قد ينمو السوق وينتعش بدون مؤسسات ولكن بلا شك يبقى نموه وانتعاش محفوف بالمخاطر غير الاقتصادية، أي يكون عرضة للكبح في أي وقت، لكن في ظل وجود المؤسسات الراسخة سيكون في مأمن من أي محاولات للكبح. المؤسسات تمثل البيئة الحاضنة والحامية للسوق من أي مخاطر غير اقتصادية قد تعصف...

هناك علاقة وثيقة بين المؤسسات والسوق، حيث يعزز موقف كل منهما الآخر، فهل هي كذلك في العراق؟

اتجه العراق نحو تبني السوق والمؤسسات بعد 2003، مما يعني ان كل منهما يعزز موقف الاخر، باعتبار ان كل منهما ينمو وينتعش مع الاخر، وهذا ما سيتضح من خلال هذا المقال.

المؤسسات 

حيث تعاني المؤسسات بشكل عام والاقتصادية بشكل خاص من نقص الفاعلية والاستقلالية مما أثرت بشكل مباشر على اداء مهامها واهدافها.

أي أن المؤسسات لازالت على المستوى المهني قليلة الخبرات ولم تصل بعد لمرحلة النضوج لتتخذ قرارات ناضجة فيما يتعلق بمهامها واهدافها.

كذلك على المستوى الاداري، حيث لم تصل لمرحلة اتخاذ القرارات بشكل مستقل، أي لازالت أسيرة التدخلات السياسية وغيرها، مما ينعكس الأمر بشكل تلقائي على اداءها واهدافها.

ولا يحتاج الأمر كثيراً لأثبات مدى ضعف المؤسسات في العراق، إذ يمكن معرفة ذلك من خلال أمرين وبسهولة:

الاول، التقارير الدولية، مجرد الدخول لمواقع التقارير الدولية ذات العلاقة ستجد العراق في الربع الاول في المؤشرات السلبية، والربع الاخير في المؤشرات الايجابية.

الثاني، المشاهدة الواقعية، أي عند السير في الطرق العامة والمدن ومراجعة الدوائر الحكومية ستكتشف حجم المعاناة التي يعاني منها المواطن على مستوى الكرامة والكلفة والوقت وعدد الاجراءات.

بعبارة أخرى، ان المؤسسات في العراق كواقع غير فعالة وغير مستقلة، مما يعني ان قراراتها متحيزة لا مهنية.

السوق

اتجه العراق بعد 2003 نحو نظام السوق والقطاع الخاص، أي اتجه نحو الحرية الاقتصادية ملكيةً ونشاطاً، وابتعاده عن نظام التخطيط والدولة.

حيث اقرَّ الدستور العراقي التوجّه الاقتصادي الجديد في العديد من موادّه كالمادة 25 "تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصاديةٍ حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته".

والمادة 24 " تكفل الدولة حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال العراقية بين الأقاليم والمحافظات، وينظم ذلك بقانون" والمادة 112 ثانياً " تقوم الحكومة الاتحادية والاقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق اعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار".

على الرغم من اقرار الدستور العراقي التوجّه نحو اقتصاد السوق ومغادرة نظام الدولة في إدارتها للاقتصاد مركزياً إلا إن الكثير من المعطيات تشير إلى إن الاقتصاد العراقي لايزال يراوح مكانه ولم يفلت من شباك الدولة بعد، لكنه بشكل عام هو على سكة الانتقال الاقتصادي حتى ولو تطلب الامر وقتاً طويلاً.

معطيات

ومن أبرز تلك المعطيات هي احتكار الدولة لكثير من وسائل الانتاج وأهما الارض، فهي تملك ما يزيد على 80% من الاراضي في العراق وان المتبقي منها 20% والمملوك من قبل الاهالي يتكون في جزئه الاعظم من الاراضي السكنية.

 وكذلك تملك الدولة الثروة النفطية في باطن الارض، التي أصبحت عماد الاقتصاد العراقي انتاجا واستهلاكاً وتصديراً واستيراداً وايراداً وانفاقاً، وهذا ما يعني ان النفط أصبح وسيلة ربط الاقتصاد العراق بالدولة من جانب واعتياش القطاع الخاص على ما تقوم به الدولة بواسطة الثروة النفطية من جانب اخر فأصبح دوره دور هامشي وليس أساس في الاقتصاد، وهذا ما يتنافى والتوجّه الجديد.

كما إن تعقد بيئة ممارسة الأعمال أسهمت في صعوبة تحرك القطاع الخاص العراقي من حيث ممارسة نشاطه بحرية وانسيابية، وذلك لوجود الكثير من المعرقلات التي تقيد نشاطه ابتداءً ببدء النشاط التجاري وانتهاءً بالإعسار وتصفية النشاط، وبهذا الصدد أوضح البنك الدولي ان العراق احتل المرتبة 172 من بين 190 اقتصادا عام 2020 في مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال على المستوى العالمي، وهذا ما يكشف عن سوء بيئة الاعمال فيه واصبحت بيئة طاردة للأعمال.

العلاقة بينها

السؤال الذي يوضح مدى أهمية العلاقة بينهما هو هل يمكن أن ينمو السوق وينتعش بدون مؤسسات؟ وهل يمكن أن تنمو المؤسسات وتنتعش بدون السوق؟

قد ينمو السوق وينتعش بدون مؤسسات ولكن بلا شك يبقى نموه وانتعاش محفوف بالمخاطر غير الاقتصادية، أي يكون عرضة للكبح في أي وقت، لكن في ظل وجود المؤسسات الراسخة سيكون في مأمن من أي محاولات للكبح.

بمعنى ان المؤسسات تمثل البيئة الحاضنة والحامية للسوق من أي مخاطر غير اقتصادية قد تعصف بالسوق ومخرجاته، فمن مصلحة السوق واستدامته وجود مؤسسات راسخة.

وكذا الحال بالنسبة للمؤسسات، قد تنمو المؤسسات بدون السوق لكن هذا النمو سيكون شكلياً لا جوهرياً، أي لم تأخذ دورها الحقيقي في اصدار القرارات المهنية النابعة من ذاتها.

لان المؤسسات بدون سوق يعني انها ترتبط بالتخطيط والحكومة وفي هذه الحالة انها تفتقد للاستقلالية والفاعلية وهذا ما يؤثر على جودة قراراتها.

لذلك المؤسسات تنمو وتنتعش مع السوق أكثر من التخطيط، لان السوق يسهم في تمويل المؤسسات دون أن يؤثر على جوهر عملها، من حيث الاستقلالية والفاعلية؛ أي ان السوق يحافظ على قالبها وقلبها معاً بينما التخطيط يحافظ على قالبها دون قلبها.

علاقتهما في العراق

عموماً، وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول ان المؤسسات لم تعزز موقف السوق في العراق، كذلك ان السوق لم يعزز موقف المؤسسات، وذلك بحكم ضعف المؤسسات والسوق كما اتضح أعلاه.

وان سبب ضعف المؤسسات والسوق في العراق هو الشمولية، لان الاخيرة تعمل على توظيف المؤسسات والسوق لصالحها وبما يعضد موقفها مما يعني فقدان استقلاليتهما وافراغهما من محتواهما، فتكون أهدافهما سياسية بالدرجة الاولى لا مهنية.

ونظراً لسيادة الشمولية لمدة ليست بالقليلة في العراق، أسهمت في نشوء مجتمع ذو ثقافة شمولية لا تؤمن بالديمقراطية والمؤسسات والسوق، اداةً وثقافةً؛ وأصبحت فيما بعد عائقاً رئيس أمام المؤسسات والسوق معاً في العراق.

خطوات العمل

ولأجل العمل على اعادة العلاقة الوثيقة بينهما، ينبغي العمل على تفكيك الثقافة الشمولية المتصلبة وزراعة الديمقراطية محلها ابتداءً من رياض الاطفال مروراً بالمدارس وانتهاءً بالجامعات.

كذلك العمل على بناء المؤسسات القوية من خلال تعزيزها بالخبرات الكافية ومنحها الاستقلالية في اداءها لأجل تحقيق أهدافها بجدارة.

كما ان من الضروري العمل على تجذير اقتصاد السوق وذلك من خلال إطلاق الملكية الخاصة واعتماد الحرية الاقتصادية كمسار لانطلاق الاقتصاد والمنافسة كضابط ايقاع لأداء الاقتصاد.

ايضاً من المهم رسم دور الدولة في ظل تبني السوق والمؤسسات، لمنع الفوضى والتأثير على السوق والمؤسسات عند عدم معرفة الدور المطلوب منها.

خلق بيئة استثمارية محفزة وجاذبة من خلال توجيه الثروة النفطية نحو البنية التحتية وتبسيط الاجراءات الادارية وتخفيض كلفة ووقت انجازها، لاستقبال وترسيخ السوق والمؤسسات بشكل أكثر.

ايلاء الجانب الاعلامي مزيد من الاهتمام في توعيه المجتمع بمدى أهمية السوق والمؤسسات وكيفية انعكاسهما على عليه ليستقبلهما ويتفاعل معهما ويكسب اثارهما.

خلاصة القول، عدم وجود تفاعل حقيقي لكل منهما وبينهما (السوق والمؤسسات) لأسباب تتعلق بالشمولية ثقافةً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مما يتطلب العمل على تفكيك الشمولية وزرع الديمقراطية وتقوية المؤسسات وتجذير السوق وتحديد دور الدولة وخلق بيئة استثمارية وتفعيل الجانب الاعلامي.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2024

www.fcdrs.com

اضف تعليق