ما وصلت له الأرجنتين اليوم، هو ناتج لسلسلة طويلة من القرارات الخاطئة، فالبلد تشهد عجزا في الميزانية للعام الثالث عشر على التوالي، والحكومات والرؤساء يتوالون عليها، ومع كثرة وعودهم وخططهم، إلا أن فتراتهم عادة ما تنتهي بعجز أكثر في الميزانية، وقروض أعلى من سابقتها، ومعدلات تضخم أقل ما...
فاز المرشح الانتخابي للحزب الليبرالي اليميني (خافيير ميلي) برئاسة الأرجنتين، وهو مرشح ذو تصاريح رنانة ووجهات نظر مثيرة للجدل، ولكنه فاز بالانتخابات بنسبة وصلت إلى 56 في المائة، وهو مؤشر على أن الأرجنتينيين اختاروه عن طيب خاطر. (ميلي) وعد بعلاج الصدمة للاقتصاد الأرجنتيني، وهو مصطلح قد لا يغري الكثير من الناخبين، إلا أنهم ومع ذلك اختاروه. فما الذي يدفع الناخبين لانتخاب رئيس يعلمون أنه قد يؤثر عليهم سلبا في المستقبل القريب على الأقل؟ وما الحال التي وصلت إليها الأرجنتين لتأخذ هذا المسلك؟
لفهم ما وصل إليه الأرجنتينيون من يأس، تجب معرفة بعض الحقائق عن دولة كانت في يوم من الأيام من الدول الثرية، ودولة لا تزال إحدى دول «مجموعة العشرين» ذات الاقتصادات الكبرى في العالم. وهي دولة زراعية ذات أرض خصبة، وتملك من الثروة المعدنية مثل ما تملكها جارتها تشيلي ذات الاقتصاد المنتعش، فهم يتشاركون ذات الجبال التي تحمل في باطنها معادن ذات قيمة استراتيجية مثل النحاس وغير ذلك. ومع ذلك، فالأرجنتين اليوم تشهد معدل تضخم وصل إلى 140 في المائة، ولا توجد دولة أسوأ منها في هذا المعدل إلا فنزويلا. وفقدت عملتها نحو 90 في المائة من قيمتها خلال الأربع سنوات الماضية. وهي أعلى دولة اقترضت من صندوق النقد الدولي برقم تجاوز 44 مليار دولار، وقروضها تشكل نحو ثلث القروض التي منحها الصندوق. ووصل فيها معدل الفقر إلى أن أصبح كل اثنين من خمسة أرجنتينيين يعيشون تحت خط الفقر.
والحكومة الأرجنتينية تتبع سياستين تتبعهما بعض دول العالم، ولكن المزج بينهما كما تفعل الأرجنتين يعد وصفة للنكبات الاقتصادية.
الأولى أن الحكومة الأرجنتينية تعتمد على الدخل الذي تنتجه طباعة النقود، ولذلك فهي تطبع مزيداً من النقود سنويا لتمويل ميزانياتها. اتباع هذه السياسة بشكل مفرط يغذي التضخم بشكل لا يصدق، إلا أن الحكومات السابقة لم تتوقف عن اتباعها.
الثانية: الاقتراض بكثافة، والأرجنتين هي إحدى أكثر الدول التي تفشل في سداد ديونها، وقد سبق لها التخلف عن السداد أكثر من مرة، وهذا ما زاد تكلفة القروض عليها، هذا في حال وجدت من يقرضها. ولذلك فهي عادة ما تلجأ إلى صندوق النقد الدولي، الذي يبدو أن شروطه الكثيرة للإقراض كانت غير ذات نفع. ومما يزيد الوضع سوءاً أن سداد الديون بالعملة الأجنبية تتضاعف صعوبته إذا ما كانت الدولة تعاني من التضخم.
والحكومة في حاجة إلى تمويل عالٍ لأسباب منها كثرة الموظفين الحكوميين الذين وصل عددهم إلى ثلث القوى العاملة في البلد. كما أن الحكومة تنفق بسخاء على دعم السلع والطاقة، والأخيرة تحديداً كلفت الأرجنتين نحو 12 مليار دولار العام الماضي، حتى بلغ متوسط فواتير الطاقة في الأرجنتين أقل من 13 في المائة من مثيله في أوروبا التي لا تقدم دعماً مثيلاً لأسعار الطاقة. والمعضلة أن الحكومة إن أرادت رفع هذا الدعم لتوفير النفقات، فسوف ينعكس ذلك بشكل مباشر على التضخم التي تعاني لكبح جماحه.
ولذلك فإن أول ما استهدفه الرئيس المنتخب (ميلي) هو تقليل الصرف الحكومي، واتضح ذلك في مقطعه المتداول الذي ينزع فيه بطاقات الوزارات والمؤسسات معلنا إلغاءها، ولعل البنك المركزي من أكثر هذه المؤسسات إثارة للجدل. فالرئيس الجديد يريد إلغاء البنك المركزي تماما، والاعتماد على الدولار بشكل كلي فيما يعرف بـ (دولرة الاقتصاد). وقد سبق للأرجنتين أن جربت حلا مشابها في نهاية التسعينات الميلادية حينما وحدت سعر صرف (البيزو) بدولار واحد، ولكنها تراجعت عن هذه السياسة عام 2002 بعد سلسلة من الاحتجاجات العنيفة التي صاحبت ركودا في البلاد. وليست الأرجنتين أول ما يتبع هذه السياسة، فهناك عدد من الدول مثل الإكوادور التي دولرت اقتصادها في عام 2000، والسلفادور عام 2001 وبنما التي تستخدم الدولار منذ استقلالها عام 1903، إضافة إلى دول أخرى تستخدم الدولار على نطاقات مختلفة مثل زيمبابوي ولبنان وتيمور الشرقية.
ولكن استخدام الدولار للأرجنتين ليس أمرا سهلا، فهو يعني أن السياسة النقدية للأرجنتين لن تصبح في بوينس آيرس بل في واشنطن. والاقتصادان مختلفان تماما من نواح عدة، وما قد يكون صالحا للاقتصاد الأمريكي قد لا يكون كذلك لمثيله الأرجنتيني. ولذلك فإن التعرض للصدمات الخارجية قد يكون أكبر في حال تحولت الأرجنتين للدولار بحكم أن أي تغيير في الولايات المتحدة سينعكس بشكل مباشر عليها. كما أن البنك المركزي الأرجنتيني لا يملك حاليا احتياطات كافية بالدولار، فكيف ستحصل الأرجنتين على دولاراتها للانتقال لهذه العملة؟
إن ما وصلت له الأرجنتين اليوم، هو ناتج لسلسلة طويلة من القرارات الخاطئة، فالبلد تشهد عجزا في الميزانية للعام الثالث عشر على التوالي، والحكومات والرؤساء يتوالون عليها، ومع كثرة وعودهم وخططهم، إلا أن فتراتهم عادة ما تنتهي بعجز أكثر في الميزانية، وقروض أعلى من سابقتها، ومعدلات تضخم أقل ما يقال عنها إنها فوق المتوسط. واليوم ومع اقتراح الرئيس المنتخب للتحول نحو الدولار، فقد تدخل الأرجنتين في مقامرة سياسية يصعب الخروج منها، ولكن يبدو أن الأرجنتينيين ضاقوا ذرعا بأحوالهم الاقتصادية التي تزداد سوءا منذ عقود، فقرروا وبطيب خاطر انتخاب رئيس يريد إحداث تغيير راديكالي، غير عابئين بما قد يؤدي له هذا التغيير، وكأن لسان حالهم يقول، لن يكون الوضع أسوأ مما هو عليه.
اضف تعليق