وتراجع مكانة الطبقات الدنيا والطبقات الوسطى الدنيا في الغرب هو مصدر استقطاب داخلي، فأغنياء بلد من البلدان الأوروبية سيبقون أغنياء بمعايير عالمية، بينما يشهد فقراء هذا البلد تراجعاً في المرتبة قياساً على المعايير نفسها. وأما منحى الفروق العالمية إلى التقلص فيحتاج استمراره إلى نمو اقتصادي كبير في البلدان...
بقلم: برانكو ميلانوفيتش
في أنحاء العالم تتسع الفجوة بين الأثرياء والآخرين وأمست هوة تخلف القلق وتغذي الضغينة وتتعثر بها السياسة
يقال لنا إننا في عصر اللامساواة. ففي أنحاء العالم كله، وعلى الخصوص في اقتصادات الغرب الغنية، تتسع الفجوة بين الأثرياء وبين الآخرين سنة بعد سنة، وأمست الفجوة هوة تخلف القلق، وتغذي الضغينة وتتعثر السياسة بها. وعليها تقع المسؤولية عن كل ما يحصل، عن تعاظم قوة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وعن الاقتراع على "بريكست" في المملكة المتحدة، وحركة "السترات الصفر" في فرنسا، وتظاهرات المتقاعدين الأخيرة في الصين، أعلى بلدان العالم نسبة تفاوت بين المداخيل. والعولمة، ربما أثرت بعض النخب، على قول هذه الحجة، لكنها ألحقت الضرر بآخرين كثر، وعصفت بمراكز مدن صناعية، واستمالت الناس إلى السياسات الشعبوية.
ولا شك في أن هذه الروايات أو الملاحظات تنطوي على قدر لا ينكر من الحقيقة، إذا صرفت النظر إلى كل بلد على حدة. أما إذا تعاليت عن مستوى الأمة - الدولة، وأطللت على العالم مجتمعاً فلاختلفت الصورة ولانقلب تاريخ اللامساواة في القرن الـ21، من هذا الموضع، رأساً على عقب. فالعالم أصبح أكثر مساواة، في السنوات الـ100 الأخيرة من ذي قبل.
وترجع عبارة "اللامساواة العالمية" إلى فرق الدخل بين كل مواطني العالم، في وقت من الأوقات، واستناداً إلى فرق الأسعار بين البلدان. وتحتسب عموماً على مقياس جيني Gini coefficient، من صفر، وهي حال مفترضة من المساواة التامة التي ربح فيها الواحد دخلاً يساوي 100 في المئة دخل آخر. والحال المفترضة الأخرى هي تلك التي يجني فيها فرد واحد الدخل كله. وفي وسع الاقتصاديين، في ضوء أعمال باحثين ميدانيين كثر، رسم ملامح الفروق العالمية بين المداخيل في أثناء القرنين الأخيرين.
فمنذ بدايات الثورة الصناعية، من أوائل القرن الـ19 إلى منتصف القرن الـ20 تقريباً. ازدادت الفروق في العالم على قدر تمركز الثروة في البلدان الغربية الصناعية. وبلغت الذروة في أثناء الحرب الباردة، حين انقسم العالم إلى "عالم أول"، و"عالم ثان"، و"عالم ثالث"، ودلت الانقسامات هذه على ثلاثة مستويات من النمو الاقتصادي، ولكن الفروق العالمية، بعدها أي منذ نحو 20 سنة، مالت إلى التقلص جراء ازدهار الصين الاقتصادي إذ كانت البلد الأكثر سكاناً في العالم، وكانت ذروة اللامساواة العالمية، على مقياس جيني، في 1988، 69.4. وتقلصت هوة اللامساواة إلى 60.1 في 2018، وهو مستوى لم ير مثله منذ نهاية القرن الـ19.
والحق أن الاتجاه نحو مساواة عالمية أعم وأشمل ليس محتوماً. وصارت الصين غنية إلى حد لا يحملها على الإسهام إسهاماً قوياً في تقليص الفروق العالمية. وبعض البلدان الكبيرة الأخرى، شأن الهند، قد لا تنمو النمو الكفيل الذي يؤثر على نحو التأثير الذي أثرته الصين. ويتعلق الأمر أولاً بطريقة خروج بلدان أفريقيا من ركودها. فالقارة قد تؤدي دور محرك التقليص القوي والقادم للفرق بين المداخيل، والفقر في العالم. ولكن ضعف الفروق العالمية لا يعني أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في مختلف البلدان ستنحسر، والأرجح أن عكس هذا الأمر هو الأقرب إلى الصحة. فجراء الفروق بين المداخيل العالمية، احتسب الغربيون الفقراء بين الأعلى مداخيل في العالم. وغير الغربيين الذين ترتفع مداخيلهم سينزلون الغربيين الفقراء والمنتسبين إلى الطبقة الوسطى من عليائهم. وظاهرة مثل هذه هي في مثابة قرينة على حدة الاستقطاب في البلدان الغنية بين من هم أغنياء على معايير عالمية، وبين خلافهم.
أطوار اللامساواة الثلاثة
يمتد الطور الأول من اللامساواة من عام 1820 إلى عام 1950. وفي هذه الحقبة اتسعت الفروق من غير انقطاع. ففي عهد الثورة الصناعية، في نحو 1820 تقريباً، كانت الفروق متواضعة، وكان الناتج الإجمالي المحلي في أغنى البلدان (المملكة المتحدة) يبلغ خمسة أضعاف نظيره في أضعفها (النيبال) في 1820. (ويبلغ اليوم الفرق بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، واحداً إلى 100). ويقدر مقياس جيني مجمل مراتب الفروق، في 1820، بـ50، وهو يشبه شبهاً قوياً البلدان الشديدة التفاوت اليوم، مثل البرازيل أو كولومبيا. ولكن هذا الفرق، من منظار العالم كله، يبدو ضعيفاً. (وتنزل الولايات المتحدة اليوم المنزل 41 على مقياس جيني، بينما تنزل الدانمرك، وهي بلد اشتراكي - ديموقراطي يزعم السعي إلى المساواة، المنزلة 27).
وصاحب تعاظم الفروق العالمية في أثناء القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20 اتساع هذه الفروق بين البلدان. (وتحتسب على الفرق بين الناتج الإجمالي المحلي للفرد الواحد)، واتساعها، من ناحية أخرى، داخل البلد الواحد وبين مداخيل المواطنين في هذا البلد. والفروق بين البلد والبلد هي مرآة ما يسميه المؤرخون التباين الكبير، أي التفاوت المتعاظم بين بلدان أوروبا الغربية الصناعية وشمال أميركا واليابان من بعد، من جهة، وبين الصين والهند وشبه القارة الأفريقية والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، حيث بقي دخل الفرد على حاله أو تردى في بعض الأحيان.
وللتباين الاقتصادي هذا نتيجة سياسية وعسكرية هي صعود الدول الإمبراطورية والمتسلطة، وتركها الدول المتهالكة أو المفتوحة في أسفل سافلين (أو الدرك الأسفل). واتفقت هذه الحقبة مع فتح أوروبا معظم أفريقيا، واستعمار الهند وجنوب شرقي آسيا واستعمار الصين جزئياً.
ودام الطور الثاني طوال النصف الثاني من القرن الـ20، واتسم بفروق عالمية كبيرة ترجحت بين 67 و70 نقطة على مقياس جيني. وكانت الفروقات بين البلدان حادة: في 1952، مثلاً، بلغ الناتج الإجمالي المحلي في الولايات المتحدة للفرد 15 ضعفاً نظيره في الصين. وكانت الولايات المتحدة، ونسبة سكانها من سكان العالم ستة في المئة، تنتج 40 في المئة من إنتاج العالم. وفي الأثناء كان التفاوت داخل البلدان يتقلص في أنحاء العالم كله تقريباً. وتراجع كثيراً في الولايات المتحدة مع اتساع التعليم الجامعي وانخفاض كلفته على الطبقات الوسطى، وظهور مقدمات دولة رعاية اجتماعية في عدد من البلدان. وضيق التفاوت تأميم الملكيات الكبيرة الخاصة في الصين في أثناء أعوام 1950، ثم سياسة المساواة المتشددة التي انتهجتها الثورة الثقافية. وزاد تقليصه في الاتحاد السوفياتي حين خفضت إصلاحات المسؤول السوفياتي نيكيتا خروتشيف الأجور والامتيازات المفرطة التي تمتعت بها مراتب الأجهزة الحزبية العليا الستالينية.
والنصف الثاني من القرن الـ20 - حقبة أوسع الفروقات العالمية - كان كذلك حقبة "العوالم الثلاثة": عالم البلدان الغنية والرأسمالية الأول، وعلى الأخص في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وعالم البلدان الاشتراكية الثاني والأفقر قليلاً، وهي الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وعالم البلدان الفقيرة الثالث، ومعظمها في أفريقيا وآسيا، وكثير منها خارج لتوه من الاستعمار. وتضاف إلى هذه الفئة بلدان من أميركا اللاتينية، على رغم أنها أغنى من بلدان العالم الثالث الأخرى وتتمتع بالاستقلال منذ أوائل القرن الـ19.
ودام هذا الطور في العقد الذي أعقب نهاية الحرب الباردة، لكنه أخلى محله لمرحلة جديدة عند الانعطاف إلى القرن الـ21، حين أخذت الفروق في التراجع منذ حوالى عقدين، ولا تزال تتراجع إلى اليوم. وانتقل التفاوت على مقياس جيني من 70 نقطة في حوالى عام 2000 إلى 60 نقطة، بعد عقدين. وهذا الانخفاض في غضون مدة قصيرة من 20 سنة أسرع من تعاظم الفروقات العالمية في القرن الـ19. ونجم هذا الانخفاض عن صعود قوة آسيا، والصين على الأخص. فهذه أسهمت بقسط وافر من تقليص الفروق العالمية في وجوه شتى: انطلق اقتصادها من مستوى متدن واستطاع أن ينمو بوتيرة مدهشة طوال جيلين، ونظراً إلى عدد السكان، بلغ النمو بين ربع إلى خمس سكان الكرة الأرضية.
وقد يمكن الهند، أكثر البلدان سكاناً، جراء عدد سكانها الكبير وفقرها النسبي، أن تضطلع بدور يشبه دور الصين في السنوات الـ20 الأخيرة. فإذا ازداد غنى عدد أكبر من الهنود في العقود المقبلة، وسعهم تقليص الفروق العالمية العامة. ولكن ثمة شكوكاً وغيوماً كثيرة تخيم على مستقبل الاقتصاد الهندي، وتلبد أفقه على رغم أرباحه الثابتة في العقود الأخيرة. وفي أعوام 1970 كانت حصة الهند من الاقتصاد العالمي أقل من ثلاثة في المئة، بينما كانت حصة ألمانيا، القوة الصناعية الكبيرة، سبعة في المئة، وفي عام 2021، تبادل البلدان الحصتين.
ولم يحل انخفاض مستوى التفاوت العالمي العام بين البلدان منذ أوائل القرن من دون تعاظم الفروق داخل البلدان الكبيرة، ومنها الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة، بل في دول الرعاية الأوروبية القارية. وحدها أميركا اللاتينية قاومت المنحى هذا، وقلصت الفروق الكبيرة بواسطة برامج توزيع جادة في بوليفيا والبرازيل والمكسيك وغيرها.
والطور الثالث على شاكلة الطور الأول، فهو شهد ارتفاع المداخيل في شطر من العالم وتراجعها في شطر آخر. وكان تصنيع الغرب وضمور تصنيع الهند في المقابل (وهي كانت تحت السلطة البريطانية التي ألغت الصناعات المحلية) الواقعة المزدوجة والحاسمة. وفي الطور الثالث، الواقعة المزدوجة والحاسمة هي تصنيع الصين ودواء التصنيع الغربي. وجاءت آثار الطور الثالث في الفروق العالمية على خلاف آثار الطور الأول. ففي القرن الـ19، خلف صعود قوة الغرب فروقاً متعاظمة بين البلدان. أما في المرحلة الراهنة والأخيرة، فصعود آسيا أدى إلى تراجع الفروق العالمية. وإذا كان الطور الأول طور تباين واختلاف، فالطور الثالث طور تلاق وتضافر.
التربع على القمة معاً
وإذا نزلنا إلى صعيد فرد واحد، ظهر على نحو جلي ما قد يكون أقوى تغيير طرأ على مواقع الأفراد على سلم المداخيل العالمي منذ الثورة الصناعية. ولا شك في أن الأفراد يميلون إلى الاهتمام بموقعهم من الذين يحيطون بهم، وليس من البعيدين منهم، ونادراً ما يلتقونهم. وثمة ثمن فعلي لتغير الموقع على السلم العالمي. وقد تبعد من متناول الناس، من الطبقة الوسطى الغربية، سلع كثيرة ذات سعر عالمي، واختبارات من الصنف (العالمي) نفسه، مثل حضور مباريات رياضية أو معارض دولية، أو مثل قضاء عطل في أماكن غريبة وبعيدة، أو شراء آخر طرز من السمارتفون، أو مشاهدة مسلسل متلفز جديد، وذلك بسبب زيادة البدل المالي نظيرها. وقد يقتضي الأمر من عامل ألماني استبدال عطلة أربعة أسابيع في تايلند بعطلة أقصر في بلد آخر أقل جاذبية. وقد يضطر صاحب شقة سكن إيطالي يشكو وضعاً حرجاً، وشقته هذه في البندقية، إلى التخلي عن الإقامة في شقته والاستفادة منها، وإيجارها سنوياً، لحاجته إلى العائد الإضافي منها.
وكان الأفراد ذوو الدخل المتواضع في البلدان الغنية ينزلون مرتبة الميسورين من مراتب توزيع المداخيل العالمي، أما اليوم، فتجاوزهم، دخلاً، الآسيويون. وأعاد نمو الصين السريع تبويب عناصر توزيع المداخيل العالمي. وطرأ التغيير الأعمق على المراتب المتوسطة، والمتوسطة العالية، من التوزيع، أي الشطر الذي كانت تنزله الطبقة العاملة في البلدان الغربية. وأثر النمو الصيني أثراً ضعيفاً في المرتبة الأعلى، تلك التي يدخلها الخمسة في المئة من أصحاب المداخيل العليا، لأن قلة قليلة من الصينيين أثروا في قدر يخولهم الحلول محل الغربيين - والأميركيين على الخصوص، الذين تربعوا، تاريخياً، في قمة الاقتصاد - في أعلى هرم المداخيل العالمي في أثناء الـ150 إلى السنوات الـ200 الأخيرة.
ويدل الرسم البياني أدناه، وهو يرصد تغير التبويب العالمي لمداخيل سكان البلدان المتفرقة، على مواضع الأعشار المدينية الصينية (وكل عشر يضم 10 في المئة من سكان البلد على سلم يصعد من أفقرهم إلى أكثرهم ثراء)، مقارنة بالأعشار الإيطالية، في 1988 إلى 2018. وأنا أستعمل إحصاءات أهل المدن في الصين، لأن الصين تجري استقصاءات ميدانية على العائلات في المدن تميزها من الاستقصاءات التي تجريها في الأرياف، لأن سكان المدن (ويبلغ عددهم اليوم 900 مليون شخص) أقوى اندماجاً في الإطار العالمي من سكان الأرياف. وتقدم صينيو المدن بين 24 و29 جزءاً مئوياً عالمياً، مما يعني أن سكان فئة عشرية من أهل المدن الصينية تجاوزوا ربعاً، أو أكثر، من سكان العالم في 30 سنة فقط. وعلى سبيل المثل، الشخص الذي بلغ متوسط دخله، في 1988، متوسط دخل سكان المدن الصينيين، نزل الشطر الـ45 المئوي من الدخل على السلم العالمي. والشخص نفسه نزل، في 2018، الشطر المئوي الـ70، وليس هذا بمستغرب في ضوء نمو الناتج الإجمالي المحلي الصيني للفرد نمواً استثنائياً في السنوات نفسها، بلغ ثمانية في المئة تقريباً في السنة. وارتفاع مرتبة أصحاب الأجور الصينيين، أدى إلى تردي مرتبة نظيرهم في البلدان الأخرى تردياً نسبياً.
وإيطاليا هي أوضح مثال على هذا الأمر. فبين 1988 و2018 هبطت مرتبة إيطاليي الشطر العشري الأدنى على السلم العالمي 20 شطراً مئوياً. وهبط الشطر العشري الثاني والثالث الأدنيان إلى الشطر المئوي السادس والشطر الثاني، تباعاً. أما موقع الإيطاليين الأغنياء من الترتيب العالمي فلم يتأثر إلا على قدر ضعيف بصعود الصين. فأكثر الإيطاليين ثراء ينزلون مرتبة أعلى من المراتب التي خلف فيها النمو الصيني أثراً عميقاً في توزيع المداخيل العالمي. والملاحظات التي ترصد في إيطاليا لا تقتصر عليها، فالألماني المتوسط من الشطر العشري لأضعف المداخيل تقهقر من الشطر المئوي الـ81، في 1993، إلى الشطر المئوي الـ75 في 2018. وفي الولايات المتحدة، تقهقر الغرب المتوسط في أفقر شطر عشري، بين 1989 و2018 من الشطر المئوي الـ74 إلى الشطر الـ67 العالمي. لكن الأثرياء الألمان والأميركيين أقاموا حيث كانوا من قبل، في القمة.
وتكشف المعطيات عن تاريخ يصعب رصده بمجرد النظر إلى الدراسات الوطنية في الفروق الاقتصادية والاجتماعية: تتألف البلدان الغربية على نحو مطرد من أشخاص ينتمون إلى فئات مختلفة من توزيع المداخيل العالمي. ونظير المواقع المختلفة من الدخل العالمي ثمة نماذج مختلفة من الاستهلاك. وتردد هذه النماذج صدى الدرجات (الموض) العالمية والشعور المتعاظم بالتفاوت في البلدان الغربية قد يبلغ مبلغاً كبيراً من الحدة مع التحاق فئات من السكان إلى مستويات متفاوتة من المداخيل على سلم هرم المداخيل العالمي. فيؤدي الاستقطاب الاجتماعي المترتب على هذا الالتحاق إلى شبه المجتمعات الغربية بمجتمعات بلدان كثيرة في أميركا اللاتينية، حيث التفاوت في الثروة، وفي نمط الحياة، واسع إلى حد فاقع.
وعلى خلاف المنطقة المتوسطة من توزيع المداخيل العالمي، بقي تركيب قمة الهرم على حاله في أثناء العقود الثلاثة الأخيرة، ويتربع الغربيون في أعلاه. وفي 1988، كان 207 ملايين شخص الخمسة في المئة الأعلى دخلاً في العالم. وبلغ عدد هؤلاء، في 2018، 330 مليوناً، والزيادة هي نتيجة زيادة عدد سكان العالم وتوسع المعطيات المتاحة معاً. وهؤلاء هم من تصح تسميتهم بـ"الأغنياء على الصعيد العالمي، وتقع مرتبتهم مباشرة دون مرتبة القلة القليلة، الواحد في المئة.
والأميركيون هم معظم هذه الكتلة. وفي 1988 كما في 2018، أكثر من 40 في المئة من أهل اليسر في العالم هم مواطنون أميركيون، ويحل بعدهم في المراتب التالية مواطنون بريطانيون ويابانيون وألمان. وفي الجملة، الغربيون (وفيهم اليابانيون) لا يقلون عن 80 في المئة من الفئة. ولم يحتسب الصينيون من أهل المدن في البلدان الغنية، على صعيد العالم، إلا بالأمس القريب. وحصتهم ازدادت من 1.6 في المئة، في 2008، لتبلغ في 2018، خمسة في المئة.
والصينيون المدينيون وحدهم بين المتحدرين من بلدان آسيوية، إذا نحينا اليابانيين جانباً، يدخلون فعلاً في هذه الفئة. وكانت حصة الهنود والإندونيسيين المدينيين من الخمسة في المئة الأغنى في العالم، عام 1988، ضئيلة. ولم تطرأ عليها زيادة تذكر بين 2008 و2018: فكانت بين 1.3 و1.5 في المئة في حال الهند، وبين 0.3 و0.5 في المئة في إندونيسيا، وهي نسبة ضئيلة. ويصح هذا في سكان نواح أخرى من العالم مثل أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وشرق أوروبا، وباستثناء بعض البرازيليين والروس، لم يشتركوا يوماً في فئة أثرياء العالم. فالفئة العليا من هرم المداخيل العالمي لم تنفك من الغربيين، والأميركيين على الأخص، وإذا كان التفاوت بين نسب النمو في شرق آسيا، وفي الصين خصوصاً، وبينها في الغرب لا يزال قائماً، فالترتيب الوطني للسكان الميسورين على صعيد العالم لا محالة سيتغير. وهذا التغير صورة عن تطور التوازن بين القوى الاقتصادية والسياسية في العالم. وما تظهره هذه الإحصاءات على الصعيد الفردي هو صعود قوى وأفول أخرى النسبي، على ما كانت عليه الحال في الماضي.
الاستلحاق
لا شك في أن استباق المنحى الذي تنحوه الفروق العالمية في الأعوام الآتية أمر عسير. وثمة ثلاث صدمات خارجية تجعل الحقبة الراهنة فريدة في بابها، ولا تشبه سابقاتها: جائحة كوفيد-19 التي قلصت نسبة نمو مختلف البلدان (فالهند مثلاً، بلغ نموها السالب ناقص ثمانية في المئة)، وتردي العلاقات بين الولايات المتحدة والصين اللذين ينتجان معاً أكثر من ثلث الناتج الإجمالي المحلي العالمي وتترتب على ترديها حتماً نتائج تتطاول إلى الفروق العالمية، وغزو روسيا أوكرانيا وما نجم عنه من أثر في غلاء المواد الغذائية والطاقة في العالم، وهز الاقتصاد العالمي.
فهذه الصدمات وذيولها تحول دون استباق مستقبل الفروق العالمية، وتجعل من محاولة الاستطلاع مهمة عسيرة على دارسي الاقتصاد، ولكن بعض التطورات تبدو راجحة. فمن جهة، يقيد تعاظم ثروة الصين قدرتها على تقليص الفروق الاجتماعية العالمية، ولن تتأخر طبقاتها المتوسطة العليا والعليا عن الدخول بأعداد كبيرة في فئة القمة من توزيع المداخيل العالمي. ولتعاظم مداخيل آسيويين آخرين، تعود منابتهم إلى الهند وإندونيسيا، مفعول شبيه بالمفعول الصيني.
وفي وقت من الأوقات، في أثناء العقود المقبلة، قد تتساوى حصص السكان الصينيين والأميركيين في فئة أثرياء العالم، أي قد يتساوى عدد الأثرياء الصينيين، بحسب المعايير العالمية، ونظيرهم من أثرياء الولايات المتحدة. ومثل هذه الظاهرة تطور مهم، فهو قرينة على انتقال عريض للسلطة الاقتصادية والتكنولوجية وربما الثقافية في العالم.
العالم الأكثر مساواة منذ قرن وبعض القرن
وتحديد الوقت الذي قد يحدث فيه الأمر يقتضي حساباً معقداً يفترض بدوره عدداً كبيراً من الفرضيات تتناول، على الخصوص، نسب النمو المقبلة في الاقتصادين، ومقادير التغيير في توزيع المداخيل الداخلي، والاتجاهات السكانية واتجاهات التمدين الجارية في الصين. ولعل العامل الأهم في تحديد متى يساوي عدد الصينيين الميسورين، بالمعايير العالمية، عدد الأميركيين الميسورين، هو الفرق في نسب نمو الناتج الإجمالي للفرد الواحد بين الصين السريعة النمو والولايات المتحدة. وهذا الفرق (المسمى "تفاوت النمو") بلغ ست نقاط مئوية في أعوام 1980، وسبع نقاط في أعوام 1990، وقفز إلى تسع نقاط مئوية بين دخول الصين منظمة التجارة العالمية في 2001 وبين أزمة 2008 العالمية. ومذذاك انخفض الفرق إلى نحو أربع نقاط ونصف نقطة. والأرجح أن يتباطأ النمو الصيني في الأعوام المقبلة القريبة. وقد لا تختلف نسب النمو السكاني في البلدين اختلافاً كبيراً، على رغم أن الولايات المتحدة تشهد نسبة نمو تفوق النسبة الصينية قليلاً.
فإذا استحضرت هذه العناصر إلى الذهن، قد يمكن توقع عدد الصينيين الصافي الذين يتقاضون مداخيل تساوي، أو تفوق، الدخل المتوسط الأميركي الذي يتقاضاه عدد الأميركيين الصافي المقابل، (ويبلغ عدد هؤلاء، تعريفاً، نصف الأميركيين). ويستوفي، اليوم، هذا الشرط 40 مليون صيني (لقاء 165 مليون أميركي). ومع تفاوت نمو يبلغ ثلاثة في المئة سنوياً، وبعد 20 عاماً، ينبغي أن تتساوى الكتلتان. وإذا انخفض التفاوت إلى اثنين في المئة، على سبيل التقدير، تساوت الكتلتان بعد عقد على 20 عاماً.
وجيل أو جيل ونصف الجيل بعد اليوم مدة أقل من تلك التي انقضت منذ انفتاح الصين في أعوام 1980، إلى يومنا. فالصين اقتربت على نحو مدهش من شيء لم يدر في خاطر أحد عند موت ماو في 1976: أن يعد البلد الفقير بعد 70 عاماً، مواطنين أثرياء على عدد أثرياء الولايات المتحدة.
المحرك الأفريقي
وبعد هذا الانعطاف الكبير، لن تسهم الصين في تقليص الفروق العالمية. وقد تكون البلدان الأفريقية مصدر التقليص المقبل. فهذه البلدان ينبغي أن تنمو بوتيرة أسرع من وتيرة نمو سائر العالم، وأسرع من وتيرة نمو البلدان الغنية في منظمة التعاون والنمو الاقتصادي، على نحو خاص، ومن الصين، في سبيل بلوغ هذا الهدف. وهي تضطلع بدور حاسم في هذا السياق، لأنها كلها فقيرة، من جهة أولى، ولأن نسبة الولادات تقل عن مستويات الاستبدال في العالم كله.
ولا يبدو أن في وسع أفريقيا محاكاة نجاح بلدان آسيا الاقتصادي القريب. وجردة إنجازها منذ 1950 لا تدعو إلى التفاؤل. وإذا احتسبنا متوسط نمو خمسة في المئة للفرد الواحد هدفاً مفترضاً وثابتاً طوال خمسة أعوام في الأقل، وهو هدف طموح وفي المتناول، معاً، للاحظنا أن ستة بلدان أفريقية فقط بلغت هذه النسبة طوال السنوات الـ70 الماضية. وهذه الاستثناءات تعود كلها، ما عدا واحداً منها، إلى بلدان صغيرة جداً (على صعيد عدد السكان)، أو إلى بلدان يتعلق نموها بسلعة أو مادة واحدة تصدرها (النفط في حال الغابون وغينيا الاستوائية، والكاكاو في حال شاطئ العاج). وبلغت بوتسوانا والرأس الأخضر النسبة العتيدة، إلا أنهما بلدان صغيران جداً. وحدها إثيوبيا بلد مأهول بعدد كبير من السكان (أكثر من 100 مليون شخص)، وحافظت على نسبة نمو مرتفعة طوال 13 سنة متصلة، من 2005 إلى 2017. ومذذاك، طويت هذه الصفحة جراء اندلاع حرب أهلية جديدة في 2020، وتجدد النزاع مع إريتريا.
ويستفاد من هذا التمرين السريع أن على أكثر البلدان الأفريقية سكاناً - نيجيريا وإثيوبيا ومصر وجمهورية الكونغو الديموقراطية وتنزانيا وجنوب أفريقيا - أن تعاكس الاتجاه التاريخي السائد، وأن تضطلع بالدور الذي أدته الصين، في أثناء العقود الأخيرة، في تضييق الفروق الاجتماعية والاقتصادية العالمية. ولا شك في أن قلة من المراقبين حسبت أن في وسع آسيا إنجاز النمو الاقتصادي الهائل الذي أنجزته. فتوقع الاقتصادي السويدي، الفائز بجائزة نوبل غونر ميردال في كتابه الصادر في 1968، "مأساة آسيوية: مقالة في فقر الأمم"، أن تبقى آسيا، في المستقبل المنظور، فقيرة، بسبب فقرها وضعف تطورها التكنولوجي، وبعد قرابة عقد على نشر كتاب ميردال، خطت المنطقة على طريق النمو السريع والمرتفع خطواتها الأولى، وتصدرت بعض مجالات التكنولوجيا.
من غير المحتمل أن تكون المساعدات الخارجية عاملاً راجحاً من عوامل النمو. وتدل العقود الستة الماضية من تاريخ المساعدات الغربية لأفريقيا من غير التباس على أن مثل هذا النهج لا يضمن نمو بلد من البلدان. فالمساعدة غير كافية وغير فاعلة في آن واحد. وهي غير كافية لأن البلدان الغنية لم تصرف يوماً إلى المساعدة الأجنبية جزءاً مهماً من ناتجها الإجمالي المحلي. فالولايات المتحدة، أغنى بلد في العالم، لا تمنح اليوم إلا 0.18 في المئة من ناتجها. وشطر كبير من المنحة يمول "شؤوناً أمنية"، ويشتري تجهيزات عسكرية أميركية. وتخصيص مساعدات أكبر لا يجعلها فاعلة. والمستفيدون الأفريقيون السابقون من المساعدة لم يضطلعوا بدور في نمو اقتصادي نوعي، فالمساعدة لا تصرف على وجه مجد، وتسرق علناً. ويؤدي ما يسمى "لعنة الموارد"، وهي حال بلد يملك مادة أساسية ثمينة ولا يبارح الركود على رغم ذلك، إلى الجمع بين أرباح أولية ضخمة وبين شلل لاحق من غير نمو ولا ازدهار متقاسمين.
وإذا مضت أفريقيا على مراوحتها فلا ريب في أن تحمل هذه الحال كثيرين على الهجرة. وعوائد الهجرة، في المحصلة، ضخمة: فإذا استقر شخص يتقاضى دخلاً متوسطاً في بلده تونس، في فرنسا، وابتدأ العمل المنتج، وتقاضى 20 شطراً مئوياً من العائد الفرنسي، لعاد عليه ذلك بثلاثة أضعاف دخله تقريباً، إلى ضمانه لأولاده شروط حياة أفضل من الشروط التونسية. وفي مستطاع أفريقيي جنوب الصحراء الحصول على مكاسب تفوق مكاسب العامل التونسي إذا هم أقاموا في أوروبا: فالأوغندي الذي يتقاضى الدخل المتوسط في أوغندا، وينتقل إلى النروج، ويبلغ راتبه فيها 20 شطراً مئوياً من الدخل المحلي، يزيد دخله 18 ضعفاً. وعلى هذا، يحفز عجز الاقتصادات الأفريقية عن اللحاق بالاقتصادات الغنية (وقصورها عن تقليص الفروق العالمية بين المداخيل في المستقبل، الهجرة، ويغذي الأحزاب السياسية المعادية للأجانب، والمغرقة في مماشاة النزاعات القومية الأصلية، في البلدان الغنية، وعلى الأخص في أوروبا).
ويقود مزيج وفرة الموارد الطبيعية في أفريقيا، وفقرها المزمن، وضعف حكوماتها، القوى العالمية المسيطرة إلى التنازع على تقاسم القارة. فعلى رغم إهمال الغرب أفريقيا في أعقاب الحرب الباردة، نبهت الاستثمارات الصينية في القارة، الولايات المتحدة ودول أخرى إلى مكانة أفريقيا. ومدحت الوكالة الأميركية الدولية النمو الصيني من طرف غير مباشر، حين تنبهت إلى أفريقيا أولاً، وحين صرفت استثماراتها، ثانياً، على مثال الصين ومشاريعها، إلى الأبنية التحتية الأساسية. ولاحظ الأفريقيون أن المنافسة بين الدول الكبيرة تعود عليهم بالخير، وأن في مقدورهم مقارعة دولة كبيرة بأخرى. ولكن ثمة مصيراً أشد قتامة يؤول إلى انقسام القارة شطرين، شطر حلفاء وشطر أعداء، يتنافسان بدورهما وقد يصلي واحدهما الآخر الحرب، فترجئ هذه الفوضى إنشاء سوق مشتركة على المثال الأوروبي. وتتضاءل إذذاك الآمال المعلقة على طفرة نمو أفريقية تقلص الفروق العالمية في السنوات المقبلة وتنحسر.
عالم الغد
أياً كان المنحى الذي تنحو إليه الفروق الاجتماعية العالمية، لا شك في أن تحولات هائلة تنتظرنا. وإذا لم يتباطأ نمو الصين تباطؤاً شديداً فإن حصة المواطنين الصينيين من فئات التوزيع العالمي العليا للمداخيل لن تنفك تتعاظم، وتتقلص حصة الغربيين. وهذا التغيير هو انقلاب في حال مستقرة منذ الثورة الصناعية، سمتها تربع كثرة غربية ساحقة في قمة هرم المداخيل العالمي، بل إن الغربيين الفقراء شاركوا في التربع هذا. وتراجع مكانة الطبقات الدنيا والطبقات الوسطى الدنيا في الغرب هو مصدر استقطاب داخلي، فأغنياء بلد من البلدان الأوروبية سيبقون أغنياء بمعايير عالمية، بينما يشهد فقراء هذا البلد تراجعاً في المرتبة قياساً على المعايير نفسها. وأما منحى الفروق العالمية إلى التقلص فيحتاج استمراره إلى نمو اقتصادي كبير في البلدان الأفريقية الكثيفة السكان، على ما هو غير مرجح. فالهجرة إلى خارج أفريقيا، والمنافسة بين الدول الكبيرة على موارد القارة، ودوام الفقر والحكومات الضعيفة، كلها عوامل ستلازم مستقبل أفريقيا على نحو ما لازمت ماضيها.
ويبقى عالم أكثر مساواة، على رغم ذلك، هدفاً يستحق السعي إليه. وقلة من المفكرين تنبهت إلى أهمية المساواة بين البلدان على قدر تنبه الفيلسوف الإسكتلندي في القرن الـ18، آدم سميث، مؤسس الاقتصاد السياسي. ففي كتابه الأم، "ثروة الأمم"، لاحظ كيف أدت الهوة في الثروة والسلطة بين الغرب وبقية العالم إلى الاستعمار وحروب العدوان. فكتب: "كان تفوق قوة الأوروبيين ساحقاً إلى حد حملهم على ارتكاب صنوف المظالم كلها في البلدان البعيدة هذه". وغذت الفروق [التباينات] العنف والخروج على الإنسانية. وعلى رغم هذا، أمل آدم سميث في أن يزداد أهل هذه البلدان قوة، بينما يزداد الأوروبيون ضعفاً. "ويسع سكان أجزاء العالم المتفرقة بلوغ المساواة في الشجاعة والقوة اللتين تلهمان الفريقين الخوف المتبادل، وهذا وحده يحمل الأمم المستقلة على الإقرار بظلمها، واحترام حقوق هؤلاء وأولئك على حد واحد".
اضف تعليق