في حين تميل الاقتصادات الأكثر ثراء إلى أن تكون أكثر جاهزية لأنشطة الأعمال، فإن أي دولة لا تحتاج إلى أن تكون ثرية لخلق بيئة عمل جيدة. فبين الاقتصادات الخمسين التي جرى تقييمها هذا العام، احتلت اقتصادات نامية عديدة مكانا بين أفضل عشر دول في عدة فئات: رواندا للخدمات...
بقلم: إندرميت جيل

واشنطن، العاصمة- كلما بدا الأمر وكأن الاحتمالات تتراكم ضد التقدم البشري ــ عندما يكون من المنتظر أن يظل النمو الاقتصادي ضعيفا، وعندما يبدو أن كثيرا من البلدان محكوم عليها بالشيخوخة قبل أن تصبح غنية، وعندما يبدو تغير المناخ خارجا عن نطاق السيطرة ــ من الجدير بنا أن نتذكر الفضيلة المتميزة التي يتمتع بها نوعنا. الواقع أن الإبداع البشري هو السبب وراء عدم تحقق نبوءات الهلاك العالمي، التي انتشرت على مدار تاريخنا.

كان الإبداع هو الذي أبطل مفعول ما يسمى "القنبلة السُـكّانية"، التهديد الذي ظهر في سبعينيات القرن العشرين ومفاده أن "مئات الملايين من الناس" سوف يتضورون جوعا حتى الموت مع تسبب النمو السكاني السريع في استنفاد الإمدادات المحدودة من الغذاء. ما حدث بدلا من ذلك، هو أن الابتكارات الزراعية مثل المحاصيل العالية الغلة المقاوِمة للآفات ساعدت في نمو إنتاج الغذاء العالمي بسرعة أكبر من النمو السكاني في كل جزء من العالم تقريبا. على نحو مماثل، كان الإبداع البشري هو الذي وضع الأمراض القاتلة ــ من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز إلى كوفيد-19 ــ تحت السيطرة. وإذا تسنى لنا ترويض تغير المناخ بحلول منتصف هذا القرن، فمن المؤكد أن الإبداع البشري سيكون العامل الرئيسي وراء ذلك.

لكن التقدم نادرا ما يأتي ثمرة للحظة "اكتشاف مفاجئ". بل إن الإبداع البشري يثمر عندما تتصرف الحكومات والمؤسسات الخاصة والأفراد بطرق تعود بالنفع على مجتمعات بأكملها على نحو ثابت بمرور الوقت. تعتمد مثل هذه النتائج على الظروف المواتية، التي ترعاها مجموعة مناسبة من القواعد والممارسات. إدراكا منا لحقيقة مفادها أن التنمية الاقتصادية المستدامة تعكس عادة نجاح الأعمال على مستوى النظام بالكامل، فإننا في مجموعة البنك الدولي نَـصِـفُ هذه الظروف على أنها "مناخ الأعمال" أو "البيئة المواتية للأعمال".

ولكن لفترة طويلة كنا نركز بدرجة أكبر على ما تستطيع الحكومات تقديمه لصالح الأعمال بدلا من التركيز على ما تستطيع الحكومات والشركات معا تقديمه لصالح الجميع. وعلى هذا، ففي خطوة أولى حاسمة لتصحيح الخلل، يسعى تقريرنا الجديد "الجاهزية لأنشطة الأعمال" إلى بناء لوحة تحكم شاملة تسمح لأي شخص بحلول عام 2026 بالوصول إلى الإعدادات الدقيقة اللازمة لتنمية القطاع الخاص النابض بالحياة عبر 180 اقتصادا. باستخدام هذه الأداة، يصبح بوسع صناع السياسات البدء في خلق الظروف اللازمة للحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك، والتعجيل بالانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون.

يتلخص الهدف من هذا في تشجيع المنافسة الصحية بين الشركات والبلدان، وتثبيط "السباق نحو القاع" (أحد العواقب غير المقصودة لـ "ممارسة الأعمال"، أو جهودنا السابقة لمساعدة البلدان على تهيئة الظروف المناسبة لتنمية القطاع الخاص). يُـدرِك إطارنا التحليلي الجديد أن بيئة الأعمال الصحية لا تقتصر على "سهولة ممارسة الأعمال". وهو يضع في الحسبان احتمال أن يؤدي خفض "تكلفة ممارسة الأعمال" عن غير قصد إلى زيادة التكاليف التي يتحملها المجتمع ككل.

وعلى هذا فإن تقرير "الجاهزية لأنشطة الأعمال" لا يكتفي بتقييم العبء التنظيمي الملقى على كاهل الشركات ــ على سبيل المثال، المدة التي يستغرقها بدء عمل تجاري ــ بل يتصدى أيضا لتقييم جودة الضوابط التنظيمية. فهل تحمي قوانين العمل العمال من الفصل التعسفي؟ هل تجعل النساء العاملات أقل قدرة على المنافسة من الرجال وتثنيهن عن البحث عن عمل؟

إلى جانب تقييم القواعد والضوابط التنظيمية التي تحكم الأعمال، يدرس تقرير الجاهزية لأنشطة الأعمال الخدمات العامة اللازمة لتحويل النوايا إلى واقع حقيقي. فهل توفر المرافق العامة المياه والكهرباء على نحو يمكن التعويل عليه؟ وهل تعمل الحكومات على تسهيل سعي الشركات إلى الوفاء بالتزاماتها الضريبية والامتثال للضمانات البيئية والاجتماعية؟

النتيجة مجموعة من البيانات المفصلة إلى حد مذهل تشمل ما يقرب من 2000 نقطة بيانات لكل اقتصاد. الآن، يستطيع المرء أن يركز، على سبيل المثال، على مدى تكرار انقطاع التيار الكهربائي الذي تعاني منه الشركات، أو المدة التي يستغرقها تقديم الإقرارات الضريبية ودفع الضرائب، أو متوسط تكلفة تسوية نزاع تجاري. ونظرا لعدم توفر بيانات قابلة للمقارنة من هذا القبيل في أي مكان آخر، فإن تقرير الجاهزية لأنشطة الأعمال يشكل منفعة عامة أساسية. والكنز من الرؤى والأفكار التي يقدمها كفيل بتمكين الشركات من اتخاذ قرارات أفضل حول مكان وكيفية أداء أعمالها، وحفز الحكومات على تبني سياسات أفضل من خلال التعلم من بعضها بعضا، ومساعدة الباحثين في كل مكان على الانضمام إلى الجهود الرامية إلى تنمية القطاع الخاص العالمي على النحو الصحيح.

في حين يغطي إصدار هذا العام 50 اقتصادا فقط، فإن إصدار العام المقبل سيشمل 100 اقتصاد، وسوف يتوسع نطاق تغطيتنا في عام 2026 ليشمل نحو 180 اقتصادا. ومع كل تكرار، سنعمل على تحسين تصميم التقرير وطرائقه بحيث يعكس الدروس المستفادة. ولكن لِـم لا ننتظر إلى أن نتقن الأساليب قبل نشر البيانات؟ الأمر ببساطة أن العالَـم لا يملك تَـرَف إهدار الوقت ــ فالتنمية المتأخرة هي حرمان من التنمية ــ ويشكل استخلاص المردود من المستفيدين المقصودين من التقييم جزءا كبيرا من التقييم على النحو الصحيح. في كل الأحوال، في اقتصاد عالمي ديناميكي، ستكون الدقة دائما هدفا متحركا.

والبيانات والأساليب المستخدمة في تقرير الجاهزية لأنشطة الأعمال أكثر دقة وشفافية من تلك المستخدمة في تقرير ممارسة الأعمال. فهي توحد آراء وأحكام أكثر من 2500 خبير في مناخ الأعمال، فضلا عن استجابات أكثر من 29 ألف شركة مساهمة في الاستطلاع. وهي أكثر شمولا من أي شيء حاولت مؤسسة دولية القيام به حتى الآن، كما أنها ذات قيمة فورية للاقتصادات الخمسين التي يغطيها التقرير. علاوة على ذلك، فإن كل البيانات التي جرى جمعها لهذا التقرير متاحة الآن للجمهور ــ ويمكن التحقق منها ــ على موقعنا على الإنترنت.

يقودنا تحليل بيانات هذا العام إلى ملاحظتين عامتين. فأولا، ينطوي التنفيذ على فجوة كبرى. إذ تميل البلدان إلى استنان الضوابط التنظيمية بشكل أفضل لتحسين مناخ الأعمال الوطني مقارنة بقدرتها على توفير الخدمات العامة اللازمة لضمان التقدم الفعلي. ما يدعو إلى التفاؤل هنا أن الفجوة تتقلص عندما تتحسن جودة الضوابط التنظيمية.

ثانيا، في حين تميل الاقتصادات الأكثر ثراء إلى أن تكون أكثر جاهزية لأنشطة الأعمال، فإن أي دولة لا تحتاج إلى أن تكون ثرية لخلق بيئة عمل جيدة. فبين الاقتصادات الخمسين التي جرى تقييمها هذا العام، احتلت اقتصادات نامية عديدة مكانا بين أفضل عشر دول في عدة فئات: رواندا للخدمات العامة والكفاءة التشغيلية؛ وكولومبيا لإطارها التنظيمي وخدماتها العامة؛ وجورجيا لإطارها التنظيمي وكفاءتها التشغيلية.

يشير هذا إلى أن أغلب البلدان قادرة على تحقيق التقدم، وأن الحكومات يجب أن تكثف جهودها لتصبح جاهزة لأنشطة الأعمال. ولكن ينبغي لها أن تفعل ذلك ليس فقط لكسب حقوق المفاخرة الوطنية أو ملاحقة الوعد غير المؤكد بزيادة كبيرة في الاستثمار الأجنبي. فالمكافآت أكثر اتساعا بدرجة كبيرة. فعندما تُـخـتار إصلاحات الأعمال على النحو الصحيح وتُـعطى الأولوية المناسبة بعناية، يصبح من الممكن أن تعمل في ذات الوقت على تسريع النمو الاقتصادي، وتعزيز الإنتاجية، والمساعدة في الحد من الانبعاثات الكربونية. إن إنشاء مناخ أعمال "متوازن" من شأنه أن يخلق الظروف اللازمة لازدهار الإبداع البشري، وهذا هو على وجه التحديد ما يحتاج إليه العالم في وقت يتسم بتباطؤ النمو، وارتفاع الدين، وتسارُع تغير المناخ.

هذا التعليق مقتبس من تقرير الجاهزية لأنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2024.

* إندرميت جيل، كبير الخبراء الاقتصاديين والنائب الأول للرئيس لشؤون اقتصاديات التنمية في البنك الدولي.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق