مواصلة العمل الشاق سعيا وراء المزيد من الرخاء المادي بأي ثمن سيزيد الأمر سوءا. ويجب أن نستخدم كل الأدوات المتاحة لنا لكي نغير طبيعة النمو ونجعله أقل تدميرا لكثير من الأشياء الأخرى التي قد نوليها قيمة كبيرة - من مجتمع أكثر عدالة إلى كوكب يتمتع بصحة أكبر...
بقلم: دانيال ساسكيند
السعي وراء النمو الاقتصادي هو من أغلى بنات أفكارنا، لكنه كذلك من أكثرها خطورة
من الأشياء القليلة التي يتفق بشأنها السياسيون هو أننا بحاجة لمزيد من النمو الاقتصادي. كل بلدان العالم تقريبا دخلت القرن الحادي والعشرين بخطى مرتبكة: اليابان وألمانيا في منتصف التسعينات من القرن الماضي، والولايات المتحدة والمملكة المتحدة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، والصين من منتصف العقد الثاني منه. وبعد عقدين من الأزمات المتلاحقة، أصبحت معظم الاقتصادات تبدو وكأنها ظلال خاملة لما كانت عليه في السابق، ودفع قادة البلدان بالنمو إلى قمة أولوياتهم.
وقد عكفنا على العمل طوال الوقت من أجل هذه اللحظة. فعلى مدار العقدين الماضيين، كان سعينا الحثيث وراء النمو أحد الجهود الحاسمة من أجل حياتنا المشتركة. وسيتحدد نجاحنا الجماعي بقدر ما نستطيع إنجازه في أي فترة زمنية. وسوف تتوقف مصائر قياداتنا السياسية بدرجة كبيرة على صعود أو هبوط رقم واحد، وهو إجمالي الناتج المحلي.
ولكن قلما نتوقف لنتساءل عن كيفية حدوث هذا الصعود الذي تجاوز كل الحدود، والأهم من ذلك إن كان أمرا إيجابيا. لأن أمامنا مشكلة كبيرة. فعندما ننظر إلى معظم التحديات الخطيرة الماثلة أمام كوكبنا - من تغير المناخ وتدمير البيئة إلى خلق تكنولوجيا قوية، مثل الذكاء الاصطناعي الذي لا نستطيع حتى الآن التحكم بالشكل الملائم في آثاره المُرْبكة—سوف نجد أن بصمة النمو ظاهرة في كل ما حولنا. نعم، إنها قد تكون من أغلى بنات أفكارنا. لكنها آخذة في التحول إلى أكثرها خطورة أيضا.
هاجس جديد
إن هاجس النمو الذي يستحوذ على أفكارنا يعطي انطباعا بأن وراءه حتما تاريخا لامعا، وأن مفكرين عظماء دخلوا من قبل في مناقشات حول جدواه ورفعوه إلى مكانته التي يتمتع بها بلا منازع. لكن هذا غير صحيح. إنه في الواقع أحد الشواغل الجديدة تماما. فقد اتسمت الحياة بالركود طوال الجانب الأكبر من تاريخ البشرية الممتد على مدار 300 ألف سنة. وسواء كنت صائدا أو جامعا للثمار من العصر الحجري أو عامل مزرعة من القرن الثامن عشر، فإنك حتما عشت حياة اقتصادية مماثلة، وكنت عالقا في صراع بلا هوادة لتأمين لقمة العيش.
ولم يكن الاقتصاديون التقليديون ليخطر ببالهم أن يسعوا حثيثا وراء النمو كإحدى أولويات السياسات. وكان المؤسسون الأوائل لعلم الاقتصاد -آدم سميث، ديفيد ريكاردو، جون ستيوارت ميل- يسلمون جميعا باحتمال الدخول في "حالة سكون" وشيكة عندما تصل أي فترة ازدهار مادي إلى نهايتها الحتمية. وحتى لو كانت هذه الفكرة قد طرأت على بال هؤلاء المفكرين الأوائل لكان من المستحيل تنفيذها في الواقع العملي؛ إذ لم تظهر مقاييس حجم الاقتصاد التي يعوَّل عليها إلا في أربعينات القرن الماضي.
ولم يكن إهمال فكرة النمو مقصورا على تلك الشخصيات البارزة وحدها. فلم يكن هناك أي سياسي أو صانع سياسات أو اقتصادي - لا أحد - يتحدث عن السعي وراء النمو قبل الخمسينات من القرن الماضي. إذن، ما السبب في الإقبال الكبير المفاجئ على فكرة النمو في منتصف القرن العشرين، بعد تجاهلها لفترة طويلة؟ كانت الحرب واحدة من أهم الأسباب.
فالسؤال الأساسي الذي يتبادر إلى الأذهان عند شن الحروب هو عن حجم تلك الشريحة من الكعكة الاقتصادية التي يمكن إعادة توجيهها لصالح الصراع. غير أن تلك المعلومات لم تكن متاحة عند بداية الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، برز في بريطانيا الاقتصادي العظيم جون ماينارد كينز ليضع تصميم أول مقياس يمكن أن يعوَّل عليه، بجهود مشتركة من الاقتصادي الأمريكي سيمون كوزنتس. ولكن إجمالي الناتج المحلي ليس مثل النمو، فالأول يقدم لمحة عن مقدار ما ينتجه الاقتصاد في فترة زمنية معينة؛ والثاني ينطوي على زيادة هذا الناتج بمرور الوقت. إذن، لماذا أصبح نمو إجمالي الناتج المحلي مهما بهذه الدرجة؟ ومرة أخرى، تكمن الإجابة في الحرب - وإن كانت حربا من نوع مختلف.
فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الحرب الباردة. ولم تخل أي ساحة كبرى من مواجهات عنيفة بين طرفي الصراع الرئيسيين. وفي ذلك الوقت، لم تكن البيانات العددية للصراعات التقليدية متاحة- مثل الأراضي المكتسبة، والجنود المفقودين، والأسلحة المدمرة - والتي يمكن من خلالها تحديد الفائز من الطرفين. ومع غياب هذه البيانات، برزت أهمية مقاييس أخرى، وأهمها المقياس الاقتصادي، أي مدى سرعة نمو الاقتصادين الأمريكي والسوفيتي.
وكانت ملامح الحرب الباردة تتحدد في جانبها الأكبر بدرجة الاستعداد للدخول في صراع محتمل كبير، أي بقدر مراكمة القوة العسكرية وإظهار حجمها. ولتحقيق هذا الهدف، أصبح النمو عاملا بالغ الأهمية، فإذا كان اقتصاد البلد أكبر سيكون بوسعه زيادة إنفاقه على التسلح. وفي الوقت نفسه، فإن زيادة معدلات النمو مقارنة بالعدو أصبحت الطريقة المؤكدة لإقناع المواطنين بأن بلدهم يتمتع باليد العليا في المعركة الفكرية الأوسع نطاقا؛ أي نظام السوق مقابل التخطيط المركزي. عندئذ، بدأت تتشكل حقبة من "فرط التركيز على النمو" (Growthmanship).
معضلة النمو
مع تكشف أحداث القرن العشرين انحسرت متطلبات الحروب. غير أن السعي وراء النمو استمر على نحو لا يفتر. فالنمو، كما اتضح، اقترن أيضا بكل مقاييس الازدهار الإنساني. فنجد أن النمو كان السبب في تحرير مليارات البشر من الصراع لتأمين الرزق اليومي حيث انخفض معدل الفقر المدقع من 8 أشخاص من كل 10 أشخاص في عام 1820 إلى شخص واحد فقط من كل 10 أشخاص في الوقت الحالي. وجعل متوسط عمر الإنسان أطول وأكثر صحة - لتصبح البدانة، بدلا من المجاعة، هي المشكلة الرئيسية في بلدان العالم الغنية. وحرر البشرية من أغلال الجهل والخرافات: ففي عام 1820، كان هناك 9 أشخاص من كل 10 أشخاص لا يجيدون القراءة والكتابة، واليوم 9 أشخاص من كل 10 أشخاص يجيدون القراءة والكتابة.
وتتواصل قائمة مزايا النمو، ولكن رجال السياسة وصناع السياسات وجدوا أن النمو مفيد بصفة خاصة. ففي البداية، نجد أنه ساعد في دفع التكاليف الباهظة لطموحات ما بعد الحرب: العهد الجديد، والتأمين الاجتماعي، والخطط الخمسية. ثم إنه كان يبشر بتيسير الحياة السياسية اليومية إلى أبعد حد. وأصبح بإمكان الجميع على ما يبدو الاستفادة منه. وبفضل النمو أيضا بدا الخلاص ممكنا من الصراعات والخلافات التي تُبتلى بها المجتمعات في أغلب الأحيان. ومن ثم تصبح عملية النمو، حسب وصف أحد الاقتصاديين، "هي الوسيلة والغاية على حد سواء".
وكانت وعود النمو - ولا تزال - حقيقة لا يمكن إنكارها. غير أن ذلك أدى إلى التراخي. فالقادة السياسيون، وخبراء الاقتصاد، وكثيرون غيرهم، مع انشغالهم بكيفية مساهمة النمو في تحسين الحياة، بدأوا يعتقدون أن النمو لم يكن أمرا طيبا فحسب، بل إنه يتحقق بتكلفة زهيدة أو بدون تكلفة. وقد صرح أحد الاقتصاديين البريطانيين أمام حشد من العلماء البارزين في أوائل ستينات القرن الماضي قائلا: "في الغرب، رغم أن هناك ثمنا للنمو، فإن ذلك الثمن قد لا يكون باهظا في نهاية المطاف". وقد اتضح فيما بعد كم كان مخطئا.
فالسعي الحثيث وراء النمو كان ثمنه باهظا، مع عواقبه الوخيمة التي لا ندركها تماما حتى الآن. ويُعبَّر عن هذا الثمن غالبا بالمعايير البيئية، المتمثلة في أننا نمضي في النمو باتجاه كارثة بيئية، وأن السنوات الثماني الماضية كانت الأكثر سخونة في تاريخ البشرية، وأن التغير المناخي أصبح الآن حالة طوارئ مناخية. ولكن النمو مرتبط أيضا بالعديد من المشاغل الكبيرة في أذهان الناس عن المستقبل.
فالتطورات التكنولوجية الداعمة للنمو التي ما زلنا نعتمد عليها هي أيضا منشئة لعدم المساواة: حيث تزيد رخاء البشر، ولكنها تزيدهم انقساما أيضا. ولا تزال هذه التطورات التكنولوجية تهدد التوظيف وتضعف العمل السياسي: فالذكاء الاصطناعي وغيره من التطورات التكنولوجية تتسبب في إرباك أسواق العمل والحياة السياسية بطرق ليس من الواضح أننا نستطيع السيطرة عليها. ولا تزال مصدرا لإرباك المجتمعات: حيث تعزز بعض الصناعات لكنها تقضي على غيرها وتدمر مصادر المعاني المشتركة التقليدية.
ويمثل النمو في الوقت الحالي معضلة لنا جميعا. فهو يقترن بالعديد من أعظم إنجازاتنا، لكنه يقترن أيضا بالكثير من أكبر مشكلاتنا. فوعود النمو تجذبنا نحو السعي لتحقيق المزيد منه، لكن ثمنه يدفعنا بقوة بعيدا عن تلك المطاردة. فالأمر يبدو وكأننا لا نستطيع الاستمرار - ولكننا مضطرون.
حماقة التراجع عن النمو
تقترح حركة التراجع عن النمو (degrowth movement) رد فعل جذريا: إذا كان النمو هو المشكلة، فإن تقليل النمو - أو حتى عدم النمو أو النمو السلبي - هو الحل. وقد انتشر هذا الاقتراح، الذي بدأ بين حفنة من الأكاديميين أصحاب الفكر الداعم للبيئة منذ بضعة عقود، ويجتذب حاليا التأييد من كبار خبراء البيئة والناشطين.
ويصيب رأي مؤيدي التراجع عن النمو في أمر واحد: أننا لا نملك أن نستمر على مسارنا الحالي في النمو. غير أن خبراء البيئة، على أقل تقدير، يقللون من شأن الضرر الذي تسبب فيه النمو بالفعل في ظل كل المشكلات الإضافية التي يشكلها. ومع ذلك، فإن مؤيدي حركة التراجع عن النمو كذلك يرتكبون عدة أخطاء.
وتقوم هذه الحركة على مفهوم خاطئ لكيفية عمل النمو الاقتصادي في حقيقة الأمر. وينعكس هذا الخطأ في شعارها "لا يمكن تحقيق النمو اللانهائي على كوكب محدود". ولكن هذا خطأ - فمن الممكن تحقيقه. وتكمن المشكلة في أن هذه الطريقة في التفكير مترسخة في رؤية عتيقة عن النشاط الاقتصادي، رؤية تصور الاقتصاد على أنه عالم مادي حيث تكمن الأهمية الحقيقية في الأشياء المنظورة والملموسة، مثل معدات المزرعة أو آلات المصنع.
وهذا التركيز على الماديات يصرف الانتباه عن الحقيقة. فالنمو لا يتحقق من زيادة استخدام الموارد المحدودة، وإنما من اكتشاف المزيد من الطرق المنتجة لاستخدام تلك الموارد المحدودة. وبعبارة أخرى، فإن النمو لا يأتي من عالم الأشياء الملموسة، وإنما من عالم الأفكار غير الملموسة. وهذا الكون من الأفكار غير الملموسة فسيح بشكل لا يمكن تخيله، بحيث تمتد أرجاؤه إلى ما لا نهاية. وبعبارة أخرى، فإن كوكبنا المحدود لا يشكل قيدا مهما عند التفكير بشأن مستقبل النمو الاقتصادي.
وعلاوة على ذلك، فإن التراجع عن النمو يبين لنا فداحة الكارثة التي تحيق بنا إذا تخلينا تماما عن السعي وراء النمو. فتجميد نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي عند المستويات الحالية سوف يقتضي، مثلما ذكر باحثون آخرون، أن نترك 800 مليون شخص ليواجهوا الفقر المدقع أو أن نقلص دخول بقية سكان العالم البالغ عددهم 7,1 مليار نسمة - وذلك بدون أن نتطرق إلى تنازلنا عن كل المزايا الأخرى لمستويات المعيشة المرتفعة.
أفكار قوية
لا بد أن تكون نقطة البداية أننا بحاجة لمزيد من النمو. فبغير النمو لن تكون لدينا فرصة لتلبية أبسط طموحاتنا لمجتمعنا - من القضاء على الفقر إلى توفير الرعاية الصحية الجيدة للجميع - ناهيك عن آمالنا الأكبر التي لا ينبغي أن نضيعها من أجل المستقبل. فمن غير المعقول على الإطلاق أن نتوقع أن ما لدينا في الوقت الحالي هو غاية التطلعات الاقتصادية، وأنه ينبغي للبشرية إيقاف دوران عجلة النمو - ليس فقط للعشر سنوات التالية، ولا حتى لعشرة آلاف سنة، بل إلى الأبد. إذن كيف نحقق المزيد من النمو؟
إن يقين السياسيين الواثق عندما يتحدثون عما يلزم يناقض القليل الذي نعرفه. ومع ذلك، يمكننا أن نستخلص درسا بالغ الأهمية: فالنمو يأتي من إحراز التقدم التكنولوجي، المدفوع باكتشاف أفكار جديدة عن العالم. فالتساؤل عن كيفية توليد المزيد من النمو هو مثل التساؤل عن كيفية توليد المزيد من الأفكار. ومن وجهة نظري، هناك أربعة أمور ينبغي تحقيقها.
بادئ ذي بدء، يجب أن نُصلح نظام الملكية الفكرية، الذي كثيرا ما يوفر الحماية للوضع القائم، حيث يسرف في الاهتمام بأولئك الذين اكتشفوا الأفكار في الماضي على حساب من يرغبون في استخدامها أو إعادة استخدامها في المستقبل. إنه نظام عتيق، فاتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية، على سبيل المثال، وهي الاتفاق الدولي الرئيسي الذي ينسق قانون حقوق التأليف والنشر، لم يتغير منذ أكثر من نصف قرن. ويهدد بتبديد فرص التكنولوجيات الجديدة، كالذكاء الاصطناعي التوليدي. فيوفر حماية أكبر من اللازم للمواد المستخدمة في تدريب هذه الأنظمة التي لا يمكنها العمل بدونها، وحماية أقل من اللازم للمواد الاستثنائية التي تنتجها تلك الأنظمة.
ثم يجب أن نستثمر أكثر بكثير في البحث والتطوير الذي تبدو اتجاهاته العامة ومستوياته مخيبة للآمال. ففي فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة، مثلا، انخفض الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من إجمالي الناتج المحلي منذ منتصف القرن العشرين؛ وفي الولايات المتحدة توقف المقياس عند مستويات أواخر الستينات لعقود طويلة. وحتى جهود البلد الرائد على المستوى العالمي، إسرائيل، التي تستثمر نسبة قدرها 5,4% من إجمالي الناتج المحلي سنويا في البحث والتطوير، تبدو متواضعة مقارنة باستثمارات الشركات الرائدة: فشركات ألفابت وهواوي وميتا جميعها تنفق أكثر من 15% من إيراداتها على البحث والتطوير. ورغم أن البلدان ليست شركات، فإن التناقض ينبئ عن طبيعة أولوياتها. فلا يمكن لأي بلد أن يتوقع تدفق تيار منتظم من الأفكار الجديدة إلا إذا كان يخصص موارد كبيرة في سبيل اكتشافها.
ولكن يتعين علينا بذل مزيد من الجهد. فهناك أهمية بالغة للحد من عدم المساواة ومساعدة الناس على المشاركة في توليد الأفكار لبعض جوانب الاقتصاد. وبإمكان الولايات المتحدة، على سبيل المثال، زيادة حجم الابتكار إلى أربعة أضعاف إذا أتيحت فرصة الاختراع للأقليات العرقية والنساء والأطفال من الأسر ذات الدخل المنخفض بنفس المعدل المتاح للرجال ذوي البشرة البيضاء من الأسر ذات الدخل المرتفع. ورغم أن هناك الكثير من الحجج الأخلاقية المقنعة المعارضة لعدم المساواة، فمن منظور اقتصادي، نجد أنه يفتقر كذلك للكفاءة بدرجة هائلة: فالعالم الذي لا يمكن فيه لفئة من الناس اكتشاف وتبادل الأفكار التي كان يمكنهم اكتشافها في ظروف مختلفة هو عالم محكوم عليه بالاضمحلال اقتصاديا وثقافيا أيضا.
والأمر الأخير والأكثر حيوية هو أننا يجب أن نستخدم التكنولوجيات الجديدة ذاتها لمساعدتنا في اكتشاف الأفكار. وخير مثال على ذلك نظام الذكاء الاصطناعي "AlphaFold" من شركة DeepMind للذكاء الاصطناعي. فقد تمكن هذا النظام في عام 2020 من حل مسألة تطوِّي البروتين (protein folding) وأصبح بإمكانه حاليا حساب الشكل ثلاثي الأبعاد لملايين البروتينات في دقائق معدودة. (علما بأن الباحث من البشر قد يمضي فترة دراسة الدكتوراه بالكامل لحساب بروتين واحد). وسوف يؤدي ذلك إلى حدوث تحول في فهمنا للأمراض، وقدرتنا على معالجتها، في السنوات القادمة. ونحن بحاجة للكثير من هذا النوع من اكتشافات الأفكار القائمة على التكنولوجيا.
فرصة وجودية
وهذه التدخلات هي خيارنا الأمثل لاكتشاف المزيد من الأفكار وتوليد المزيد من النمو. لكنها وحدها لن تتوصل إلى حل لمعضلة النمو. وفي الواقع، فإن مواصلة العمل الشاق سعيا وراء المزيد من الرخاء المادي بأي ثمن سيزيد الأمر سوءا. ويجب أن نستخدم كل الأدوات المتاحة لنا لكي نغير طبيعة النمو ونجعله أقل تدميرا لكثير من الأشياء الأخرى التي قد نوليها قيمة كبيرة - من مجتمع أكثر عدالة إلى كوكب يتمتع بصحة أكبر.
كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ لننظر فيما حدث بالنسبة للنمو والمناخ. في عام 2008، خلص الاقتصادي البريطاني نيكولاس ستيرن، مؤلف "تقرير ستيرن" (Stern Review)، إلى أن تكلفة خفض انبعاثات الكربون بنسبة 80% تبلغ 2% من إجمالي الناتج المحلي. وباختصار، كانت هناك مفاضلة مهمة بين النمو والمناخ، فالثمن الذي ندفعه لحماية المناخ باهظ. ولكن بحلول عام 2020 وجدت "لجنة تغير المناخ" البريطانية أن تكلفة التخلص من الانبعاثات انخفضت إلى مجرد 0,5% من إجمالي الناتج المحلي. لقد تقلصت المفاضلة. لماذا؟ لأن تراكم التدخلات على مدار عقدين من الزمن - كالضرائب والدعم، والقواعد والأحكام التنظيمية، والأعراف الاجتماعية - خلق حافزا قويا للناس لتطوير تكنولوجيا نظيفة بدلا من غير النظيفة. وفتح الطريق لانطلاق ثورة تكنولوجية، فكان الانخفاض بنحو 200 ضعف في ثمن تكنولوجيا الطاقة الشمسية هو أفضل مثال على ذلك.
والنتيجة العملية لذلك أن النمو أصبح أكثر اخضرارا من أي وقت مضى. وأصبح بإمكان المزيد من البلدان تحقيق النمو مع خفض انبعاثاتها في الوقت نفسه. وهذا أمر كان يصعب تخيله منذ 15 عاما. وهناك رؤية متعمقة عامة في هذا الخصوص، فمن خلال إعادة التشكيل الجذري للحوافز الاقتصادية المتاحة للناس، لن يكون بوسعنا تشجيع تطوير تكنولوجيات جديدة لدفع النمو فحسب، بل أيضا صياغة أنواع التكنولوجيا التي نطورها.
وهذه إذن هي المهمة الكبيرة في الوقت الحالي، أي إعادة توجيه التقدم التكنولوجي نحو الغايات الأخرى التي نحرص على بلوغها؛ وتحقيق النمو في الاقتصاد مع مراعاة أيضا أن يكون العالم أكثر عدالة، وأكثر خضرة، وأقل اعتمادا على التكنولوجيا المُرْبكة، وأكثر احتراما لموارده الطبيعية. وينبغي أن نقوم بكل ما في وسعنا للتأكد من أن الحوافز المتاحة للناس ليست مجرد انعكاس لمشاغلهم المحدودة كمستهلكين في السوق، بل لمشاغلهم الأعمق كمواطنين في المجتمع.
ونحن نعيش حاليا في عصر أصبح كل يوم فيه يجلب معه قصصا عن مخاطر وجودية جديدة ورسائل تذكيرية محبطة عن عجزنا المفترض في التعامل مع تلك المخاطر. ولكنني أرى هذا الأمر بصورة مختلفة: فنحن لدينا فرصة وجودية.
فأمامنا فرصة للتجديد الأخلاقي، وسبيل لزيادة الاهتمام بالغايات القيمة الأخرى التي أهملناها حتى الآن، وسبيل لتحقيق ذلك الطموح عن طريق إعادة توجيه التقدم التكنولوجي وتغيير طبيعة النمو. ولدينا القوة لتحسين سبل الحياة بطرق لا يمكن أن نتخيلها الآن. وليس هناك، من وجهة نظري، ما هو أهم من ذلك.
اضف تعليق