر وعلى رأسهم الفيلسوف جون لوك وجان جاك روسو، ولقد لوحظ عملياً بأن الدول التي انتهجته أحرزت تقدماً مطرداً على جميع الصعد لاسيما الصناعية والتجارية ورافق ذلك بالنتيجة ازدهار الأنظمة الديمقراطية، فقد عدت حرية العمل والتجارة من أبرز تطبيقات الحقوق الطبيعية للأفراد ومن موجبات حياد الدولة التي يتركز جل اهتمامها بحفظ الأمن والنظام وإقامة العدل بين الأفراد.
كما يرى القائلون بهذا الاتجاه أن المصلحة العامة تتحقق عند ضمان المصالح الخاصة، لذا يذهب الفيلسوف لوك وروسو إلى أن الفرد عندما دخل في تكوين الجماعة بمقتضى العقد لم يتنازل عن كافة حقوقه، بل تنازل عن القدر الضروري الذي تستلزمه الحياة الجديدة للجماعة الناشئة واحتفظ بالحقوق والحريات الطبيعية التي ليس للدولة أن تتدخل في ممارستها عن طريق تقييدها بحجة حماية أو صيانة المصلحة العامة للجماعة.
ولقد انتقد المفهوم السلبي لحرية التجارة بكونها ستقتصر على أصحاب الثروة ورجال الأعمال والصناعة وان الواقع اثبت أيضاً أنها تسببت بإلحاق الضرر بالمصلحة العامة حيث تخلت الدولة عن الضعفاء وتعاظمت ظاهرة الفقر المدقع والمشردين وما شاكل ذلك، الأمر الذي أضطر الدولة في نهاية المطاف إلى التدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية، كما قادت السلبية المنوه عنها إلى هيمنة القوى الرأسمالية ذات النفوذ على مقاليد السلطة المدنية والعسكرية فقادت إلى الحروب الطاحنة التي انتهكت الحقوق والحريات ونجم عنها الملايين من القتلى والمتضررين.
وعلى الصعيد الآخر يبرز دور الديمقراطية الاجتماعية بوصفها تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتدعو إلى تدخل الدولة في جميع الأنشطة والقطاعات وعلى رأسها القطاع الاقتصادي لتتولى قيادته، حيث تنطلق من فكرة التدخل المخطط لقيادة المجتمع ليس على المستوى السياسي فحسب انطلاقاً من فكرة التضامن الاجتماعي التي تخول الحكومة إلزام الفرد بالعمل أو الإسهام في العمل للمصلحة العامة، ويعبر البعض عن هذه الديمقراطية بنظام الحكومة الايجابية التي تسير نحو استيعاب وظائف الدولة الحديثة لاسيما الاجتماعية والاقتصادية منها، وما رافق التقدم التكنولوجي من مخاطر على الأمن القومي، وان الفرد لا يتمتع بحقوق ثابتة ولا تعدو ان تكون تلك الحقوق إلا امتيازات عارضة تقررها الجماعة له، وبإمكان السلطة العامة التعديل عليها أو الغائها في أي وقت متى تطلبت مصلحة الجماعة ذلك.
وهكذا نفهم أن حرية التجارة وفق هذا الاتجاه الفلسفي الذي يجعل المنطلق من بوابة المصلحة العامة إذ يعد القائلون به ان منظور المصلحة العامة التي جعلت الدولة طرفاً منتجاً في الحياة الاقتصادية بشكل قد يجعل الأنشطة جميعاً محكومة بما يؤمن به الحكام، فضلاً عن منح السلطة العامة مكنة تقييد حرية تحديد الأسعار والتجارة الخارجية من دون الأخذ بنظر الاعتبار المنافسة أو عناصر السوق أو متطلبات الإقرار بأصالة وحتمية وأسبقية الحق أو الحرية، بيد ان هذا الاتجاه تعرض للنقد الشديد لكونه تسبب بموجات كبيرة من الفساد الإداري والمالي ونمواً ملحوظاً للدكتاتورية والاستبداد والإفلات من العقاب.
وبالنظر إلى الانتقادات التي وجهت إلى الآراء السابقة لاسيما فيما ذهبت إليه في مجال حرية التجارة في ظل الديمقراطيات السياسية والاجتماعية، فقد ظهر اتجاه يدعو إلى تكامل كلتا الديمقراطيتان يدعى المذهب الاجتماعي، حيث ينظر إلى الحقوق والحريات بوصفها وظائف اجتماعية، وبنفس الوقت اتسع مجال تدخل الدولة في النواحي الاجتماعية والاقتصادية بسبب الاعتقاد السائد ان الجماعة لا الفرد هدف السلطة العامة لذا بات تحقيق الرفاه العام من الوظائف الأساسية للحكومة، كما أضحى الأفراد ينظرون للدولة بوصفها أداة للخدمة العامة لا أداة للهيمنة أو الاستبداد.
ونرى ضرورة ان نفهم حرية التجارة على أنها حق كل إنسان في العمل بالتجارة أو سائر الأنشطة الاقتصادية ولا يخضع في مباشرة عمله إلا للقيود الضرورية اللازمة لحماية المجتمع والقيم الأخلاقية التي تمثل النواميس الإنسانية بوصفها أساساً للتعايش المشترك، ونشير هنا إلى الجهود التي بذلت من المنظمات العالمية كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد لتحرير الاقتصاد من هيمنة السلطات الوطنية لاسيما في الدول المتخلفة والنامية للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة والهادفة إلى ترسيخ قيم التجارة الحرة بدلاً من التجارة الحمائية.
وفي العراق نجد ان الدستور العراقي النافذ أشار المادة (110) إلى اختصاص السلطات الاتحادية بتنظيم ((أولاً: رسم السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وسياسات الاقتراض والتوقيع عليها وإبرامها ورسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية.
ثانياً: وضع سياسة الأمن الوطني وتنفيذها، بما في ذلك إنشاء قوات مسلحة وإدارتها لتأمين حماية وضمان أمن حدود العراق، والدفاع عنه.
ثالثاً: رسم السياسة المالية والكمركية وإصدار العملة وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق ووضع الميزانية العامة للدولة ورسم السياسة النقدية وإنشاء بنك مركزي وإدارته))، وما تقدم ولا شك يرسخ مفهوم الدولة المتدخلة في الاقتصاد ويحرم حرية التجارة المكفولة بموجب المادة (25) من الدستور لذا نجد لزاماً علينا الدعوة إلى تحرير حرية العمل والتجارة ولبلوغ هذه الغاية لابد من العمل الدؤوب على إصلاح النظام الاقتصادي.
اضف تعليق