إن (عِمَارَةَ بِلَادِهَا) و(اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) مكون أساس في زيادة الإنتاجية، التي تنتج زيادة النمو وخفض التكلفة الحدية للإنتاج وخفض التضخم وزيادة القدرة على التصدير والمنافسة وغير ذلك من عوامل ازدهار الاقتصاد، ولا يمكن ذلك كله إلا عبر توفير الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والمحسِنين، مؤسسات البنى التحتية ونظم المواصلات...
تشكّل نصوص الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حينما ولّاه حكومة مصر، المدخل والمفتاح الرئيس للإحاطة بمنظومة فكرية وقيمية متكاملة تعكس المبادئ والمنطلقات والأسس العامة للتنمية الاقتصادية، البشرية، البيئية والمستدامة في منهجه (عليه السلام)، وتلقي الضوء الكاشف على مقوماتها وأركانها.
إن (عِمَارَةَ بِلَادِهَا) و(اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) مكون أساس في زيادة الإنتاجية، التي تنتج زيادة النمو وخفض التكلفة الحدية للإنتاج وخفض التضخم وزيادة القدرة على التصدير والمنافسة وغير ذلك من عوامل ازدهار الاقتصاد، ولا يمكن ذلك كله إلا عبر توفير الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والمحسِنين، مؤسسات البنى التحتية ونظم المواصلات وأمن الطرق وغير ذلك مما سبق، إضافة إلى توفير الخدمات الإنسانية والمؤهلات الإدارية والتنظيمية والصحية والتربوية التعليمية والتدريبية وغيرها مما يرفع الكفاءة الإنتاجية لعامة الناس.
فإن (الإنتاجية ليست كل شيء، لكنها على المدى البعيد كل شيء تقريباً. فقدرة البلد على تحسين مستويات معيشتها بمرور الزمن تعتمد بشكل كامل تقريباً على قدرتها على رفع المخرجات التي ينتجها كل عامل)(1)، والمشكلة الكبرى في تباطؤ الإنتاجية أنها تؤثر على انخفاض الأجور الحقيقية، حيث تنتج التضخم الذي يلتهم قسماً من القوة الشرائية كما دلت التجارب على ذلك.
ومن الملاحظ أن الدول المتخلفة تختلف عن الدول المتطورة في انخفاض كفاءتها الإنتاجية في المجالات الاقتصادية والتنظيمية والإدارية والخدمية والصحية وغيرها.
بل وفوق ذلك فإن انخفاض الإنتاجية، بل وتراجعها المستمر، يعد إحدى سمات العصر وظواهره المقلقة حتى في الدول المتطورة، وكما قال بعض علماء الاقتصاد: (بالنظر لأهمية الإنتاجية بالنسبة لمستويات المعيشة، فإن الكثيرين من علماء الاقتصاد ينظرون بقلق إلى الهبوط الحاد في نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة التي حدثت عام 1973م. ويطلق على انكسار هذا التوجه اسم تباطؤ الإنتاجية (Productivity slowdown)، ويمكن رؤيته في الشكل 31ـ1.
الصناعات التحويلية
يرسم هذا الشكل توجه التنمية سواء بالنسبة لقطاع الأعمال ككل أو لإنتاجية اليد العاملة (Labor productivity) (ك/ع)، التي تقيس مجموع المخرجات المنتجة في حقل ما مقسمة على عدد الساعات ـ الأفراد التي استُغلت في ذلك القطاع. من الواضح أن إنتاجية الأيدي العاملة بدأت في التباطؤ منذ بداية السبعينات. ونظرة متمعنة إلى البيانات تبين أن الإنتاجية قد انخفضت فعلاً في جميع قطاعات الاقتصاد. ومن بين القطاعات التي شهدت أكبر تراجع في الإنتاجية قطاعات التعدين، والإنشاءات، والخدمات. وأصابت أنماطا مشابهة من التباطؤ في نمو الإنتاجية قطاعات الأعمال عامة في معظم الدول الصناعية بعد العام 1973م.
يبين الجدول 33ـ4 تأثير تراجع الإنتاجية على الأجور الحقيقية. الذين دخلوا القوى العاملة بعد الحرب العالمية الثانية خبروا نمواً صحياً في الأجور الحقيقية، في حين خبر العامل العادي نمواً بطيئاً للغاية في مستويات المعيشة خلال العقدين الماضيين.
الإنتاجية والأجور الحقيقية
الجدول 33 ـ 4. الأجور الحقيقية مرآة لنمو الإنتاجية، على المدى الطويل، تميل الأجور الحقيقية إلى التحرك وفق توجهات إنتاجية اليد العاملة. وبعد تباطؤ الإنتاجية في العام 1973م، أصاب الركود الأجور الحقيقية. (المصدر: وزارة العمل الأمريكية، الإنتاجية تتعلق بقطاع الأعمال في الولايات المتحدة؛ التعويضات الأسمية قلصت باستخدام مثبط الاستهلاك للنفقات الاستهلاكية الشخصية)(2).
العوامل الأربع لتباطؤ الإنتاجية
وما دامت الإنتاجية بهذا المستوى من التأثير والأهمية فلابد من البحث عن عوامل انخفاضها، و(تشير الدراسات التي تناولت الإنتاجية إلى عدد من العوامل غير المواتية التي تراكمت على الاقتصاد الأمريكي، وفي وقت واحد تقريباً، وتشمل التالي:...(3)
ومن العوامل المذكورة في دراسات تباطؤ الإنتاجية:
1 ـ انخفاض مستوى الإنفاق على عمليات البحث والتطوير المدنية.
2 ـ وتراجع الاستثمار في المنشآت والمعدات.
3 ـ وهبوط الإنفاق على البنية التحتية العامة.
4 ـ وارتفاع التضخم، إلا أن هذه العوامل كلها لا تفسّر سوى جزء من أسباب التباطؤ)(4).
مفاتيح حل معضلة تباطؤ الإنتاجية
ويمكننا أن نجد بوضوح الإشارة في النصوص العلوية إلى روح الحلول المفتاحية للأسباب الأربعة الأخيرة لتباطؤ الإنتاجية، وإن كانت قد طرحت أحياناً بمصطلحات أو بالصيغة التي تناسب ذلك العصر، لكنها تتضمن عبارات وحلولاً مفتاحية عامة لا يشذ عنها زمان وعصر مهما تطور أو تغيّر، وهذه الحلول المفتاحية تندرج بأجمعها تحت إطار: (اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا) و: (عِمَارَةَ بِلَادِهَا) وهي:
أ ـ تحمّل الحكومة مسؤولية أعمال البحث والدراسة والتطوير الذي يشكّل العامل الأول لزيادة الإنتاجية، مستعينة في ذلك بآليتي الاستطلاع والاستبيان من العلماء والخبراء الميدانيين والمعنيين، وذلك في قوله (عليه السلام): ("فَاجمَع إلَيكَ أهلَ الخَراجِ مِن كُلِّ بُلدانِكَ، ومُرهُم فَليُعلِموكَ حالَ بِلادِهِم، وما فيهِ صَلاحُهُم ورَخاءَ جِبايَتِهِم، ثُمَّ سَل عَمّا يَرفَعُ إلَيكَ أهلُ العِلمِ بِهِ مِن غَيرِهِم")(5)، وقوله (عليه السلام): (وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ؛ "فَإِنَّ ذلِكَ يُحِقُّ الحَقَّ ويَدفَعُ الباطِلَ، ويُكتَفى بِهِ دَليلاً ومِثالاً")(6)(7).
ب ـ ج: كما نجد النص الصريح الذي يوجّه بتصدي الحكومة لحل المشكلتين المطروحتين في العامل الثاني والثالث، عبر زيادة الاستثمار في المنشآت والمعدات وزيادة الإنفاق على البنية التحتية العامة: في قوله (عليه السلام): (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ)، فإنه بإطلاقه يعمّ هذين العاملين وغيرهما أيضاً، وقوله (عليه السلام): (وإن سَأَلوا مَعونَةً عَلى إصلاحِ ما يَقدِرونَ عَلَيهِ بأموالِهِم، فَاكفِهِم مَؤونَتَهُ)(8)، وذلك زائداً على خفض الضرائب الذي أشار (عليه السلام) إليه بقوله: (فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شُرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ، أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ)(9).
الطرق الأربع لخفض التضخم
د ـ وأما العامل الرابع وهو (خفض التضخم) فإن من المعروف أنه يكون تارة: عبر (كثرة العرض)، وأخرى: عبر (خفض الطلب)، وثالثة يكون: عبر (منع الاحتكار) والتسعير العادل، ورابعة: عبر (خفض عرض النقد)، وفي الأحاديث والروايات حديث عن ذلك كله، كما سنفصله في بحث التضخم من الكتاب القادم بإذن الله تعالى، ويكفي هنا أن ننقل بعضها:
أما الأول، فإنه (عليه السلام) أشار إلى بعض من أهم أسباب زيادة العرض في قوله (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً؛ الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ)، و: ("فَاحفَظ حُرمَتَهُم، وآمِن سُبُلَهُم، وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم"(10)؛ فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ)(11)، وذلك يعني توفير المناخ الآمن للتجارة والاستثمار، والقضاء النزيه، والرعاية بمختلف معانيها ومصاديقها، فإن ذلك كله يضمن توفر السلع والخدمات وتدفق الإنتاج وغزارته وزيادة المنافسة الإيجابية والقضاء على الفساد الإداري والمالي الذي يزيد التكلفة الحدية للإنتاج، وذلك كله مما يؤدي بدوره إلى انخفاض الأسعار والتنزل.
وأما الثاني (خفض الطلب) فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (كَفى بِالْمَرْءِ كَيْسا أَنْ يَقْتَصدَ في مَآرِبِه وَيُجْمِلَ في مَطالِبِه)(12)، ولنتصور أثر ذلك كله على مستوى الاقتصاد الكلي والشعب، وقال الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): (لَا تُجَاهِد الطّلب جِهَاد المغالب، وَلَا تتكل اتكال المستسلم؛ فَإِن ابْتِغَاء الْفضل من السّنة، والإجمال فِي الطّلب من الْعِفَّة)(13)(14).
أما الثالث فقوله (عليه السلام): (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ، فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ، وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ)(15).
وأما الرابع، ففيما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عندما سئل عن الدراهم والدنانير فأجاب: (هِيَ خَوَاتِيمُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، جَعَلَهَا اللَّهُ مَصَحَّةً لِخَلْقِهِ، وَبِهَا يَسْتَقِيمُ شُئُونُهُمْ وَمَطَالِبُهُمْ)(16)(17)، ومما ذكرناه في الكتاب السابق: (ولنشِر الآن إشارة عابرة إلى الرواية الشريفة، على أن نفصل البحث عنها في المجلد الخاص بالنقود، ثم نعود لإكمال البحث عن الآية الشريفة:
فإن قوله (عليه السلام): (جَعَلَهَا اللَّهُ مَصَحَّةً لِخَلْقِهِ، وَبِهَا يَسْتَقِيمُ شُئُونُهُمْ وَمَطَالِبُهُمْ)، يستبطن كافة الأدوار التي تقوم بها الأموال في حياة المجتمع، إضافة إلى تضمنه حقيقتها: فالأموال هي (مصحة للخلق)، أي إن هذا هو دورها الأساسي الذي أوجدت من أجله، وذلك عبر زيادة التشغيل والعمالة الناتجة عن زيادة عرضها، كما توصّل إليه جون مينارد كينز لاحقاً، وعبر دورها، إذا تم إصدارها باعتدال، دون كَنْزٍ من جهة، ودون إسراف وتبذير من جهة أخرى، متناسباً مع إجمالي المنتجات والتعاملات، في توازن الأسعار، مع معدل ثابت لسرعة دورانها، كما توصل إليه فيشر لاحقاً.
كما أنها (مصحة للخلق) بكونها مقياساً للقيم ووسيلة للتبادل، كما تستقيم شؤونهم بكونها مخزناً للقيمة)(18).
اضف تعليق