النظام السياسي السيّئ المستبد العنيد هو دائما يصنع بيئات سيئة يزرع فيها روح الأنانية والفردية عند الإنسان، ويبعد الإنسان من الحالة الفردية للتضامن الاجتماعي ويجعل منه لا شيء، والنظام السياسي الفاسد كذلك حتى لو كان ديمقراطيا، ولكنه فاسد في انتخاباته يؤدي الى تدمير المسؤولية الاجتماعية...
إن المسؤولية الاجتماعية تبدأ من إحساس الفرد بهذه المسؤولية الفردية وادراكها، بحسب شعوره وفهمه لهذه المسؤولية، فالمسؤولية عند الإنسان هي غريزة، وليست فقط اكتساب وتعلّم، فكل الفضائل بحد ذاتها والسلوكيات الأخلاقية عند الإنسان هي قيم فطرية، ثابتة في داخل الإنسان.
الصدق، الأمانة، الشجاعة، كل هذه الفضائل موجودة في داخل الإنسان، لذلك نلاحظ أن الإنسان في أوقات معينة عندما يُستنفَر أو يُستفَز أو يتعرض إلى خطر معين أو إلى قضية معينة تظهر عنده هذه الغرائز، مثال عن ذلك إذا حصل حادث معين لا سمح الله في الشارع، نلاحظ أن هذا الإنسان بمجرد أن يرى إنسانا آخر تعرّض لحادث يهب ويستنفر نفسه لإنقاذ ذلك الشخص ويتعاطف معه، لأنه يشعر بالمسؤولية تجاه الآخر دون حاجة ان ينتبه لها. فهذه غريزة موجودة في الإنسان، وأن الآخر هو أخوه، شبيه له أو هو نظير له.
ولكن لماذا نرى هذا الإنسان يتخلى عن مسؤوليته ويصاب بتبلد عاطفي وجمود في المشاعر ولاتستفزه حاجة أخيه الانسان الى المساعدة؟
أتصور ان التعلّم المضادّ، أو الاكتساب المرتد ضد هذه القيمة الفطرية والسلوكية، يجعله يتخلى عن مسؤوليته من خلال التربية السيئة أو التغذية الفكرية أو التغذية الانفعالية عند الإنسان في داخل الأسرة أو المدرسة، أو المجتمع. فيُعلَّم قيما وسلوكيات ضد هذه الغريزة الأساسية والقيمة الفطرية.
لكن المشكلة الأساسية أن التعلّم الاجتماعي العام للإنسان، أو التنشئة الاجتماعية العامة هي مجموعة تراكيب وتراكمات مستمرة، تتراكم كالجبل ويتواصل هذا التراكم إلى أن تصبح شيئا ثقيلا في داخل المجتمع بحيث لا يمكن تغييره، لذا نلاحظ بعض المجتمعات توجد لديها صفات معينة خاصة بها، وسلوكيات خاصة هي ليست من طبيعتها وإنما هي بسبب النشأة في المجتمع على هذه القيم والسلوكيات الموجودة في هذا المجتمع.
مثلا معروف عن اليهود بأنهم بخلاء وماديين ويحبون المال كثيرا، وقد مرت آلاف السنين بحيث تعلّموا على هذه القضية، واعتادوا ذلك إلى أن أصبح امرا جينيا راسخ في داخلهم.
لذا فإن عملية انتزاع المسؤولية من الإنسان وقلعها من داخله يتم من خلال توارث السلوكيات الأنانية، سواء تم ذلك في أسرته أو في مجتمعه وفي الحاضنات التي يعيش فيها والبيئات التي ينمو بها.
مثال عن ذلك نفترض أن هذا الإنسان اليوم يتعلم سلوكا أنانيا ويعيش في مجتمع ثان أو في حاضنة ثانية فيها نوع من المسؤولية الاجتماعية ونوع من العطاء ونوع من المشاركة الجماعية فهذا الإنسان يتفاعل مع البيئة الجديدة ويتغير مع تلك الحاضنات الموجودة في ذلك المجتمع.
على سبيل المثال نلاحظ أن الإنسان العراقي في ايام شهريّ محرّم وصفر يتغيّر، وينتقل من سلوك إلى سلوك آخر، بسبب التغيّر الذي حصل في الحاضنة، وهذه الحاضنة البديلة فيها قيم وأفكار وقوانين وقواعد تعطي للإنسان اجواء جديدا، فيحدث عنده نوع من العطاء والشعور بالمسؤولية والتضامن والتكافل الإنساني.
في شهر رمضان كذلك، نلاحظ أن الإنسان الذي يكون أنانيا ونفعيا على مدى أيام وشهور السنة، ولا يهتم بالآخرين، لكنه ما أن يدخل في شهر رمضان سوف يتغيّر سلوكه وأخلاقياته، وهذا يعني أن الحاضنة لها تأثير كبير في عملية تحريك المسؤولية الاجتماعية.
النظام الاستبدادي
النظام السياسي السيّئ المستبد العنيد هو دائما يصنع بيئات سيئة يزرع فيها روح الأنانية والفردية عند الإنسان، ويبعد الإنسان من الحالة الفردية للتضامن الاجتماعي ويجعل منه لا شيء، والنظام السياسي الفاسد كذلك حتى لو كان ديمقراطيا، ولكنه فاسد في انتخاباته يؤدي الى تدمير المسؤولية الاجتماعية عند الإنسان.
كذلك الأيديولوجيات التي تتحرك باستمرار، وتزرع بعض الأفكار في عقل الإنسان، مثلا الأيديولوجية التي تظهر في علم النفس في دراسات وكتابات فرويد، فهي تحرك الغريزة الجنسية أو تحرك الغرائز الأنانية عند الإنسان، بمعنى إنه يقرأ الإنسان من خلال غرائزه الأنانية، ولا يقرأ الإنسان من ناحية كونه إنسانا يتفاعل مع الآخرين.
فهذا الأمر يؤدي إلى قراءة بأن هذا الإنسان جنسي، أو إنسان غريزي فقط، وهو لا يمتلك قيمة فطرية، وليس لديه قيمة إنسانية او اجتماعية، كذلك أيضا الرأسمالية فهي أيديولوجية تفرّغ الإنسان من حالته الاجتماعية والأخلاقية، وتجعله في حالة الاستهلاك والنفع واللذة فقط، فيتحول الإنسان إلى مجرد سلعة تتحرك في هذا العالم.
الأيديولوجيات الفردية
فالايديولوجيات في نظريات ما بعد الحداثة رسخت الفردية، والفردية هي مذاهب تحرك الإنسان نحو التخلي عن الجماعة بل يكون ضدها، تحت زعم أنه يحقق فرديته ووجوده الذاتي.
وبالنتيجة فإن الفردية في تطرفها هي عملية ارتداد الإنسان عن دوره الاجتماعي ومسؤوليته الاجتماعية، فكما نلاحظ اليوم الأنظمة في دول العالم مثلا النظام الرأسمالي وكثير من الأفكار الاقتصادية تؤكد على قضية الربح والاستفادة، كما نلاحظ أن النظرية الاقتصادية تؤكد على عملية الربح دون أن يكون هناك اي شيء مرتبط بالأخلاق عند الإنسان.
ولذلك توصف الرأسمالية بالمتوحشة، بمعنى ليس فيها أخلاق، ولا توجد فيها مسؤولية تجاه الآخرين، بينما المصلحة الموجودة عند الإنسان لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التفاعل والاشتراك الاجتماعي أو المشاركة المجتمعية فيما بين الأفراد، سواء كان المجتمع المحلي أو الإقليمي أو الدولي، فلا يمكن لأي مجتمع أو دولة في العالم، أن تقول أنا افكر في مصالحي، فهذا الاقتصاد مرتبط كله في نمو عالمي واحد، وهذا هو معنى المسؤولية.
بمعنى أن أمريكا تقع عليها مسؤولية تجاه كل دول العالم، وكذلك روسيا أيضا مسؤوليتها تشمل كل العالم، فلا يصح ولا يجوز أن تتصرف تصرفات خارج إطار هذه المسؤولية العالمية، وإلا فإن أي شيء أو اي إجراء سوف يضرها، كما لاحظنا ذلك فيما سمّي بجائحة كورونا، فكورونا هو تعبير عن اختلال مفهوم المسؤولية في العالم.
بالنتيجة لا يمكن لحد أن يقول أمريكا أولا أو أوربا أولا أو بريطانيا أولا أو فرنسا أولا، فهذا بالنتيجة كله يؤدي إلى الفوضى ويؤدي إلى الصراعات المتكاثرة التي تحدث فيما بين الدول.
التعليم هو اللبنة الاولى
من ناحية التربية والتعليم فإن التعليم هو اللبنة الأساسية، لتربية قيمة المسؤولية، فهذه القيمة إذا لم تربَّ بطريقة صحيحة تصبح فاقدة لمحتواها.
فلابد للتعليم أن يكون أساس التربية، لأنه إذا تعلّم الإنسان أن يكون مسؤولا سوف يكون ناجحا في حياته، وسيكون ناجحا اجتماعيا، أما إذا تعلَّم أن يفكر بنفسه فقط، بالنتيجة سوف يكون فاشلا وغير قادر على الاستمرار في التفاعل والتعاون الاجتماعي، وأهم نقطة في أن يتعلّم الإنسان المسؤولية الاجتماعية، هو أن مصلحة الفرد تتحقق من شيء أساسي وهو المصلحة العامة وركوب قاطرة الصالح العام.
حيث تتحقق المسؤولية الاجتماعية من خلال المصلحة العامة ولا يمكن لأي شخص أن يحقق مصالحه من دون أن يفهم اهمية المصالح العامة، ومن ثم يشارك في حماية الإطار الاجتماعي العام.
من يقود قاطرة التغيير؟
إن الرأي العام هو قائد التغيير، وليست النخب، فالنخب خصوصا في هذا العصر لم تنجح، أما الذي قاد التغيير فهو الرأي العام، وهو قادر على أن يضغط من خلال تفاعل المجموع، فالنخب الجيدة هي التي تغذي الرأي العام بالأفكار الجيدة والأفكار الصالحة والإيجابية.
بالنتيجة فإن الراي العام هو الذي يقود التغيير ويفرض نفسه على كثير من الأجندات الموجودة، بل يفرض نفسه وأهدافه حتى على النخب ويقودها بتجاه التغيير، لذا من الضروري للرأي العام أن تكون لديه هذه الرؤية حتى لا يقود نفسه، والشعوب لا تقود نفسها ولا الأجيال المقبلة إلا بعد الوقوع في الكوارث، فبعض الكوارث هي صنيعة الشعوب حيث تخلى الرأي العام عن مسؤوليته، فقيادة التغيير تتحقق من خلال وعيه وفهمه لمسؤوليته، وان الجميع يركب في سفينة واحدة أو مركب واحد.
وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية والمنابر الحسينية والمساجد لها دورها الكبير أيضا، في تسليط الأضواء على اهمية المسؤولية، ولا نعني هنا المسؤولية المتجزئة، فبعضهم يتحمل المسؤولية والبعض الآخر لا يتحمل المسؤولية، كما يحدث الآن في العراق الآن حول ملف الكهرباء، لا أحد يتصدى لهذا الملف ولا يتحمل مسؤوليته ولهذا تكون النتيجة انطفاء مستمر وخلل دائم في الطاقة الكهربائية.
هذا يعني بأنه اي شيء لن يتحقق الا من خلال مسؤولية جماعية مشتركة، من خلال وجود نظام عام لحماية المصالح العامة، فالفوضى هي نتيجة ان الكل يفكر في مصلحته الشخصية أو الفردية فقط.
ان إطلاق حملات المسؤولية العامة جيدة، إذا تم التحرّك في هذا الاتجاه، ولكن هذا الشيء مفقود في مجتمعنا، لذا يجب أن تكون لدينا حملات التوعية بالمسؤولية العامة، مثلا حملات النظافة وحملات حماية البيئة وتحسين حياة المدينة. وهذه الفعاليات يمكن أن تدعمها الدوائر الحكومية والهيئات المدنية والمواكب الحسينية وحتى المنظمات الأهلية، الأحزاب، الجامعات. وهكذا يمكن القيام بعمليات تكون مضمونة وجادة في محتواها لترسيخ المسؤولية الاجتماعية.
اضف تعليق