إذا وفَّق الله عبداً فتح له باباً للبحث في كتابه العزيز لينهل من معينه الصافي ويجعل قريحته خصبة لتلقي العلوم والمعارف القرآنية وهذه ومضات من نور القرآن الكريم تخرج من عمق الإيمان بصدق وتمعُّن، فتغوص في بحر الحكمة بين الخلجات القرآنية المباركة المكنونة في شذرات من تقريب القرآن الى الأذهان...
بقلم: أ.م.د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي-كلية العلوم الإسلامية جامعة كربلاء
بقلم: الباحثة هدى جواد عبيد-كلية العلوم الإسلامية جامعة كربلاء
الملخص
إذا وفَّق الله تعالى عبداً فتح له باباً للبحث في كتابه العزيز لينهل من معينه الصافي ويجعل قريحته خصبة لتلقي العلوم والمعارف القرآنية، وهذه ومضات من نور القرآن الكريم تخرج من عمق الإيمان بصدق وتمعُّن، فتغوص في بحر الحكمة بين الخلجات القرآنية المباركة المكنونة في شذرات المجلد الأول من تقريب القرآن الى الأذهان لآية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس الله سره).
وللأسف لم يُبحث في هذا المعين الكبير على الرغم من غزارته سوى رسالة للماجستير بعنوان: (علوم القرآن في تقريب القرآن للأذهان) وهذا ما جعلنا نختار ثيمة وشذرة من شذرات البلاغة العربية التي وردت في هذا التفسير الكبير، ففي هذا التفسير نوادر الآراء التي اعتمدت في تحديد الأغراض البلاغية ومن أهمها الإنشاء بأقسامه وأغراضها ليكون موضوعا ً للبحث الموسوم: ((الإنشاء البلاغي في تفسير تقريب القرآن للأذهان – الجزء الأول اختياراً -)).
Summary
If God Almighty grants success to a servant، He opens a door for him to search in His Mighty Book so that he may draw from his pure source and make his heart fertile for receiving Quranic sciences and knowledge. These are flashes of the light of the Holy Qur’an that emerge from the depth of faith with sincerity and contemplation، so that they dive into the sea of wisdom among the blessed Qur’anic revelations hidden in the fragments of the first volume of the book. Bringing the Qur’an closer to the minds of the Grand Ayatollah، Imam Sayyid Muhammad al-Husseini al-Shirazi (may God sanctify his secret).
Unfortunately، this great resource، despite its abundance، was not researched except for a master’s thesis entitled: (Qur’anic Sciences in the Interpretation of Bringing the Qur’an closer to the Minds). This is what made us choose a theme and a fragment from the fragments of Arabic rhetoric that appeared in this great interpretation. In this interpretation are anecdotes of the opinions that were adopted in it. Determining the rhetorical purposes، the most important of which is the composition with its sections and purposes، to be the subject of the research tagged: ((Rhetorical construction in the interpretation of bringing the Qur’an closer to the minds - Part One، optionall)).
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقهِ محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون..
وبعد..
إذا وفَّق الله تعالى عبداً فتح له باباً للبحث في كتابه العزيز لينهل من معينه الصافي ويجعل قريحته خصبة لتلقي العلوم والمعارف القرآنية وهذه ومضات من نور القرآن الكريم تخرج من عمق الإيمان بصدق وتمعُّن، فتغوص في بحر الحكمة بين الخلجات القرآنية المباركة المكنونة في شذرات المجلد الأول من تقريب القرآن الى الأذهان لآية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس الله سره).
وللأسف لم يُبحث في هذا المعين الكبير على الرغم من غزارته سوى رسالة للماجستير بعنوان: (علوم القرآن في تقريب القرآن للأذهان) وهذا ما جعلنا نختار ثيمة وشذرة من شذرات البلاغة العربية التي وردت في هذا التفسير الكبير، ففي هذا التفسير نوادر الآراء التي اعتمدت في تحديد الأغراض البلاغية ومن أهمها الإنشاء بأقسامه وأغراضها ليكون موضوعا ً للبحث الموسوم: ((الإنشاء البلاغي في تفسير تقريب القرآن للأذهان – الجزء الأول اختياراً -)).
أما فيما يتعلق بمقتطفات الموضوع فقد ضم الإنشاء ما جاء في أقسامه من أغراض بلاغية قد اتخذها المفسر وسيلة لتحديد الدلالة، وكما تم تصنيف الأقسام ووضع أكثر من مثال تطبيقي يوضح كل غرض بلاغي مع تعريفاتها، كل غرض على حِده وهي (الأمر، والإستفهام، والنداء، والنهي)،
والحمد لله رب العالمين...
الإنشاء
حدُّه، أقسامه، تطبيقاته في تقريب القرآن للأذهان
مدخل
الجملة العربية تنقسم بين الخبرية والإنشائية، وهذا ما اتفق عليه علماء العربية منذ أنْ مُدَّ البساطُ للبحث والدراسة في اللغة والأدب والقرآن الكريم، وهنا الكلام في الشِقِّ الثاني لمفهوم الجملة؛ وهو الإنشاء، ولابُدَّ من إيضاح المفهوم بين المصطلح والإجراء من اللغة إلى مفهومه في اصطلاح أرباب البلاغة.
الإنشاء في اللغة
حال الإنشاء في اللغة حال المفردات الأخرى في التبيين، إذ بيَّنه اللغويون في معجماتهم التي حوت بين دفتيها المعاني العامة المفردات، أو المعاني المركزية التي تُلازم المفردات أينما وقعت في أي جملة أو أيِّ سياق وأيِّ نصٍّ، فالمفردة لها معنى مركزيّ يلازمها ولا ينفك عنها مهما تغيَّرت السياقات والأغراض.
فالإنشاء من نشأ، يَنشأ، إنشاءً؛ وهو الابتداء، وكذلك: هو ارتفاع الشيء وسموِّه(1)، حيث يُقال: نَشأ الله السحاب، أي: ابتدأها، وأنشأ الخطيب الخطبة؛ حينما يبدأ بها، وكذلك جاء عند بعضهم أنَّه يعني: الاختراع أو الإيجاد أو الخلق(2)، فهو متأت من جذره اللغوي: نشأ ينشأ منشأ، و نشؤاً، ونشاءة، فالذي نشئ على شيء وتربى عليه شبَّ عليه(3)، فرأي أهل اللغة يُرادف بين الإنشاء والإيجاد والخلق والابتداء.
في حين أنَّ الإنشاء يعني: ترتيب الألفاظ داخل النص، والإيجاد: ما يأتي من العدم، والخلق: هو الصناعة من خلال المادَّة؛ فلا خلق من دون مادّة، أمّا الابتداء: فهو ما كان فيه سباق وتحديد خط للشروح في البدء، ولا نريد التفصيل في ذلك لأنَّه بحث دلالي صرف، ولكن لابدّ من هذه الإشارة المبسطة للتوضيح.
الإنشاء في الاصطلاح
عنى اللغويون بفن الإنشاء منذ أن بزَّ الباحثون العلوم البلاغية بعد إن بدأ البحث في الدراسات النصية، وهذه كانت على شكل إشارات متناثرة بين ثنايا البحوث النحوية وبيان المعاني العامة للجمل الإنشائية، ولمَّا اكتملت أُطره واستوى على سوقه وصار مصطلحاً خاصاً له مطالبه وأقسامه؛ اكتمل تعريفه عند البلاغيين فصار عندهم: الكلام الذي يحوي طلباً ولا يحتمل الصدق والكذب لذاته، وليس لمدلوله واقع في الخارج، فلا مطابقة له أو عدم المطابقة في الخارج قبل النطق به(4)، فلا يُوصف الإنشاء بالصدق ولا يُوصف بالكذب، فإذا قُلتَ لإنسان: إذهب، فهذا طلب بصيغة (أمر) فلا يُقال للآمر: صادق أو كاذب(5)، فيعتمد سياق الإنشاء على ملقيه، فلا يمكن ان يتعرَّف عليه المتلقي ما لم يكون له واقع في الخارج من قبل الباث، فهو يقف على الإلقاء.
ولا علاقة بين كلمة الإنشاء وبين مفهومه؛ لأنَّ كلمة الإنشاء تعني الابتداء والإيجاد في اصطلاح الثقلين، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أى ابتدئكم وخلقكم، وكلّ من ابتدء شيئا فقد أنشأه، قال الفيومي: نشأ الشيء نشاء مهموز من باب نفع: حدث و تجدّد و أنشأته أحدثته هذا.
و قد يفرّق بينهما حيث اجتمعا صونا للكلام عن التكرار تارة بأنّ الانشاء هو الايجاد لا عن مادّة، والابتداء هو الايجاد لا لعلّة، ففي الأوّل إشارة إلى نفى العلّة المادية، وفي الثّاني إشارة إلى نفى العلة الغائية في فعله سبحانه واخرى بأن الانشاء هو الايجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى ايجاد مثله، والابتداء هو الايجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله وثالثة بأن الانشاء هو الايجاد من غير مثال سابق، والابتداء هو الايجاد من غير صور الهاميّة فائضة على الموجد (والروية: الفكر والتّدبر)(6)، فالطلب أقرب للمفهوم من لفظ الإنشاء، فمن الممكن إعادة النظر في اللفظ ليتطابق العنوان على المعنون.
أقسام الطلب
قسَّمه البلاغيون على قسمين: القسم الأول وَسَمُوهُ بــ [الإنشاء الطلبي]، وهذا النوع من الإنشاء يُعرف بأساليب أو صيغ متعددة؛ فيشمل: الإستفهام، الأمر، النهي، النداء، والتمني، والقسم الثاني وَسَمُوهُ بــ [الإنشاء غير الطلبي]، وهذا القسم أيضاً له أساليب أو صيغ يُعرف بها؛ مثل: المدح، الذم، التعجب، الرجاء، القسم، وصيغ العقود(7)، وقد أشاروا إلى هذا القسم بالخبرية دون الطلبية.
فالذي يدخل في دراستنا؛ هو القسم الاوَّل (الطلبي)، وسنورد صيغه بحسب ما ورد في شروح الزيارة الجامعة الكبيرة المباركة.
أوَّلاً: الأمــــــر
صيغة طلبية تستدعي الإيجاد والحصول على سبيل الإستعلاء والفرض، أو هو صيغة طلب يُراد منها استدعاء أداء الفعل، أو هو طلب يكشف عن استدعاء أداء الفعل من جهة المُخاطَب بطريقة الاستعلاء والسيطرة(8)، فالذي يستدعي مطلوباً يجب أن تكون له جهة الإلزام لفرض الفعل وحصول الإيجاد، وهذا الأمر الحقيقي، في حين أنّ الجمل الأمرية تأتي في سياقات مختلفة لتعطي أغراضاً يخرج إليها الأمر عن مقتضى ظاهره كما سنرى.
أمّا الأمر في شروح الزيارة الجامعة الكبيرة؛ فقد أشار إليه الأحسائي في شرحه؛ فيقول: ((..الأمر هو الطلب المعروف المقتضي للوجوب و المندوب طلب غير الأمر المعروف وصورة اللفظ فيهما واحدة فاذا وردتِ الصورة المعلومة عارية عن جميع القرائن حُمِلَت على الوجوب للأصل والأمر بها عليه البيان والتعريف والتعليم فقد جعل أمره واجباً واذا لم يردِ الوجوب نَصب له قرينة من قولٍ أو تقريرٍ أو عملٍ أو اجماعٍ كما لو أمر بتركه أمراً لا يدلّ علي النَسْخ وانقضاء مدّته أو تركه المكلَّف بمشهدٍ منه وقرّره عليه أو أنّه عليه السلام لم يفعل في وقتٍ مّا أو ينصّ علي ندبيّته أو تحقق اجماع على عدمِ وجوبه من جماعةٍ الأمام (عليه السلام) فيهم بذلك القول..
وإنّه جعل حقيقة الطلب الواجب غير صالح للمندوب لا لملاحظة قيده الذي تقوّم به وهو المنع من التّرك ليتميّز عن طلب المندوب بقيده و إلا لزم أن يكون معنى قولهم [:] إنّ المندوب غير واجب وليس كذلك بل يريدون أنّه لم يؤسّس بالأمر ولا أمر عندهم إلّا الطلب المقترن بالمنع من تركه أو يلزمهم أنّ المندوب غير مطلوب أو تحقق الأمر بلا منع من الترك و يلزمهم أنّ المندوب مأمور به...))(9)، فقد وضع شروطاً لخروج الأمر عن حقيقته إلى الأغراض؛ وهو فقدان القرينة الدالة على عدم إرادة الطلب على حقيقته، فإذا لا توجد قرينة؛ فالأمر لا يخرج عن معناه الحقيقي لإرادة الإلزام والإيجاد والوجوب في التنفيذ، وهو يستدعي ان يكون الآمر له السلطة الإستعلائية لفرضه وإلزام المأمور بالطاعة والتنفيذ.
وللامر صيغ رئيسة يُعرف بها؛ وهي مثل: فعل الأمر، والفعل المضارع الذي يقترن بلام الأمر، وكذلك إسم الفعل، والمصدر الذي ينوب عن الفعل) فلا يخرج السياق عن استعمال هذه الصيغ أو الصور.
الأغراض البلاغية التي يخرج إليها الأمر
يخرج الأمر عن حقيقة الإلزام والتنفيذ والإيجاد الواجب إلى معانٍ ثانوية تكشف عنها القرائن السياقية، وذلك لإثارة الانتباه، وإيقاظ الذهن من السبات، وإعمال العقل وتحريكه، وإيقاد مشاعر المتلقي ليسرح في خيال بعيد عن الواقع، وإمتاع النفس من خلال المشاركة الوجدانية والعواطف ما بين الباث والمستقبِل لفائدة(10).
ومن الأغراض التي وردت في تقريب القران للأذهان:
1- الارشاد: من الأغراض التي يخرج اليها الامر هو الارشاد كما جاء في تفسير قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }{الفاتحة/6}، يقول السيد الشيرازي: ((الهداية هو إرشاد الطريق فإن الانسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده وإن كان مهدياً، وحيث لم يذكر متعلق الصراط المستقيم، دل على العموم، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم، في العقيدة، والعمل، والقول، والرأي... وغيرها))(11)، فنجد السيد الشيرازي قد فسَّر الفعل (إهدنا) بأنَّه أفاد الإرشاد، يعني ذلك أنّ الفعل قد خرج عن صيغته الأمرية إلى الإرشاد وهو أسلوبٌ مجازي خاص يخرج إليه الامر في السياقات التي يكون فيها الطالب برتبة المطلوب منه أو دونه. وأن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم، بهدايتهم من النبيين و الأئمة (عليهم السلام) والصالحين، أي: ارشدنا الى الفئة التي أنعمت عليها بالهداية وبين صفات المسلم الحقيقية وهذا ما جاء في إكمال الآية المباركة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }{الفاتحة/7}، فمن أنعم الله سبحانه وتعالى بالهداية لا يكون من الضالين أي المنحرف عن الطريق والمسلم يطلب من الله ان لا يكون من هؤلاء.
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }{البقرة/38}، يقول السيد الشيرازي: ((انما كرر الأمر بالهبوط توطئة لموضوع آخر، وهو أمر الهداية، بعد ذكر المقر والمتاع، كما يقال: قلت له اذهب تربح، قلت له اذهب تسلم))(12)، أي التكرار جاء تمهيداً وإرشاداً للهداية، وإلى هذا اشار السيد الشيرازي الى أنَّ الآية الكريم مهدت لأمر الهداية بصيغة الأمر فهبوطهم هو الطريق الى السلام.
وكذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }{البقرة/83}، يقول السيد الشيرازي: ((اذكروا يا بني اسرائيل (إذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل) عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم، بأن (لا تعبدوا إلا الله) وحده (و) بأن أحسنوا (بالوالدين إحساناً) ولا تسيئوا إليهما (و) وأحسنوا الى (ذي القربى) أقربائهم (واليتامى) الذي مات والدهم (والمساكين) الفقراء (وقولوا للناس حسنا ً) وذلك يشمل جميع انواع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والارشاد ورد الاعتداء بالحسن (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهما في سائر الامم، لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلاً في هذه الامة (ثم توليتم) أعرضتم (إلا قليلاً منكم) الذين عملوا بأوامرنا (وأنتم معرضون) تأكيداً لقوله (توليتم)))(13). اشار السيد الشيرازي الى أهم المواثيق التي أخذها الله سبحانه على الانبياء ليجعل بني اسرائيل يتيقنوا فيها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورعاية ذوي القربى والحفاظ على حقوق اليتامى واعطاء حق الفقراء مخاطبا ص لهم بانهم يعرفون كل ذلك ورغم كل شيء اعرضوا وعصوا الله سبحانه وتعالى.
2- النصح: من الأغراض التي يخرج اليها الأمر هو النصح كما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }{البقرة/13}، يقول السيد الشيرازي: ((هم جماعة من المنافقين الذين يخافونهم إيمانا ًلا يشوبه نفاق (الا انهم هم السفهاء) وأية سفاهة اعظم من كون الانسان حائد عن طريق الحق مع كونه متصفا ً بصفة النفاق الرذيلة (ولكن لا يعلمون) إنهم هم السفهاء، لانهم يظنون أن طريقتهم النفاقية اصلح الطرق))(14). وضح السيد الشيرازي كيفية توجيه النصح للمنافقين الخائفين من الايمان والمؤمنين كونهم اعتادوا على الظلال والحياد عن طريق الحق متشحين بصورة وهمية وضعوها بكل سُفه وسذاجة ظنا ً منهم بأظنها الطريق الاصلح لهم.
3- الإخبار: ومنه قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }{البقرة/31}، يقول السيد الشيرازي: ((صدقاً خبريا ًيطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في الإستخلاف، ولعل تعليم آدم كان بالإلهام وخلق العلم فيه، مما هو قابل له دون الملائكة، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم والالهام، فلا يقال لم يعلم الله تعالى الملائكة))(15). يبين الشيرازي بأن الله يعلم بكل شيء بل سبحانه في هذه الآية الكريمة يخبرهم بأنهم لا يعلمون شيء ويتوعدهم بصيغة التحدي إن كانوا يصدقون القول.
ثانياً: الاســـتـفـهـام
في اللغة: من فَهِمَ الشيء يفهمهُ فهماً؛ أي: عَلِمه، و يُقال: فلانٌ إستَفْهَمَنِيْ عن أمر كذا، أي: طَلَبَ مني الفهم في الشيء والعلم به (16)، والسؤال و الاستفهام بمعنى واحد (17)، لأنَّ كليهما يستدعي مطلوباً لغرض العلم به.
وفي الاصطلاح: أشار سيبويه ت(180هـ) إلى الإستفهام كأسلوب نحوي في الكتاب تحت عنوان "باب الإستفهام" وأشار إلى أدواته وخروجه عن مقتضى حال الظاهر، وضرب كثيراً من الأمثال له (18) وذكره الفراء ت (207هـ) أيضاً، و أبو عبيدة ت(210هـ)، والأخفش الأوسط ت (215هـ)(19)، فهو مصطلح قديم يراد به طلب الفهم بوساطة أدواته، وقد نهل منه المفسرون والبلاغيون على مدى تاريخ البحث البلاغية للوصول إلى الدلالة في النصوص العربية والقرآن الكريم.
والاصطلاح البلاغي للاستفهام: هو طلب حصول صورة الشيء المستفهم عنه في ذهن السائل أو المستفهم فيتم الإجابة على السؤال الصادر بحسب الفهم الذي حصل عند المسؤول (20)، ويُعدُّ الاستفهام أشد أساليب الانشاء الطلبي إثارة للفكر والتفكير، لأنَّه يشدّ انتباه السامع ويُثير فيه التفكير للوصول إلى الإجابة، فهو يتَّجه من البنية السطحية إلى بيان البنية العميقة، لذلك صار أشدّ أساليب الطلب إثارة للتفكير والفكر(21).
والاستفهام منه ما يكون حقيقياً يُراد منه الفهم؛ ومنه ما يُراد منه المعنى الثانوي الذي يخضع لسلطة السياق وسلطة النص، وهذا ما يهمنا في بحثنا البلاغي، لأنَّ الأوَّل يُراد منه الفهم والعلم بالشيء من خلال طرح السؤال بوساطة إحدى أدوات الاستفهام المعروفة، والثاني؛ يُراد منه بيان الغرض، وللاستفهام أغراض كما للأمر وغيره من صيغ الانشاء الطلبي.
أدوات الإستفهام
للاستفهام أدوات يُعرف بها إذا كان مباشراً؛ وقسمه البلاغيون على قسمين:
القسم الأول: حروف الإستفهام / كـ(هل، الهمزة)، وتأتي (هل) للاستفهام التصديقي الذي يفيد إدراك النسبة؛ وهي الإسناد، مثل: هل سافر عليٌ؟ فالمتكلم يجهل حصول السفر لعلي، فهو يريد معرفة نسبة السفر لعلي، وتأتي (الهمزة) للتصديق وللتصور، والتصور يفيد إدراك المفرد، مثل: أعليٌّ مسافرٌ أم محمد؟ فلم تكن النسبة مطلوبة؛ وإنَّما المراد من ذلك التعيين أيهما كان السفر إليه ممنسوباً. و(هل، الهمزة) حرفان لا محلَّ لهما من الإعراب.
القسم الثاني: أسماء الإستفهام / وهي [ما، مَنْ، متى، أينَ، كيف، كم، أيُّ، أيان، أنَّى ](22)، وهذه الأسماء تُعرب حسب موقعها من الجملة.
أنواع الإستفهام
للاستفهام نوعان:
1ـ الاستفهام الحقيقي/ ويعني به الإستفهام الذي يراد منه المعرفة الحقيقية.
2ـ الإستفهام المجازي/ يخرج هذا الإستفهام عن معناه الحقيقي إلى أغراض أخرى كالتقريري والإنكاري والتعجبي والتعجيزي(23) وغيرها، وهذا الذي يعده البلاغيون استفهاماً بلاغياً، وهذا ما يعنينا في البحث البلاغي لأنّه ــ كما يؤكد عليه البلاغيون ــ هو الأسلوب البليغ، فهو الذي سيدخل في دائرة البحث.
الأغراض التي خرج إليها الاستفهام:
1- التوضيح والتقريب: من الأغراض التي يخرج اليها الاستفهام هو التوضيح والتقريب كما جاء في تفسير قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }{المدثر/31}، يقول السيد الشيرازي: ((يوجب انقسام الناس، ومن المحتمل أن يكون (يضل) جواباً عن اعتراضهم، أي أن المقصود من المثل الإضلال والهداية، لكنه ينافي السياق، فإن المقصود بالمثل ليس ذلك، وانما التوضيح والتقريب))(24).
ذكر الشيرازي بأن الآية توضح وتقرب ما يريده الله من عباده وهو الطاعة والايمان دون أي تضليل، فالمراد من كلمة مثلاً الايضاح دون الوقوع في خطا الظنون.
2- استفهام حقيقي: من الأغراض التي يخرج اليها الاستفهام هو الاستفهام الحقيقي كما جاء في تفسير قوله تعالى: قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة/30}، يقول السيد الشيرازي: ((هذا استفهام حقيقي، يريدون بذلك استيضاح السبب، ولعلهم إنما علموا بذلك، لما كانوا يدرون من كدر الأرض وثقلها الموجبة للفساد والتكبر، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقا))(25) وضح الشيرازي بأن الآية تضمنت معنى غير قابل للشك من الحقائق الدامغة عسى ان يعلم الضالين عن سبيل الحق عبرة بما حدث للجان في سابق عهده.
3- الاستفهام الانكاري: من الأغراض التي يخرج اليها الاستفهام هو الاستفهام الانكاري كما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }{البقرة/44}، يقول السيد الشيرازي: ((استفهام انكاري، أي لم تأمرون الناس بالأعمال الخيرية (وتنسون أنفسكم) فلا تعملون بها والنسيان كفاية عن عدم العمل لشبه به النتيجة، كما قال سبحانه (نسوا الله فنسيهم) فقد كان اليهود يخالفون أحكام التوراة، ويرتشون ويفسدون ويكذبون (وانتم تتلون الكتاب) جملة حالية، أي والحال أنتم تقرؤون كتاب الله، فاللازم أن تكونوا أول العاملين به (أفلا تعقلون) أي ألا تعلمون أن ما تأتون به قبيح؟))(26)
وضح الشيرازي نوع الاستفهام الوارد في الآية الكريمة الذي انكر عليهم نصائحكم واشار الى ان الله سبحانه في آيته الكريمة ينبه على انهم بدل ان ينشروا المواعظ والارشادات والاوامر على غيرهم والحث على اعمال الخير عليهم ان يطبقوا كل ذلك على انفسهم فعملهم هذا مجرد ادعاء ليس فيه أي حقيقة وفيه من القباحة النصيب الاوفر والأكبر.
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }{البقرة/75}، يقول السيد الشيرازي: ((أيها المسلمون (أن تؤمنوا أي يؤمن اليهود (لكم) أي لينفعكم، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين، أو بمعنى الإيمان بمبادئكم، وذا استفهام إنكاري، أي لن يؤمن هؤلاء، وهم أسلافهم، وإنما صحت النسبة إليهم، لأن الامة الواحدة، والقبيلة الواحدة، تكون متشابهة الأعمال والأفعال والأقوال (يسمعون كلام الله) الذي يتلوه الانبياء عليهم (تم يحرفونه) بالزيادة والنقصان لفظا ً أو معنى، كما هو المتعارف عند من يريد نقل كلام لا يرضيه، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد –لو وجد إلى ذلك سبيل– وإما أن يفسره بغير ما أراد المتكلم، فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام الله بعد تعقل هذا العمل))(27). شرح السيد الشيرازي بأن من يسمع ويفقه كلام الله و توجيهاته ويحيد عنها ويحرف محتواها قولا ً وفعلاً لن يؤمن مطلقا ً.
ثالثاً: الــنــداء
في اللغة: النِّداء؛ كالدُّعاء والرُّغاء والجزاء(28)، وهو ((صوتٌ مجردٌ غير مفهوم الكلمات... و" النداء" من العبد في القرآن يأتي بمعنى الدعاء.... فهو رفع الصوت بطلب من يُنادى، وله حروف مخصوصة.... يُقال: ناداه، ونادى به، مناداة ونداء؛ أي صاح به ودعاه بأرفع الصوت))(29)، فالنداء: هو رفع الصوت للمنادى أن أقبل.
في الاصطلاح: المعنى الإصطلاحي للنداء قريب للمعنى اللغوي فهو من صيَغ الطلب؛ والمراد منه؛ الإقبال بوساطة حرف ينوب مناب الفعل أدعو لفظاً أو معنى، مثل: (يا) للبعيد والقريب، أيا، هيا للبعيد، وربما ياتي القريب بمنزل البعيد؛ إذا كانَ نائما أو لاهيا أو ساهياً(30) وغيرها من حروف يُعرف بها سنذكرها تباعاً، إذ المعنى الإصطلاحي قريب جداً من المعنى الوارد في اللغة غير أن المعنى اللغوي يكون عامّاً؛ والمعنى الاصطلاحي يخصص بأدوات تميزه.
والنداء أقرب للنحو منه إلى البلاغة، إذ أنَّ النحويين عنوا به كثيراً، حيث لا نجد كتاباً نحويَّاً يخلو من النداء وأدواته، وبيان عمل أدواته وبيان معانيها، ونجد ذلك في كتاب سيبويه ت(179هـ) حيث عقد باباً في ما يكون النداء يُضاف إلى المنادى بوساطة حرف الإضافة(31)، ومن جاء بعده لم يغفل موضوع النداء في مؤلفاته.
وأشار إليه البلاغيّون ضمن صيغ الإنشاء الطلبي لبيان المعاني الثانوية له، وعرَّفوه: بطلب الإقبال بحرف نائب مناب الفعل [أدعو] بلفظ ظاهر أو مقدر(32).
أدوات النداء
النِّداء حاله حال الموضوعات الطلبية الأخرى؛ له أدواته التي يُعرف بها وهذه الأدوات مثل: (يا) أعمَّها وتُعدُّ أمَّ الباب، (أيا، وهيا) تُستعمل للبعيد، (أي، والهمزة) تُستعمل للقريب، وقد تنوب (وا) مناب (يا) في الدعوة، إلَّا أنَّ والمشهور استعمالها في النُدب، و الأداة (آ) بهمزة بعدها ألف التي تٌعرف بالمد، والاداة (أي) مدّ بعده ياء ساكنة(33)، وقد اشترط النحويون بعدم تنوين المنادى، وجعلوا ذلك من الشائع. وكذلك لا تدخل (ال) التعريف على المنادى وما جاء مخالفاً لهذه الشروط جعلوه من الضرورات أو النادر الذي لا يُقاس عليه(34).
الأغراض البلاغية للنداء:
1- التنبيه: من الأغراض التي يخرج اليها النداء هو التنبيه كما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }{البقرة/21}، يقول السيد الشيرازي: ((أي خلقكم للتقوى والعبادة كما قال تعالى: (و ما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)))(35). ذكر السيد الشيرازي سبب خلق الله للناس مشيرا ً بذلك الى اهمية نداء الناس لتنبيههم بانهم خلقوا لعبادة الله سبحانه وتعالى والتقوى وليس لاتباع هوى النفس والانشغال بالملذات.
2- التذكير: من الأغراض التي يخرج اليها النداء هو التذكير كما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}{البقرة/40}، يقول السيد الشيرازي: ((تكرار للتركيز و الإلتفات، فإن الإنسان ربما كان غافلاً عن التذكير الأول، فيذكر ثانياً وثالثاً، بالإضافة إلى أن النفس، إذا كررت عليها الموعظة، رسخت فيها (وأني فضلتكم على العالمين) التفضيل على عالم زمانهم لا على كل العوالم، فإن الظاهر من هكذا تفضيلات هو الاختصاص، فلو قيل أن "الدولة الفلانية أقوى الدول" لم يفهم منه إلا الإقوائية من الدول المعاصرة لها، لا كل دوله أتت أو تأتي، ثم أن تفضيلهم على العالمين إنما كان لأجل إيمانهم بموسى (ع)، بينما كان العالم بين كافر به عناداً، كفرعون ومن تبعه، أو جهلاً كمن كان في البلاد البعيدة التي لم تبلغهم دعوة موسى فكانوا قاصرين))(36).
اشار الشيرازي الى ان هدف الآية الكريمة هو التذكير عسى ان يكون التذكير ارسخ في النفوس وأكثر تنبيها ً للعقول الغافلة.
رابعاً: الــنــهــي
في اللغة: نهاه عن الأداء؛ يعني: كفَّه عن الفعل، و((النون والهاء والياء أصل صحيح يدل على غاية وبُلوغ، ومنه أنهيتُ إليه الخبر: بلَّغتُه، ونهايةُ كلِّ شيء: غايتُه، ومنه: نهيتُه عنه، وذلك لأمر يفعله، فإذا نهيته فتنتهى عنك؛ فتلك غاية ما كان..... والنُّهية: العقل؛ لأنه ينهى عن قبيح الفعل، والجمعُ: نُهى))(37)،، والنهي: خلاف الأمر، وهو طلب بالمنع والترك والكف عن الفعل والزجر عنه(38).
وورد حدُّ النهي عند الصدر في شرحه؛ فيقول: ((والنهي عن الشيء: الزجر عن ذلك، والتحذير عن إتيانه.))(39)، وهو حدٌّ لغوي كما اتضح ذلك من المعجمات، والصدر كان رأيه في معنى النهي معنى لغوي دون ذكر الأغراض التي يخرج إليها النهي.
في الاصطلاح: النهي من الأقسام البلاغية التي تنتمي إلى الإنشاء الطلبي على وجه الاستعلاء، وفائدته المنع (40)، ويُوتى به للإقلاع والكف عن أداء الفعل بطلب ملزم جازم دالٍّ على المنع الفوري والاستمرار، وله صورة واحدة وهي: (لا) الناهية المقترنة بالفعل المضارع، هذا على وجه الحقيقة.
وينتج عن النهي في سياقاته المختلفة بملاحظة القرائن وسياق الحال؛ دلالات جديدة تتكشف عند الملاحظة والقراءة الفاحصة، وهذا ما يُسمّى بالأغراض البلاغية التي يفيدها السياق كما سنلاحظ ذلك في شروح الزيارة الجامعة.
الأغراض البلاغية للنهي:
1- النهي عن الكل قبيح من القول او الفعل: من الأغراض التي يخرج اليها النهي عن القبيح قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }{البقرة/11}، يقول السيد الشيرازي: ((فان النفاق يلازم الافساد، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة، ويؤلب عليها، وهو إفساد حينما تريد الدعوة الإصلاح والتقدم فقد ظنوا بأن الدعوة افساد وانهم بوقوفهم ضدها يصلحون في الارض))(41). فسر الشيرازي كيفية نهي المنافقين في القرآن الكريم عن ظنونهم الواهية وابتعادهم عن حقيقة اهمية الدعوة للإصلاح كي لا يتبعونها ويبررون عصيانهم لها بكونها فساد في الارض.
ومنه قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }{البقرة/22}، قال السيد الشيرازي:((لا تجعلوا شركاء من الأصنام او غيرها (وانتم تعلمون) انها باطلة. وأنه ليس لله شريك))(42)، تطرق الشيرازي الى صيغة تنهى الفاسدين عن الشرك بالله موضحاً ان الآية الكريمة ذكرت بان هذه العبادة باطلة وان الله لا شريك له في العبادة ليرتدعوا ويفقهوا طريق الايمان الحقيقي.
2- النهي الارشادي: من الأغراض التي يخرج اليها النهي الارشادي قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }{البقرة/35}، يقول السيد الشيرازي: ((فقد نهوا عن شجرة واحدة، اختباراً وامتحانا ً، وكانت الشجرة على قول جمع ((الحنطة)) وقد كان النهي ارشاديا ً، كنهي الطبيب مريضه أن لا يأكل ما يضره، وقد كانت فائدة عدم اكلهما لها أنهما يبقيان في الجنة))(43)، وضح السيد الشيرازي ان الآية الكريمة نهتهم من الاقتراب للشجرة لإرشادهم الى طريق الجنة والصلاح.
4- الإخبار: من الأغراض التي يخرج اليها الامر هو الاخبار كما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}{البقرة/24}، يقول السيد الشيرازي: ((هذا اخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، إذ القرآن معجز فلا يمكن الاتيان بمثله))(44).
اشار الشيرازي الى ورود النفي في الآية الكريمة لغرض الاخبار لما اطلق عليه في كلام العرب بالنفي المؤكد او المؤبد، أي يراد بيان بانهم لا يستطيعون ان يصنعوا مطلقا ً ما يشابه القرآن الكريم وبصيغة قطعية.
الخاتمة
الحمدُ للهِ الذي نزَّلَ الكتابَ على عبدهِ ليكونَ للعالمينَ نذيراً، والصلاةُ والسلامُ خاتم النبيين محمد بن عبد الله وعلى آلهِ الغر الميامين، الطيبين الطاهرين.
بعد هذه الرحلة التي قضيناها مع تفسير (تقريب القرآن للأذهان) في جزئه الأول تمخض البحث عن نتائج توصلت إليها من خلال التوغل في سبر هذا التفسير أوردها كالآتي:
1ـ أشار السيد الشيرازي إلى المفهوم البلاغي للإنشاء بوساطة الأغراض المجازية التي خرج إليها الإنشاء بأقسامه المختلفة.
2ـ كان للأمر أثره في توجيه المعنى وبوساطته تبيَّن الغرض البلاغي من إيراده في موضعه.
3ـ وضع السيد الشيرازي يده على المفهوم السياقي لجمل الإنشاء البلاغية وكيفيَّة أداء المعاني الثانوية بوساطتها.
4ـ النداء كانت له الحصَّة التي لا يمكن تغافلها في لبية حاجة السياق، وهذا ما أشار إليه السيد الشيرازي في تفسير الجزء الأول.
5ـ كما أن النهي البلاغي ـــ على قلَّة إيراده في تفسير السيد الشيرازي ــ كان له موضعه وموقعه المؤدَّى من خلاله المعنى.
اضف تعليق