إننا نقف على مفترق طرق بين التكنولوجيا والأخلاقيات. فلا يمكن التراجع عن اختراع الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما يحمله من وعود كبيرة وأسئلة وجودية عميقة. وبينما نستفيد من قوته التحويلية، فمن الضروري أن نتذكر نصيحة تورينغ الباقية. فالذكاء الاصطناعي التحويلي يمثل تحولا هائلا يتطلب رقابة يقظة، وأطرا تنظيمية جديدة...
بقلم: هيرفيه تورب
يُتوقع للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يطلق موجة من الإبداع والإنتاجية، غير أنه يطرح أسئلة مهمة للجنس البشري
تَصَوَّر عالما تحل فيه الآلات محل الفنانين أو القصَّاصين أو حتى الاقتصاديين، وتقدم محتوى يحاكي ما يصنعه الذكاء البشري. كان آلان تورينغ، عالِم الكمبيوتر الرائد، أول من تصور إمكانية وصول الآلات إلى مستويات الإتقان تلك، وهو ما عبر عنه في بحث صدر عام 1950. ومع ظهور نموذج الذكاء الاصطناعي "ChatGPT" وغيره مما يسمى بأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح تنبؤه بشأن "لعبة المحاكاة" واقعا ملموسا. ويبدو الأمر وكأن هناك من قذف بنا فجأة في عالم كان مقصورا على دنيا الخيال العلمي. ولكن ما الذي يعنيه بالضبط الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) هو التقدم الأكثر إبهارا على الإطلاق بين جميع تكنولوجيات تعلُّم الآلة. فهو يمثل قفزة كبيرة في قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم أنماط البيانات المعقدة والتفاعل معها، ومن المتوقع أن يطلق موجة جديدة من الإبداع والإنتاجية. بيد أنه يطرح أسئلة مهمة أيضا للجنس البشري. وهناك ابتكارات أساسية فارقة رسمت الطريق نحو ما أحرزه من تطور هائل.
ففي ستينات القرن الماضي، أُعجِب العلماء ببرنامج اسمه روبوت الدردشة "إليزا" لقدرته على توليد استجابات مماثلة لاستجابات الإنسان. كان برنامجا بسيطا يعمل وفق مجموعة من القواعد، لكنه كان مقدمة لما يعرف الآن باسم "روبوتات الدردشة" (chatbots). وبعد مرور عقدين من الزمن، ظهرت الشبكات العصبية الاصطناعية (neural networks). وبفضل هذه الشبكات، المستوحاة من عقل الإنسان، اكتسبت الآلات مهارات جديدة، مثل فهم الفوارق اللغوية الدقيقة والتعرف على الصور. بيد أن محدودية كم البيانات المتاحة للتدريب وعدم كفاية القدرة الحاسوبية أعاقا إحراز تقدم حقيقي. ومن اللافت للنظر أن هذين الموردين المتلازمين استمرا في التضاعف كل عام، مما مهد الطريق نحو انطلاق الموجة الثالثة من الذكاء الاصطناعي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: موجة التعلُّم العميق (deep learning).
التعلُّم العميق
وفي ظل ابتكارات مثل خدمة الترجمة الآلية Google Translate، والمساعدِين الرقميين مثل Alexa وSiri، ومع ظهور السيارات ذاتية القيادة، بدأت الآلات تفهم العالم وتتفاعل معه. وبرغم كل هذا التقدم، ظل هناك جزء مفقود من اللغز. فالآلات استطاعت أن تساعد وتتنبأ، لكنها عجزت عن أن تفهم فعليا تعقيدات المحادثة البشرية، وأبدت ضعفا في توليد محتوى يشبه المحتوى الذي يصنعه الإنسان.
وبعد ذلك، في عام 2014، استفادت الشبكات الخصومية التوليدية (generative adversarial networks) من قدرة شبكتين عصبيتين متنافستين بحيث تعمل كل منهما على صقل مهارات الأخرى بشكل متواصل. فقد أنشأت "الشبكة العصبية المولِّدة" (generator) بيانات أو نصوص أو صور بالمحاكاة، في حين حاولت "الشبكة العصبية المميِّزة" (discriminator) التمييز بين المحتوى الحقيقي والمحاكي. وأحدثت هذه المنافسة بين الشبكتين ثورة في الطريقة التي يفهم بها الذكاء الاصطناعي الأنماط المعقدة ويكررها.
وتم العثور على الجزء الأخير من اللغز في 2017 عند صدور بحث رائد بعنوان "الانتباه هو كل ما تحتاج إليه". فمن خلال تعليم الذكاء الاصطناعي التركيز على الأجزاء المهمة من المدخلات، بدا فجأة أن الآلة اكتسبت الإدراك – أي استيعاب جوهر المدخلات. ونتج عن هذا الذكاء الاصطناعي التوليدي محتوى يحمل شبها مخيفا بالمحتوى الذي يبتكره الإنسان، على الأقل في المختبرات.
وأدت "الشبكات الخصومية التوليدية" مع آليات الانتباه، بدعم من المعلومات المتنامية والقدرة الحاسوبية، إلى تمهيد الطريق أمام نموذج الذكاء الاصطناعي "ChatGPT" - وهو روبوت الدردشة الأكثر إثارة للدهشة على الإطلاق. وقد أطلقت هذا النموذج شركة OpenAI في نوفمبر 2022، وسرعان ما تبعتها شركات أخرى من عمالقة التكنولوجيا بإنتاج روبوتات دردشة خاصة بها تقوم على استخدام الذكاء الاصطناعي.
الاقتصاد والتمويل
وبطبيعة الحال، لا يمثل الذكاء الاصطناعي مفهوما جديدا في الاقتصاد والتمويل. فالذكاء الاصطناعي التقليدي (التحليل المتقدم، وتعلُّم الآلة، والتعلُّم العميق التنبؤي) لم يتوقف عن معالجة الأرقام، وقياس اتجاهات السوق، وتصميم المنتجات المالية بما يتوافق مع الاحتياجات. وما يميز الذكاء الاصطناعي التوليدي عن غيره هو قدرته على التعمق في البيانات المعقدة وتفسيرها بطريقة أكثر ابتكارا. وعبر التحليل المفصل للعلاقات المعقدة بين المؤشرات الاقتصادية أو المتغيرات المالية، لا يُصدِر الذكاء الاصطناعي مجرد تنبؤات فحسب، إنما ينتج أيضا سيناريوهات بديلة، ورسوم بيانية متعمقة، بل وحتى مقتطفات كودية يمكن أن تُحْدِث تغييرا كبيرا في كيفية عمل هذا القطاع.
وكان التطور من الذكاء الاصطناعي التقليدي إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي فاتحة عصر جديد من الإمكانات في القطاعين العام والخاص. فقد بدأت الحكومات في استخدام هذه الأدوات الأكثر ذكاء لتحسين الخدمات التي تقدمها للمواطنين والتغلب على نقص القوى العاملة. كذلك تهتم البنوك المركزية بهذه الإمكانات، إذ ترى في الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرة أكبر على غربلة كميات هائلة من البيانات المصرفية، من أجل تحسين التنبؤات الاقتصادية ورصد المخاطر، بما في ذلك الاحتيال.
وتتجه الشركات الاستثمارية إلى استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لرصد التحولات الدقيقة في أسعار الأسهم ومعنويات السوق، مستفيدة في ذلك من مجموعة كبيرة من المعارف لاقتراح خيارات أكثر إبداعا، مما يمهد الطريق لوضع استراتيجيات استثمارية قد تكون أكثر ربحية. وفي الوقت نفسه، تعمل شركات التأمين على استكشاف الكيفية التي يمكن بها للنماذج التوليدية أن تنشئ عقود تأمين مخصصة تتماشى بشكل أوثق مع الاحتياجات والتفضيلات الفردية.
،، مخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن تكون مقنعة لدرجة تخلق شعورا زائفا بكونها واقعا حقيقيا. وينطوي ذلك على إمكانية نشر معلومات مغلوطة، وإثارة الذعر، بل وزعزعة استقرار النظم الاقتصادية أو المالية ،،
ويواصل الذكاء الاصطناعي التوليدي التطور بوتيرة مذهلة، بحيث يتجاوز حدود قدرات الذكاء الاصطناعي في مجالي الاقتصاد والتمويل، ويقدم حلولا مبتكرة للتحديات القديمة. وتساور بعض الناس شكوك؛ إذ يقولون إن الذكاء الاصطناعي، كمثل ببغاء عشوائي، يمكن أن يخلق حقائق غير منطقية ولا صحيحة -وهي ظاهرة تسمى "الهلوسة"- ولا يعرف حقا المعنى الكامن وراء الكلمات. ويشيرون إلى أن المعارف التي يمتلكها نموذج الذكاء الاصطناعي "ChatGPT" تتوقف عند آخر تاريخ تم تدريبه فيه. ربما كانوا على صواب. ولكن في ظل سرعة الابتكار المذهلة، فإلى متى ستظل هذه الآراء منطقية؟
وبرغم ذلك، فإن الإثارة الكبيرة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي التوليدي في البداية حلت محلها مخاوف متزايدة وحقيقية. فالتحديات التقليدية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مثل تضخيم التحيزات القائمة في بيانات التدريب، أو الافتقار إلى الشفافية في صنع القرار، قد اكتسبت طابعا ملحا جديدا، كما نشأت مخاوف جديدة.
الذكاء الاصطناعي يتحول إلى سلاح
ومن المخاطر المثيرة للقلق البالغ ما يتمتع به الذكاء الاصطناعي التوليدي من قدرة فائقة على سرد قصص تجد صدى في معتقدات الأفراد ووجهات نظرهم الراسخة، مما قد يعزز من ظاهرة "غرف الصدى" و"الصوامع الأيديولوجية". وبمقدور الأطراف ذات النوايا الخبيثة أن تستفيد من هذه القدرة، ليس فقط من خلال الكلمة المكتوبة. ففي مارس 2022، ظهر مقطع فيديو من إنتاج الذكاء الاصطناعي شوهد فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وكأنه يستسلم للقوات الروسية. وتبين مثل هذه الأحداث كيف يمكن تحويل الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى سلاح للتلاعب بالسياسة والأسواق والرأي العام.
وسواء كانت قصة ملفقة، أو صورة مركبة، أو فيديو اصطناعي، فإن مخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن تكون مقنعة لدرجة تخلق شعورا زائفا بكونها واقعا حقيقيا. وينطوي ذلك على إمكانية نشر معلومات مغلوطة، وإثارة الذعر، بل وزعزعة استقرار النظم الاقتصادية أو المالية بكفاءة وقوة غير مسبوقتين. وقد لا يكون الأمر متعمدا دائما؛ فقد تنشر الآلات معلومات مغلوطة عن غير قصد نتيجة لهلوسات الذكاء الاصطناعي.
ولا يقتصر خطر الذكاء الاصطناعي على التلاعب. فإزاحة الوظائف تمثل شاغلا آخر مع استمرار التقدم في الذكاء الاصطناعي التوليدي، مما قد يؤدي إلى أتمتة مهام كان يؤديها الإنسان، ومن ثم فقدان الكثير من الوظائف، وظهور الحاجة إلى استراتيجيات للتوظيف وإعادة التدريب.
وكان كبار خبراء الذكاء الاصطناعي، ومنهم مبتكر نموذج "ChatGPT"، قد اشتركوا في مطلع هذا العام في التوقيع على رسالة* تحذر من أن "التخفيف من حدة مخاطر الانقراض بسبب الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يصبح أولوية عالمية إلى جانب المخاطر الأخرى على مستوى المجتمعات، مثل الأوبئة والحرب النووية". وكان في تلك الرسالة تعبير عن المخاوف التي أعرب عنها تورينغ منذ عقود سابقة، حيث حذر من "خطر سيطرة الآلات على حياتنا في نهاية المطاف".
إننا نقف على مفترق طرق بين التكنولوجيا والأخلاقيات. فلا يمكن التراجع عن اختراع الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما يحمله من وعود كبيرة وأسئلة وجودية عميقة. وبينما نستفيد من قوته التحويلية، فمن الضروري أن نتذكر نصيحة تورينغ الباقية. فالذكاء الاصطناعي التحويلي يمثل تحولا هائلا يتطلب رقابة يقظة، وأطرا تنظيمية جديدة، والتزاما راسخا بالابتكارات الأخلاقية التي تتسم بالشفافية ويمكن التحكم فيها وتتسق مع القيم الإنسانية.
اضف تعليق