دولة غنية برأس المال مثل الصين تتمتع بميزة طبيعية في التحول الأخضر. بهذا المعنى، لا تُـعَـد القدرة الفائضة عيبا، بل سمة من سمات الاقتصاد الذي يتمتع بفائض من المدخرات. الواقع أن المنتجين الصينيين من المرجح أن يهيمنوا على الصناعات الخضراء، مثل الطاقة المتجددة، والبطاريات، والمركبات الكهربائية...
بقلم: دانيال غروس

ميلانوــ مرة أخرى، تتصاعد التوترات المحيطة بالنظام التجاري العالمي، مع تحول الصين إلى هدف للانتقادات من جوانب عديدة. فقد حثت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين الحلفاء الموجهين حسب السوق على إقامة "جدار معارضة" للصين فيما يتصل بقدرتها الصناعية الفائضة، والتي تزعم أنها نتيجة لإعانات دعم حكومية سخية وغير ذلك من السياسات الصناعية. على نحو مماثل، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى اتخاذ إجراءات ضد "المنتجات المدعومة" الصينية، من المركبات الكهربائية إلى الصلب، والتي "تجتاح السوق الأوروبية".

المشكلة هي أن قدرا كبيرا من الـقَـدح والذم يركز على إجراءات محددة تتخذها الحكومة الصينية، مثل الطلب الأخير الموجه من الهيئات التنظيمية الصينية إلى المؤسسات المالية بزيادة الائتمان للصناعات الاستراتيجية، مثل الذكاء الاصطناعي، والتصنيع الأخضر. لكن الهدف من هذه التدابير يتمثل في معالجة أعراض تحد أشد عمقا: المدخرات الصينية الفائضة.

لكن معدلات الادخار الوطنية في الصين تظل قريبة بعناد من 45% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 26% في الاتحاد الأوروبي وأقل من 17% في الولايات المتحدة. على مدار عقود من الزمن، كانت هذه المدخرات توجه في الأغلب نحو الاستثمار في العقارات والبنية الأساسية، والذي بلغ لفترة طويلة ما يقدر بنحو 25% إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن نصيب كل فرد في الأسر الصينية من مساحة المعيشة يزيد على 41 مترا مربعا (حوالي 441 قدما مربعا)، وهو ذات نصيب الفرد في المتوسط الأوروبي، كما تتمتع الصين ببنية أساسية متطورة للنقل، تشمل خطوط قطارات فائقة السرعة أكثر من بقية بلدان العالم مجتمعة. وما لم تكن الصين راغبة في مزيد من المدن المهجورة والطرق السريعة الخاوية، فإن إبطاء الإنفاق على البناء أمر لا مفر منه.

حدث شيء مماثل في اليابان في تسعينيات القرن العشرين، بعد انفجار فقاعة العقارات. وكما هي الحال في الصين، كان تمويل نشاط البناء جاريا لفترة طويلة من خلال المدخرات المحلية المرتفعة. ولكن عند نقطة معينة، توقفت أسعار العقارات عن الارتفاع، وتباطأ الاستثمار في البناء بشكل حاد. وإدراكا منها لضرورة توجيه المدخرات إلى مكان ما، زادت الحكومة إنفاقها الاستثماري بشكل حاد. لكن اليابان لم تكن في احتياج إلى مزيد من البنية الأساسية، واضطرت الحكومة مع انتشار الجسور التي لا تؤدي إلى أي مكان إلى التخلي عن هذه السياسة. وبهذا لم يعد أمام فائض الادخار سوى مكان واحد يتجه إليه: الخارج، عبر الين الأضعف وفائض تجاري كبير.

استجابت اقتصادات أخرى ــ وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية ــ لفوائض الصادرات اليابانية بإجراءات كان الهدف منها حماية الشركات الغربية القائمة في القطاعات التي تواجه منافسة جديدة من جانب منتجين يابانيين. وفيما يتعلق بالسيارات على وجه الخصوص، كان لزاما على الحكومة اليابانية أن توافق على فرض قيود "طوعية" على الصادرات لإرضاء شركائها التجاريين الغربيين. لم تفعل مثل هذه العقبات التي وُضِـعَـت أمام الصادرات اليابانية الكثير لتقليص الفائض التجاري الياباني، الذي كان يتحدد وفقا للفائض المحلي من المدخرات، لكنها أدت إلى تحويل الضغوط التنافسية إلى قطاعات أخرى.

الصين أكبر كثيرا من اليابان بطبيعة الحال ــ نحو 12 ضعف عدد السكان، وخمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ولكن في أوج ازدهارها في ثمانينيات القرن العشرين ــ عندما كان الاقتصاد العالمي أصغر كثيرا مما هو عليه اليوم ــ كانت اليابان تمثل نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وحصة مماثلة من التجارة العالمية. وهذا لا يقل كثيرا عن حصة الصين اليوم. وفي حين من المنتظر أن تصبح الصين أكثر أهمية بدرجة كبيرة مقارنة بأي مستوى بلغته اليابان في أي وقت مضى ــ حيث يترجم عدد سكانها الأضخم إلى إمكانات نمو هائلة ــ فإن وزنها النسبي في الاقتصاد العالمي اليوم يماثل وزن اليابان قبل بضعة عقود من الزمن.

ولكن لا يخلو الأمر من اختلافات مهمة في الظروف بين البلدين ــ بدءا بالبيئة الجيوسياسية. إذ كانت اليابان الديمقراطية تُـعـتَـبَـر ركيزة للنظام العالمي ــ وليس تهديدا له. على النقيض من هذا، تسعى الصين المتزايدة الاستبداد صراحة إلى قلب النظام الجيوسياسي العالمي القائم. ومن منظور الغرب، يبدو هذا سببا وجيها لمحاولة تقييد قوة الصين الاقتصادية.

لكن الأمر ينطوي على فارق رئيسي ثان: تغير المناخ، الذي يستلزم خفضا عاجلا للانبعاثات العالمية من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي. وتتطلب التكنولوجيات اللازمة للاستعاضة عن الوقود الأحفوري في إنتاج الطاقة بمصادر بديلة استثمارات رأسمالية أولية ضخمة ــ على سبيل المثال، لبناء متنزهات للطاقة الشمسية أو طاقة الرياح ــ لكن الطاقة تُنتَج بعد ذلك بتكلفة هامشية صفرية في الأساس.

وعلى هذا فإن دولة غنية برأس المال مثل الصين تتمتع بميزة طبيعية في التحول الأخضر. بهذا المعنى، لا تُـعَـد القدرة الفائضة عيبا، بل سمة من سمات الاقتصاد الذي يتمتع بفائض من المدخرات. الواقع أن المنتجين الصينيين من المرجح أن يهيمنوا على الصناعات الخضراء، مثل الطاقة المتجددة، والبطاريات، والمركبات الكهربائية، حتى في غياب أي إعانات دعم حكومية خاصة.

ولأن التحول الأخضر الأسرع يعود بالفائدة على الجميع، فيجب أن تكون النظرة إلى المدخرات المرتفعة في الصين ليس باعتبارها مشكلة يجب حلها، بل كفرصة يجب اغتنامها. من المؤسف أن الولايات المتحدة مهووسة بمنافستها الجيوسياسية مع الصين إلى الحد الذي جعلها تغلق سوقها فعليا أمام المنتجات الصينية الخضراء. ويُـعَـد القرار الأخير الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بمضاعفة التعريفة الجمركية على المركبات الكهربائية الصينية أربعة أمثال، ليصل المعدل إلى 100%، مثالا واضحا على ذلك.

الواقع أن الاتحاد الأوروبي أقل انشغالا بالمنافسة الجيوسياسية مع الصين. ذلك أن الكتلة لا تتمتع بموقف مهيمن قد تخسره، وهي تدير فائضا تجاريا كبيرا في الإجمال، مع انخفاض وارداتها من الصين خلال العام الماضي. ولكن على الرغم من هذا الموقف الإيجابي في مجمل الأمر، فرضت مفوضية الاتحاد الأوروبي مؤخرا رسوما جمركية مضادة للدعم بنحو 20% على الواردات من المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات من الصين. هذه خطوة في الاتجاه الخاطئ، وإن كانت على الأقل أكثر اعتدالا من الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة بنسبة 100%.

بدلا من تنفيذ تدابير الحماية لمنع السلع الصينية من "اجتياح" سوقه، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يرحب بالسلع الخضراء الرخيصة القادمة من الصين، وأن يُـسَـخِّـر فعليا المدخرات الصينية لخفض تكلفة التحول إلى الطاقة النظيفة.

* دانيال غروس، مدير معهد صنع السياسات الأوروبية في جامعة بوكوني.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق