توصف بكين في مناطق كثيرة من العالم النامي، بالدائن النهم والمتشدد. ولا يُرى فرق بينها وبين الشركات المتعددة الجنسيات والدائنين الغربيين الذين سعوا في تحصيل سندات دينهم الملفقة في العقود الأخيرة. أي إن الصين، في عبارة أخرى، لم تجدد في مجال التسليف العدواني، وهي تسلك طريق المستثمرين الغربيين...
بقلم: فرانسيس فوكوياما، مايكل بينون
رفعت المشروعات الصينية نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات لا تطاق
يصادف هذا العام الذكرى الـ10 لمبادرة الرئيس الصيني "الحزام والطريق" (م ح ط اختصاراً)، وهي أوسع مشروع بناء وتطوير أبنية تحتية في تاريخ الإنسانية وأكثر المشروعات طموحاً. وبموجبه منحت الصين قروضاً بألف مليار دولار إلى أكثر من 100 بلد، وحجبت النفقات الغربية على التنمية، وغذت القلق من توسع نفوذ الصين وتأثيرها. ووصف كثير من المحللين القروض الصينية، بواسطة "مصرف BRI (بنك "بري" الخاص بمبادرة الحزام والطريق) بـ"دبلوماسية فخ الدين" الذي خطط له بقصد تمكين بكين من أن تكون لها اليد الطولى على البلدان الأخرى، بل والاستيلاء على أبنيتها التحتية ومواردها. فبعد أن تخلفت سريلانكا عن تسديد حصتها من مشروع ميناء هامبونتوتا، في 2017، حصلت الصين على إيجار لـ99 عاماً في إطار مفاوضة على الدين واتفاق جديد. وأثار الاتفاق قلق واشنطن وعواصم غربية أخرى. فغرض بكين الفعلي هو الوصول إلى التجهيزات الاستراتيجية في أنحاء المحيط الهندي والخليج والأميركيتين.
وفي أثناء الأعوام الأخيرة برزت صورة مختلفة عن المصرف، وأخفقت مشروعات أبنية تحتية كثيرة، مولتها الصين، في توليد العوائد التي انتظرها المحللون. ولما كانت الحكومات التزمت ضمان القروض، في أثناء المفاوضات، ألفت نفسها تحت دين ضخم، وعاجزة عن الحصول على تمويل مشروعات مقبلة، بل عن تسديد خدمة الدين المتراكم عليها. وليست هذه حال سريلانكا وحدها، بل هي كذلك حال الأرجنتين وكينيا وماليزيا أو مونتينيغرو، وباكستان، وتنزانيا، وبلدان أخرى كثيرة. والمشكلة في نظر الغرب، لا تقتصر على حيازة الصين الموانئ وتجهيزات استراتيجية أخرى في البلدان النامية، وتتعدى الأمر إلى وقوع هذه البلدان تحت مديونية خطرة- فتضطر إلى الاستغاثة بصندوق النقد الدولي، وغيره من الهيئات المالية الدولية التي يمولها الغرب، وطلب معونتها على تسديد القروض الصينية.
وتوصف بكين، في مناطق كثيرة من العالم النامي، بالدائن النهم والمتشدد. ولا يُرى فرق بينها وبين الشركات المتعددة الجنسيات والدائنين الغربيين الذين سعوا في تحصيل سندات دينهم الملفقة في أثناء العقود الأخيرة. أي إن الصين، في عبارة أخرى، لم تجدد في مجال التسليف العدواني، وهي تسلك طريق المستثمرين الغربيين المعروفة. وجراء هذا الصنيع، قد تغامر الصين بخسارة البلدان التي بذلت جهداً في استمالتها من طريق "م ح ط"، وتبديد النفوذ الاقتصادي في العالم النامي. وقد يزكي هذا أزمة دين أليمة في الأسواق الناشئة، ويقود إلى "عقد ضائع" على شاكلة ذاك الذي أصاب بلداناً كثيرة من أميركا اللاتينية في العقد التاسع من القرن الـ20.
فعلى الولايات المتحدة، وبلدان أخرى، في سبيل تجنب هذه النتائج المدمرة - وفي سبيل تجنب إنفاق مال المكلفين الغربيين على تسديد الديون الصينية المسمومة- الدعوة إلى إصلاحات عميقة تحول دون استغلال صندوق النقد الدولي وهيئات مالية دولية أخرى، وفرض معايير متشددة على بلدان تسعى في الحصول على تعويم ماليتها، واشتراط الشفافية على قروض أعضائها جميعاً، بمن فيهم الصين.
مفاوضات قاسية وأسواق ناعمة
وكان ريمون فيرنون، وهو اقتصادي درس في هارفرد، لاحظ في عُشر 1970، أن المستثمرين الغربيين يحرزون الغلبة في مفاوضاتهم مع البلدان النامية جراء حيازتهم رأس المال والدراية الضروريين لبناء المصانع والطرق وآبار النفط ومولدات الكهرباء التي تحتاج البلدان الفقيرة إلى بنائها على وجه الضرورة. وحصلوا على اتفاقات مربحة، وألقوا على عاتق البلدان النامية بالشطر الأكبر من المخاطر. ولكن، حال إنجاز المشروعات، كان ميزان القوى يميل إلى كفة البلدان النامية. فلا سبيل إلى سحب الأصول الجديدة، أو تخليصها من أيدي البلدان النامية التي حازت وزناً حين المفاوضة على تسديد الدين وحقوق الملكية. وأدت المفاوضات العسيرة، في بعض الأحيان، إما إلى تأميمات وإما إلى إعلان العجز عن السداد.
ومثل هذه السيناريوات حصل في بعض بلدان مبادرة حزام وطريق. فالمشروعات الكبيرة التي مولتها الصين ولدت عوائد مخيبة، ولم تنجح في تحفيز نمو اقتصادي شامل استبقه أصحاب القرار السياسي. وبعض المشروعات اصطدم بمعارضة الجماعات المحلية التي هددت المشروعات أرضها ومقومات عيشها. وبعض آخر أضر بالبيئة، أو عطلته نوعية البناء الصينية السيئة. وهذه المشكلات تضاف إلى تلك الناجمة عن ميل الصين إلى توظيف عمالها ووكلائها في تشييد البنى التحتية، وتقديمهم على نظرائهم المحليين.
لكن المشكلة العصية، وتتقدم على غيرها من غير قياس، هي مشكلة الدين. وفي بلدان مثل الأرجنتين، وإثيوبيا، ومونتينيغرو، وباكستان، وسريلانكا، وزامبيا، وغيرها. رفعت المشروعات الصينية نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات لا تطاق، وكانت السبب في أزمات ميزان المدفوعات. وقبلت بعض الحكومات تغطية العجز في المداخيل، وقدمت ضمانات سيادية فرضت على المكلفين سداد فاتورة المشروعات الفاشلة. وغالباً ما أخفي هذا العجز عن المواطنين والدائنين الآخرين، وزورت البيانات عن مستوى الدين الحقيقي الذي يثقل كاهل الحكومات. وعقدت الصين مثل هذه الاتفاقات مع مونتينيغرو وسريلانكا وزامبيا، وحكوماتها الفاسدة أو المتسلطة التي أورثت الدين حكومات أقل فساداً وأقرب إلى الديمقراطية، ووضعت على كاهلها مسؤولية الخروج من الأزمات.
والحق أن الخسارة المتأتية من دين الشركات الحكومية لا تقتصر على "م ح ط"، وقد تضر بالمشروعات التي يمولها القطاع الخاص. وما يميز أزمات دين "مبادرة الحزام والطريق"، هو أن العجوزات تعود إلى المصارف السياسية الصينية وليس إلى الشركات الخاصة، وتفاوض الصين على الدين مفاوضة ثنائية وتفاوض بكين بشراسة، على رؤوس الأشهاد. فبلدان "م ح ط" تميل أكثر فأكثر إلى خطط إنقاذ صندوق النقد الدولي، على رغم اشتراطها شروطاً قاسية، وتقدم معاملة الصندوق على المفاوضة على شروط تخفيفية جديدة مع بكين. وبين البلدان التي ساعدها الصندوق في الأعوام الأخيرة، سريلانكا (1.5 مليار دولار في 2016)، والأرجنتين (57 مليار دولار في 2018)، وإثيوبيا (2.9 مليار دولار في 2019)، باكستان (ستة مليارات دولار في 2019)، الإكوادور (6.5 مليار دولار في 2021)، وسورينام (688 مليون دولار في 2020)، وكينيا (2.3 مليار دولار في 2021)، والأرجنتين من جديد (44 مليار دولار في 2022)، وزامبيا (1.3 مليار دولار في 2022)، وسريلانكا من جديد (2.9 مليار دولار في 2023)، وبنغلاديش (3.3 مليار دولار في 2023).
وبعض هذه البلدان استأنف خدمة ديونه إلى "م ح ط" غداة حصوله على تسليف ميسر من صندوق النقد الدولي. ففي أوائل 2021، سعت كينيا في المفاوضة على تأخرها عن سداد فوائد على مشروع سكة حديد متعسر، تتولى الصين تمويله، ويربط نيروبي بمرفأ مومباسا الكيني في المحيط الهندي. وبعد أن وافق صندوق النقد على تيسير قرض بـ2.3 مليار دولار، في أبريل (نيسان)، بدأت بكين حبس مدفوعات عن مقاولي مشروعات أخرى تمولها الصين في كينيا. وجراء ذلك، كف المتعهدون والمتعاملون الكينيون عن تلقي المدفوعات. وبعدها أعلنت كينيا عزمها على الرجوع عن الطلب إلى الصين تخفيف الدين، وسددت 761 مليون دولار من خدمة دين مشروع السكة الحديد.
ولا شك في أن مسألة الدين، إن في نظر كينيا أو في نظر العالم النامي، جوهرية. وقد تكون موجة الأزمات الناجمة عنها على جانب من الخطورة يفوق خطورة الموجات السابقة، ويوقع أضراراً اقتصادية مزمنة في اقتصادات هشة، ويجر الحكومات إلى مفاوضات طويلة وباهظة الكلفة. والمشكلة تتجاوز حقيقة أن كل دولار يصرف على سداد دين ثقيل إلى "م ح ط" هو دولار يؤخذ من الاستثمار في التنمية الاقتصادية ومن النفقات الاجتماعية ومكافحة التغير المناخي. وليس الدائم المتشدد في أزمات مديونية الأسواق الناشئة اليوم صندوقاً مضارباً، أو دائناً خاصاً، بل هو أكبر مقرض ثنائي في العالم، وفي أحوال كثيرة هو أكبر شريك تجاري للبلد المدين. وعلى قدر ما يدرك دائنو القطاع الخاص المخاطر المترتبة على قروض مبادرة حزام وطريق إلى البلدان المدينة، تجد هذه البلدان نفسها نهباً لدائنين مشاكسين وعاجزين عن الوصول إلى استثمارات لا غنى لهم عنها في سبيل تعويم اقتصادهم.
أرقام خفية
ولبكين غايات متعددة دعتها إلى إنشاء "م ح ط". وهي أرادت أولاً مساعدة الشركات الصينية- وفي مقدمتها الشركات الحكومية، وبعض شركات القطاع الخاص في المرتبة الثانية على جني الأرباح في الخارج، وتعويم قطاع البناء الضخم، والمحافظة على وظائف ملايين العمال الصينيين. ولا شك في أن بكين رمت إلى غايات في مجال السياسة الخارجية والسياسة الأمنية، أولها حيازة نفوذ سياسي، وفي بعض الأحوال، ضمان الدخول إلى مرافق استراتيجية. ومرآة ذلك العدد الكبير من المشروعات الهامشية التي تمولها بكين وتكشف عن دواعيها، فما الداعي، في هذه الحال، إلى تمويل مشروعات في بلدان عالية المخاطر السياسية، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية أو فنزويلا؟
والحق أن تهمة دبلوماسية فخ الدين لا تخلو من المبالغة. ويرجح أن الدائنين الصينيين لم يقصدوا تضخيم دين المدينين في سبيل مقايضته بالحصول على تنازلات جيوسياسية، بل برهنوا عن سوء تقدير معقول. فقروض "م ح ط "تمنحها مصارف حكومية صينية بواسطة شركات حكومية صينية إلى شركات حكومية في البلدان النامية. ويفاوض عليها لعقود مباشرة، ومن غير إشراك جمهور المناقصين أو المزاودين فيها، أو دعوته إلى المشاركة. فهي، لذلك، تفتقر إلى إحدى ميزات التمويل بواسطة القطاع الخاص والأسواق العامة، أي إلى إوالية (ميكانيزم) سوق شفافة تضمن دوام المشروعات التمويلي.
والنتائج ظاهرة من غير لبس. في 2009، طرحت مونتينيغرو مناقصة على عقد شق طريق سريع يصل مرفأها بار المطل على البحر الأدرياتيكي بصربيا. واشترك مقاولان من القطاع الخاص في المناقصة، من غير أن ينجح أحدهما في جمع التمويل اللازم. فتوجهت مونتينيغرو إلى مصرف الاستيراد- والتصدير الصيني الذي لم يشارك السوق قلقه. والطريق السريع، اليوم، مصدر صعوبات مالية تعانيها مونتينيغرو. وقدر صندوق النقد، في 2019، أن نسبة الدين إلى الناتج الداخلي الإجمالي لما تجاوزت 59 في المئة لو أن المشروع علق. وبلغت هذه النسبة 89 في المئة في تلك السنة.
وليست مشروعات "م ح ط" كلها مقصرة. فمشروع مرفأ بيرايوس اليوناني أثمر الربحية التي وعدت بها بكين وتقاسمها البلدان على قدم المساواة، شأن مشروعات أخرى بادر إليها "م ح ط"، ولكن مشروعات أخرى خلفت بلاداً تشكو وطأة دين ساحق، وتحاذر انخراطاً صينياً أشد تقييداً. وفي بعض الأحيان، جنت القيادات والنخب التي فاوضت على الاتفاقات، أرباحاً، بينما لم يجن مجمل السكان شيئاً.
فمبادرة حزام وطريق الصينية، في عبارة أخرى، تطرح على البلدان الغربية مشكلات من غير أن يكون التهديد الأبرز استراتيجياً. وعلى خلاف هذا، تبعث "م ح ط" ضغوطاً قد تؤدي إلى اختلال توازنات البلدان النامية، وإلى معاناة الهيئات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والمصرف الأوروبي للإعمار والتنمية، مشكلات ناجمة عن توجه هذه البلدان إليها بطلب المساعدة. وفي العقود الستة الأخيرة، طور الدائنون الغربيون هيئات مثل نادي باريس لمعالجة المشكلات المتأتية من العجز عن السداد السيادي، وضمان حد من التنسيق بين الدائنين، وإدارة أزمات السداد إدارة منصفة، ولكن الصين لم تقبل إلى اليوم الانضمام إلى هذا الفريق. وتحول طرق إقراضها الصفيقة من دون تقويم الهيئات الدولية بدقة الصعوبات التي يعانيها بلد من البلدان.
انتباه وضغط
يرى بعض المحللين أن "م ح ط" ليست السبب في أزمة الدين الحالية في الأسواق الناشئة. ويلاحظ هؤلاء أن بلداناً مثل مصر وغانا مدينة لأصحاب السندات وللدائنين الدوليين كصندوق النقد والبنك الدولي فوق دينها إلى الصين، وهي على الدوام عاجزة عن إدارة عبء دينها- إلا أن مثل هذه الحجج تشوه تناول المشكلة، وهذه لا تقتصر على ديون "م ح ط" المسمومة في حملتها، بل تتضمن الدين الخفي المدرج فيها. وتذهب دراسة نشرتها "جورنال أوف إنترناشونال إيكونوميكس" إلى أن نصف قروض الصين إلى البلدان النامية "خفية" ومستترة، أي إنها لا تلحظ في إحصاءات الدين الرسمية. وكشفت دراسة أخرى نشرتها الـ"أميركان أيكونوميك أسوشييشن" (الجمعية الاقتصادية الأميركية) في 2022، عن أن هذه الديون جرت إلى عدد من أحوال "العجز الخفية عن السداد".
وتبرز المسألة الأولى المترتبة على الدين الخفي في أثناء التمهيد للأزمة، حين لا يدري الدائنون الآخرون أن السندات موجودة، ولا يسعهم تقويم أخطار الإقراض على وجه الدقة. وتظهر المسألة الثانية في أثناء الأزمة، حين يبلغ دائنين آخرين علم بالدين المستتر، ويفقدون الثقة في سيرورة الهيكلة. ولا يحتاج انفجار أزمة إقراض أو تسليف إلى حجم دين ثنائي كبير. ويحتاج إلى حجم أقل ليهز الثقة في الجهود الرامية إلى معالجة الأزمة.
وبادرت الصين إلى اتخاذ إجراءات تخفف ثقل هذه الديون، الخفية وغير الخفية. واقترحت خطط إنقاذها على بلدان "م ح ط"، غالباً على شاكلة سحوبات عملات خاصة وقروض وسيطة أخرى إلى المصارف المركزية المدينة. وتتسارع هذه الخطط، مع وثيقة عمل نشرها فريق البنك الدولي في مارس (آذار) 2023. وتقدر الوثيقة حجم قروض الصين والتسهيلات المتفرقة، بأكثر من 185 مليار دولار بين 2016 و2021. إلا أن السحوبات الخاصة على المصرف المركزي أقل شفافية من الديون السيادية التقليدية، ولا تسهم في معالجة الهيكلة.
وتفضيل الصين التكتم على شروط الإقراض، والمفاوضة الثنائية، يصون ربما مصالحها الاقتصادية على الأمد القصير، لكنه قد يحرف جهود الهيكلة عن قصدها. ويضر بعاملي العملية الأساسيين: الشفافية والمقارنة بين المعالجات- أي الافتراض أن الدائنين جميعاً يتقاسمون على قدم المساواة الثقل المترتب ويعاملون معاملة واحدة.
في أثناء العقود الأخيرة، تطورت سياسات صندوق النقد في موضوع القروض ومعالجة المديونية المستعصية، وأصبحت مرنة على نحو يمكن الصندوق من الإقراض، و"التحكيم" في هيكلة الديون معاً. وعلى رغم أن الصندوق كان يضطلع بدوره، على نحو مناسب، حين كان الدائنون أعضاء في نادي باريس أو كانوا صناديق السندات السيادية، فهو غير مؤهل للتعامل مع الصين. والإواليات التي تتولى ضبط أزمة دين بلدان "م ح ط" السيادي، واقترحها الصندوق والدائنون الغربيون، لا تفي بالغرض منها. وفي 2020، رسمت مجموعة الـ20 إطاراً مشتركاً أوكل إليه دمج الصين، ودائنين آخرين ثنائيين، في عملية هيكلة نادي باريس، بمساندة الصندوق وتحت رقابته. إلا أن الإطار المشترك لم يعمل. وطلبت إثيوبيا وغانا وزامبيا تخفيف ديونها من طريق الإوالية، وكانت المفاوضات شديدة البطء، ووحدها زامبيا انتهت إلى اتفاق مع دائنيها. وخيبت عناصر الاتفاق توقعات زامبيا، كما خيبت توقعات الدائنين الرسميين غير الصينيين، والأنكى أنها لم تسهم في إنجاح الهيكلة الموعودة.
وفي إطار الاتفاق، المعقود في يونيو (حزيران) 2023، خفض دين دائني زامبيا الحكومي، وقلص من ثمانية مليارات دولار إلى 6.3 مليار دولار بعد أن سجل قرض كبير من "مبادرة حزام وطريق" في باب دين تجاري (على رغم تغطيته بواسطة تأمين قرض على التصدير بكفالة الدولة الصينية). وإلى هذا، لا يسع الاتفاق تقليص سداد الفوائد على دين زامبيا الحكومي إلا موقتاً. وإذا خلص صندوق النقد في 2026، إلى أن اقتصاد زامبيا تحسن، فالفوائد التي على البلد أن يسددها على القروض الحكومية ينبغي أن تزداد. وينجم عن هذا مجموع مخيف من الحوافز المفضية إلى تعاظم كلفة رأس المال إذا تحسنت قدرة الدولة الزامبية على السداد، ويلد خلافات بين صندوق النقد والصين. وليست هذه النتائج غير متوقعة: فالإطار المشترك هو جزرة مساعدة صندوق النقد، لكنه يفتقر إلى عصا يواجه بها دائناً متشدداً، وعلى الخصوص نفوذ الصين الجيوسياسي على المقترضين.
والمبادرة الأخرى الرامية إلى تخفيف أزمة الدين التي تعتمل في "م ح ط" هي برنامج قرض يتناول متأخرات صندوق النقد الرسمية. وينبغي لهذا البرنامج أن يتيح نظرياً للصندوق أن يقرض مقترضاً، متعسراً حتى حين، يرفض دائن ثنائي منحه تخفيفاً يطلبه، أو حين يتحقق أنه غير فاعل. والصين، في زامبيا، تملك فوق نصف الدين الحكومي، ما يجعل منح صندوق النقد زامبيا تمويلاً إضافياً مخاطرة تامة. وفي الأحوال الأخرى التي لا تملك فيها الصين معظم الدين الحكومي، تتمتع بنفوذ اقتصادي على المدينين يفوق نفوذ صندوق النقد، والأرجح أن يبالغ طاقم الصندوق وإدارته في حذرهم حين يتصدون للتحكيم في الخلافات بين الدول الأعضاء.
وما داوم صندوق النقد على المبالغة في الحذر داومت الصين على إعمال نفوذها وحمل الصندوق على التضامن مع المقترضين، حتى في الأحوال التي يحيط فيها الصندوق بحجم دينهم للصين. ويدعو تجنب تعسر هيكلة الدين، مستقبلاً، على نحو تعسرها اليوم في إثيوبيا وسريلانكا وزامبيا، صندوق النقد إلى إجراء إصلاحات جوهرية، والتشدد في تطبيق معايير الشفافية على الدول الأعضاء، وإلى الحذر في شأن إقراض مقترضين يرزحون تحت ثقل ديونهم إلى "م ح ط". ومن غير المحتمل أن يصدر مثل هذا التغيير عن داخل صندوق النقد، وينبغي أن تضطلع به الولايات المتحدة ودول أعضاء أخرى وصاحبة مكانة في مجلس الإدارة.
متعلمون بطيئون ومقرضون سريعون
بعض المحللين ذهبوا إلى أن الصين تجتاز "مرحلة تعلم"، بما هي جابية ديون، وإلى أن هيئات التسليف الصينية مبعثرة، وعلى هذا فالعملية التي ترمي إلى إرساء التفهم والثقة والأجوبة المنظمة عن أزمات الدين السيادي، تقتضي وقتاً مديداً وتعاوناً وثيقاً. ويرتب ذلك على الدائنين الغربيين التمتع بالمرونة في أثناء تدرب الصين على الاضطلاع بدورها الجديد، وعلى صندوق النقد المضي على تقليص رقابته في الوقت هذا.
ولا ريب في أن الصبر لن يحل المشكلة، لأن حوافز الصين (وغيرها من الدائنين المتشددين) لا تشبه حوافز صندوق النقد أو حوافز الدائنين الذين يرغبون في المفاوضة على هيكلة الديون سريعاً. لذا، على صندوق النقد تطبيق المعايير بصرامة وحمل الدول الأعضاء على التزام الشفافية في ما يعود إلى تعهداتهم في موضوع الدين.
وتبعثر مرفق التسليف الصيني ينبغي ألا يحول دون اعتبار الصندوق وأعضاء نادي باريس الحكومة الصينية قادرة على تنظيم الكيانات الحكومية، ومعالجة هيكلة الدين على مستوى الحكم. وتبدو بكين قادرة على الأمر في إطار المفاوضة على هيكلة الدين الثنائي. ففي 2018، على سبيل المثل، أعلنت زامبيا عزمها على هيكلة دينها الثنائي للصين، وتأخير المشروعات قيد التنفيذ مع "م ح ط" بسبب مشكلات المديونية. ولكن، بعد لقاء السفير الصيني بالرئيس الزامبي يومها، إدغار لونغو، غير الرئيس وجهته، وأعلن السير بالمشروعات التي تمولها الصين من غير تعديل. ولمح إلى أن بكين فاوضت شركات حكومية صينية ومصارف على إجراءات تتجنب الانفجار. وما يسع الصين فعله في إطار ثنائي في وسعها الإتيان بمثله في إطار متعدد الأطراف.
ولعل أحد عيوب تعديل معالجة صندوق النقد أزمة مديونية "م ح ط" هو إبطاء عمل صندوق النقد، والحيلولة دون تدخله السريع في أزمات جديدة. وهذا ناجم عن التسوية. فليس في وسع الصندوق أداء دور المقرض الأخير والحاسم، ودور ضامن التقيد بمعايير الشفافية والمقارنة معاً، من غير أن يرتب هذا بعض النتائج عليه. وينبغي أن يتمتع بالقدرة على رفض تعضيد التسليف إذا لم تستجب شروطه. والمكلفون غير الصينيين الذين يمولون صندوق النقد لا يرغبون في تبديد أموالهم جراء قرارات صينية سيئة في مجال الإقراض.
ما هو جيد لصندوق النقد الدولي جيد للعالم
في إمكان أعضاء مجموعة الـسبع ونادي باريس حل أزمة دين "م ح ط" بطرق مختلفة. أولاً، في مستطاع الولايات المتحدة وغيرها من الدائنين الثنائيين مساعدة المقترضين من "المبادرة" على التنسيق في ما بينهم. ولا شك في أن التنسيق يحسن الشفافية، وتبادل المعلومات، ويتيح للمقترض مفاوضة الدائنين الصينيين جماعة واحدة بدلاً من مفاوضتهم ثنائياً. والنهج الصيني الذي يقضي بالمفاوضة سراً وثنائياً لا يحتسب مصلحة المقترضين من "م ح ط"، ولا مصلحة دائنين آخرين، وعلى الخصوص صندوق النقد والبنك الدولي.
ثانياً، على صندوق النقد إرساء معايير واضحة ينبغي للمقترضين المتعثرين من "م ح ط" احترامها قبل الاستفادة من تسهيلات جديدة من تسليفات صندوق النقد. وينبغي أن يتفق على هذه المعايير مع عدد من أعضاء مجلس إدارة صندوق النقد، حماية لطاقم الصندوق ومديريه في حال خلاف مع الصين، وهي عضو ذو مكانة في مجلس إدارة صندوق النقد. وليست الشفافية في مسألة قروض "م ح ط" المجال الوحيد الذي على هذه المعايير تناوله. فعلى صندوق النقد تثبيت معايير واضحة جداً في مجال قروض "م ح ط" التي تحمل لاحقاً على تسليفات حكومية، على خلاف القروض التجارية. فالصين قالت إن بعض قروض "م ح ط" الكبيرة هي قروض تجارية قبل أن تكون حكومية، وتعرفة فوائدها احتسبت على سعر السوق رغم صدورها عن هيئات اقتراض رسمية، على شاكلة مصرف التنمية الصيني. وصندوق النقد فحص مسائل التبويب هذه، كل واحدة على حدة. فإن هذه المعالجة تبدو مستحيلة. فهي تفضي إلى سيناريوات تشبه سيناريو زامبيا، فيتحول شطر كبير من الدين الحكومي فجأة إلى دين تجاري، ويمكن الصين من الحصول على أفضل الشروط. وتؤدي المحافظة على معالجة صندوق النقد الديون حالاً بعد حال، وعلى حدة، إلى مناورات ونزاعات في أثناء مفاوضات الهيكلة. وعلى صندوق النقد تصنيف هيئات اقتراض "م ح ط" على نحو واضح، وتعيين الهيئات الحكومية في عمليات الهيكلة، من غير لبس.
واستمر المقرضون، في إطار بعض برامج صندوق النقد الأخيرة، على تسديد خدمة ديونهم إلى "م ح ط" من طريق شركاتهم الحكومية في وقت يستفيدون فيه من تقليص دينهم السيادي على المستوى الوطني. ويقتضي الحيلولة دون هذه الحال دمج كل ديون الشركات الحكومية، المستفيدة من الضمانات السيادية، في عمليات الهيكلة. وعلى مقرضي مبادرة حزام وطريق، في الأحوال المخالفة، اختيار قروض الشركات الحكومية التي يرغبون في ضمها إلى عمليات الهيكلة، تبعاً لتعويلهم إما على عائد الهيكلة، وإما على المفاوضة الثنائية الموازية.
واشتراط التقيد بهذه المعايير على بلدان متعسرة قبل الحصول على تسهيلات تسليف جديدة، يضعف مرونة صندوق النقد، ويحد من قدرته على معالجة أزمات ميزان المدفوعات سريعاً. إلا أن ذلك يمنح المقترضين، وقطاع المال السيادي، الوضوح واليقين الضروريين في شأن معايير تدخل صندوق النقد الدولي ويحمي طاقم الصندوق ومديريه من أثر النزاعات المتكررة مع الصين في أحوال هيكلة الدين.
وقد يصف بعضهم هذه الإصلاحات بأنها "مناوئة للصين". والحق إنها إجراءات لا غنى عنها في سبيل حماية مبادئ الشفافية والمقارنة في عمليات هيكلة الدين السيادي. فعلى البلدان الغربية الاضطلاع بحماية عناصر النظام الدولي القائم على قواعد الأساسية، حين تتعرض للتقويض، والمضي على التعاون مع الصين، وهي طرف مهم من أطراف هذا النظام.
وأخيراً، هذه الإصلاحات هي الوسيلة الوحيدة إلى حماية صندوق النقد الدولي من ذيول أزمة دين مبادرة الحزام الصينية. ولا شك في أن النزاعات المتخلفة عن دين "م ح ط" لن تنفك عن عرقلة السعي في تقليص الدين، ولا عن الإضرار بصحة البلدان النامية والمدينة الاقتصادية، وبفاعلية صندوق النقد. فوحده صندوق نقد دولي معافى، بعد إصلاحه، في مستطاعه معالجة الأضرار التي أصابت البلدان النامية وأصابته معها.
اضف تعليق