q
هناك صدمات عديدة: الطلب مقابل العرض، والمخاطر الخاصة مقابل النظامية، والصدمات العابرة مقابل الدائمة. ومن الصعب تحديد الطبيعة الحقيقية لهذه الصدمات في الوقت المناسب حتى يتسنى التصدي لها. ومن ثم، يتعين على مسؤولي البنوك المركزية أن يتعاملوا معها بقدر أكبر من التواضع. وتتطلب السياسة النقدية منهجا معدلا يتسم بالحصانة...
بقلم: ماركوس برونرماير

بعد عقود من السكون، يطل التضخم من جديد؛ ولمواجهته، يتعين أن تغير البنوك المركزية منهجها

النظرية النقدية في الاقتصاد تألفت من طائفة متنوعة من المدارس الفكرية ولم تقتصر على نموذج موحد. وكل من هذه المدارس تؤكد على قوى مختلفة ترى أنها تدفع التضخم، وتوصي باستجابة مختلفة للتعامل معها من خلال السياسة النقدية. وقد فرضت كل فترة زمنية تحديات مختلفة – وكل منها تطلَّب اتباع منهج خاص لمواجهته من خلال هذه السياسة.

واليوم، تتطلب مواجهة التضخم الذي عاود الظهور تحولا آخر في موضع تركيز السياسة النقدية. فالإطار الفكري السائد لدى البنوك المركزية منذ الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2008 لا يحمل تركيزا على ما يلوح في الأفق من قضايا هي الأشد إلحاحا، ولا يخفف من تداعياتها الوخيمة المحتملة في هذا المناخ الجديد.

وعقب فترة مطولة من الانخفاض في أسعار الفائدة والتضخم، بدأ الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة تتسم بارتفاع التضخم وارتفاع مستويات كل من الدين العام والخاص. فمنذ خمسين عاما، ارتأت البنوك المركزية أن الحاجة ملحة لإدراج الاستقرار المالي وبواعث القلق بشأن الانكماش ضمن نماذجها الاقتصادية التقليدية، واستحدثت أدوات غير تقليدية للتعامل مع المسألتين.

وعلى الرغم من أن تحقيق الاستقرار المالي يظل من بواعث القلق، فإن ثمة اختلافات مهمة بين البيئة الحالية وتلك التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، وذلك على النحو التالي:

- الدين العام مرتفع حاليا، ومن ثم فإن أي زيادة في سعر الفائدة لدرء تهديدات التضخم تجعل خدمة الدين أكثر تكلفة - مع ما يرافق ذلك من انعكاسات مالية فورية وكبيرة على الحكومات. ومنذ بداية أزمة كوفيد-19 في أوائل عام 2020، بدا واضحا أيضا أن سياسة المالية العامة يمكن أن تصبح أحد العوامل الدافعة لزيادة التضخم.

- وبدلا من الضغوط الانكماشية، تواجه معظم البلدان تضخما مفرطا. ويعني هذا أن هناك عملية مفاضلة واضحة حاليا بين اتباع سياسة نقدية تحاول الحد من الطلب الإجمالي عن طريق زيادة أسعار الفائدة، وسياسة أخرى تهدف إلى ضمان الاستقرار المالي.

- وقد تغيرت طبيعة الصدمات ووتيرة حدوثها. فتاريخيا، كانت الصدمات تحدث في المقام الأول بسبب زيادة الطلب أو انخفاضه - مع استثناء بارز هو صدمات العرض إبَّان ما عُرف باسم الركود التضخمي في سبعينات القرن الماضي. أما اليوم، فهناك صدمات عديدة: الطلب مقابل العرض، والمخاطر الخاصة مقابل النظامية، والصدمات العابرة مقابل الدائمة. ومن الصعب تحديد الطبيعة الحقيقية لهذه الصدمات في الوقت المناسب حتى يتسنى التصدي لها. ومن ثم، يتعين على مسؤولي البنوك المركزية أن يتعاملوا معها بقدر أكبر من التواضع.

وتتطلب السياسة النقدية منهجا معدلا يتسم بالحصانة في مواجهة التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة في السيناريو الاقتصادي الكلي. وقد يكون للسياسات الفعالة في بيئة اقتصادية كلية معينة تداعيات غير مقصودة عندما تتغير الظروف على نحو مفاجئ. ويناقش هذا المقال التحديات الرئيسية التي ستواجه البنوك المركزية، وأي من السياسات النقدية ستكون في دائرة الضوء، وكيف يمكن لهذه البنوك تجنب التراخي الذي ينتهي بها إلى خوض حربها الأخيرة.

التفاعل النقدي-المالي

تبدو البنوك المركزية في عملها وكأنها المسؤولة عن إدارة الاقتصادات الحديثة، فتتولى تحديد أسعار الفائدة بغية الوصول إلى استقرار التضخم، وإلى تحقيق التوظيف الكامل في أغلب الأحيان (في الاقتصادات المتقدمة). وإحدى الركائز الأساسية في هذا المنهج، الذي يمكن تسميته "هيمنة السياسة النقدية"، هي استقلالية البنوك المركزية. فأي بنك مركزي يتمتع بالاستقلالية القانونية إذا كان القانون يخوله السلطة المطلقة في تحديد أسعار الفائدة دونما تدخل من الحكومة. إلا أن الاستقلالية الفعلية لا تقل أهمية أيضا؛ فعند تحديد أسعار الفائدة، ليس على البنوك المركزية أن تكترث بما إذا كان رفع هذه الأسعار سيزيد من مديونية الحكومة أو مخاطر التعثر في السداد. ذلك أنها حين ترفع أسعار الفائدة ويصبح على الحكومات دفع المزيد لسداد ديونها، يكون المسار المأمول هو أن تخفض السلطات النفقات، مما يهدئ فورة النشاط الاقتصادي ويحد من الضغوط التضخمية. والاستقلالية هي الركيزة التي تتوقف عليها قدرة البنوك المركزية على تحديد السياسة المالية والسيطرة على الاقتصاد في الأوقات العصيبة.

وفي أعقاب الأزمة العالمية، كان السائد هو أسعار الفائدة المنخفضة ومستويات الدين العام الأقل تطرفا، مما أتاح للبنوك المركزية تجاهل التفاعلات التي لم تكن مؤثرة نسبيا آنذاك بين السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. وكانت الفترة التالية لأزمة 2008 هي فترة من هيمنة السياسة النقدية – أي أن البنوك المركزية كان بإمكانها تحديد أسعار الفائدة بحرية والسعي لتحقيق أهدافها على نحو مستقل عن سياسة المالية العامة. ورأت البنوك المركزية أن المشكلة الرئيسية لا تكمن في الأسعار المتزايدة، وإنما في احتمال أن يسفر ضعف الطلب عن حدوث انكماش كبير. ونتيجة لذلك، انصب تركيزها في الأساس على استحداث أدوات غير تقليدية للسياسة النقدية تمكِّنها من تقديم دفعة تحفيز إضافية. وشعرت البنوك المركزية بأن لديها الجرأة أيضا على اتباع سياسات من شأنها الجمع بين تلبية الحاجة إلى مزيد من التحفيز وتحقيق الأهداف الاجتماعية، مثل الإسراع بالتحول الأخضر أو تعزيز الإدماج الاقتصادي.

وأثناء أزمة كوفيد-19، تغيرت الظروف بدرجة هائلة. فقد شهد الإنفاق الحكومي ارتفاعا حادا في معظم الاقتصادات المتقدمة. ففي الولايات المتحدة، قدمت الحكومة الفيدرالية دعما هائلا شديد التركيز في شكل "شيكات تحفيز" أُرسلت إلى الأسر المستفيدة مباشرة. أما البلدان الأوروبية، فقد بدأت بتطبيق برامج في حدود أضيق إلى حد ما (ركزت في معظمها على الحيلولة دون تسريح العمالة وعلى برامج الإنفاق الرامية إلى المساعدة في عمليات التحول الأخضر والانتقال الرقمي). ويبدو أن توسع المالية العامة كان دافعا أساسيا للتضخم في الولايات المتحدة، بل إنه ساهم أيضا في التضخم الذي تمر به أوروبا. ولكن، في الوقت الذي كان الإنفاق فيه يتزايد، كانت البلدان تعاني من صدمات في العرض بلغت حجما غير مسبوق، وهو ما يُعزى في معظمه إلى المشكلات المتصلة بجائحة كوفيد-19 - مثل انقطاعات سلاسل الإمداد. وأدت هذه التطورات إلى زيادة الضغوط التضخمية.

وقد دللت الجائحة على أن السياسة النقدية في حد ذاتها لا تؤدي دوما إلى السيطرة على التضخم. فسياسة المالية العامة تضطلع بدور أيضا. والأهم من ذلك أن ما صاحبها من تراكم الدين العام زاد من احتمالية هيمنة سياسة المالية العامة – التي لا يستجيب في ظلها العجز العام لإجراءات السياسة النقدية. وفي حين أن انخفاض مستويات الدين والحاجة إلى دفعة تحفيزية أتاح للسلطات النقدية والمالية التحرك معا في أعقاب الأزمة المالية العالمية، فإن احتمال هيمنة سياسة المالية العامة اليوم يهدد بإحداث صدام بينهما. ذلك أن البنوك المركزية تفضل رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، لكن الحكومات تكره زيادة الإنفاق على الفوائد. وهي تفضل أن تتعاون معها البنوك المركزية عن طريق تسييل ديونها – أي بشراء السندات الحكومية التي لا يرغب مستثمرو القطاع الخاص في شرائها.

وليس بمقدور البنوك المركزية الاحتفاظ باستقلاليتها إلا إذ التزمت بعدم النزول على أي رغبة من جانب الحكومة في تسييل ديونها المفرطة، وبذلك تضطر السلطات إلى تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب، أو كليهما - أو ما يعرف باسم الضبط المالي.

وأحد الأسئلة المهمة بالنسبة للسياسة هو ما الذي يحدد الفائز في أي منافسة على الهيمنة بين سياسة المالية العامة والسياسة النقدية. ولا يكفي لضمان هيمنة السياسة النقدية مجرد وجود ضمانات قانونية لاستقلالية البنوك المركزية. فالهيئات التشريعية يمكن أن تهدد بتغيير القوانين، كما يمكن تجاهل المعاهدات الدولية، مما قد يحدو بالبنوك المركزية إلى الإحجام عن سياستها المفضلة. ولتعزيز هيمنة السياسة النقدية، يتعين على البنوك المركزية أن تحافظ على مستوى جيد من الرسملة؛ لأنها إذا طلبت عمليات إعادة رسملة متكررة من الحكومة، فسوف تبدو ضعيفة، وتخاطر بخسارة التأييد العام. والبنوك المركزية ذات الميزانيات العمومية الكبيرة التي تحتوي على قدر كبير من الأصول ذات المخاطر وتدفع فوائد على الاحتياطيات للبنوك الخاصة قد تتكبد خسائر كبيرة في حالة رفع أسعار الفائدة. ويمكن أن تتسبب هذه الخسائر في زيادة الضغوط من السلطات المالية لكي تمتنع عن رفع أسعار الفائدة.

،، يتعين على البنك المركزي أن يحافظ على انحياز الرأي العام له، لأن المواطنين هم المصدر الأساسي لقوته واستقلاليته ،،

والأهم من ذلك كله أنه يتعين على البنك المركزي الحفاظ على انحياز الرأي العام له، لأن المواطنين هم المصدر الأساسي لقوته واستقلاليته. ويعني هذا أن عليه الإفصاح بكفاءة عن الأساس المنطقي لإجراءاته بغية الحفاظ على التأييد العام، ولا سيما في مواجهة التضخم الناتج عن سياسة المالية العامة. فحفاظ البنك المركزي على هيمنة سياسته النقدية يرتهن، في نهاية المطاف، بقدرته على أن يعِد على نحو موثوق بأنه لن يقوم بعمليات إنقاذ للحكومة عن طريق تسييل الدين العام في حالة تعثرها في السداد.

تهديد الهيمنة المالية

تواجه البنوك المركزية تحديات جديدة في التفاعل بين الاستقرار النقدي والمالي. وهي تعمل حاليا في بيئة تتسم بارتفاع حجم الدين الخاص، وانخفاض علاوات المخاطر على الأصول المالية، وتشوه إشارات الأسعار، واعتماد القطاع الخاص الكبير على السيولة التي يوفرها البنك المركزي في الأزمات. والفرق الرئيسي بين فترة ما بعد أزمة 2008 والوضع الحالي هو الارتفاع المفرط في معدلات التضخم. فمنذ عِقد ونصف العِقد، كان هناك تزامن بين الهدف المزدوج للبنوك المركزية والمتمثل في تحفيز النشاط الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي باستخدام سياسات غير تقليدية. واليوم، توجد مفاضلات واضحة بين إدارة التضخم وتحقيق الاستقرار المالي، لأن الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة لمواجهة التضخم يهدد بزعزعة استقرار الأسواق المالية.

ففي أعقاب الأزمة العالمية، واجهت البنوك المركزية مشكلة مزدوجة تمثلت في ضعف الطلب وعدم الاستقرار المالي وتعهدت بعمل " كل ما يتطلبه الأمر" لمعالجة كليهما. وفور استنفاد الدفعة التحفيزية التقليدية من خلال أسعار الفائدة، تحولت البنوك المركزية إلى استخدام برامج التيسير الكمي غير التقليدية، التي اشترت بموجبها كما كبيرا من الأصول ذات المخاطر من القطاع الخاص، على أمل أن تعطي دفعة لأنشطة الإقراض والقطاع العيني من خلال ما تحققه هذه البرامج من تراجع في فروق أسعار الائتمان. وبالإضافة إلى ذلك، مكَّنت هذه البرامج البنوك المركزية من الاضطلاع بدور مهم جديد بوصفها صانع سوق الملاذ الأخير، حيث تشتري الأوراق المالية عندما تحجم كل الأطراف الأخرى عن شرائها.

،، هناك دائما مفاضلات بين هدفي استقرار الأسعار والاستقرار المالي – حتى وإن لم يظهر هذا التجاذب إلا على المدى الطويل ،،

وقد أدت عمليات الشراء الكبيرة لأصول القطاع الخاص إلى تضخم الميزانيات العمومية لهذه البنوك، ولم يتوقف هذا التوسع إلا عند انتهاء الأزمة لأنها خشيت أن يتسبب التعجيل بذلك في إلحاق الضرر بالاقتصاد. وأدت الرغبة في الإبقاء على ميزانيات عمومية كبيرة إلى تراكم دين القطاع الخاص، وتقلص فروق أسعار الائتمان، وتشوه إشارات الأسعار، وارتفاع أسعار المساكن بسبب زيادة الإقراض العقاري. وأصبح القطاع الخاص يعتمد على السيولة التي توفرها البنوك المركزية، واعتاد العمل في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة. بل إن الأسواق المالية باتت تتوقع أن تتدخل البنوك المركزية دائما عندما تسجل أسعار الأصول انخفاضا كبيرا. ولأن القطاع الخاص أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على البنك المركزي، فقد يكون التأثير الانكماشي لإجراءات استعادة الأوضاع العادية للميزانيات العمومية في البنوك المركزية أكثر وضوحا بكثير من تأثير دفعة التحفيز الناتجة عن إجراءات التيسير الكمي.

ومن غير الواضح حتى الآن أي مشكلات يمكن أن تواجه القطاع المالي عندما يحدث تغير مفاجئ في بيئة السياسة النقدية، بيد أن الخسائر المحتملة التي واجهتها صناديق معاشات التقاعد في المملكة المتحدة عام 2022 تمثل إنذارا صارخا. فقد استخدمت تلك الصناديق أساليب كان من المحتمل أن تؤدي بعد توقف العمل بها إلى تشوهات خطيرة في أسعار الفائدة على المدى الطويل، وإشعال أزمة أكبر. واضطر بنك إنجلترا إلى التدخل لشراء السندات البريطانية للحيلولة دون حدوث أزمة بعد ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل.

واليوم، في بيئة تجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، يتعارض هدفاها المتمثلان في استقرار التضخم والاستقرار المالي. فقد أدى اعتماد القطاع الخاص، ولا سيما أسواق رأس المال، على السيولة من البنوك المركزية، إلى موقف تظهر فيه هيمنة القطاع المالي، حيث تكون السياسة النقدية مقيدة بسبب المخاوف المتعلقة بالاستقرار المالي. ففي مثل هذه البيئة، قد يُحدث تشديد السياسة النقدية فوضى في القطاع المالي، ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة للتأثر حتى بالاضطرابات البسيطة. ويعتمد مدى هيمنة القطاع المالي على ما إذا كانت البنوك الخاصة تتمتع برسملة كافية بحيث تتحمل الخسائر، وعلى سلاسة إجراءات إفلاس البنوك الخاصة. ومن شأن وجود قانون فعال للإعسار أن يعزل النظام عن أثر التداعيات الناجمة عن فشل أي مؤسسة منفردة، وأن يحد من احتمال أن يشعر البنك المركزي بالاضطرار إلى التدخل لإنقاذها. وتجعل هذه القضايا من الصعب على البنوك المركزية تخفيض التضخم دون التسبب في حالة ركود – كما أنها تُضعِف إلى حد ما من استقلاليتها الفعلية.

وتدعو هذه المشكلات إلى إعادة النظر في كيفية تفاعل السياسة النقدية مع الاستقرار المالي. فمن الأهمية بمكان أن تهدف البنوك المركزية إلى استعادة إشارات الأسعار بسلاسة في الأسواق الخاصة التي تدخلت فيها بشكل مفرط. وينبغي لها أيضا أن تدرك أن هناك دائما مفاضلات بين هدفي استقرار الأسعار والاستقرار المالي - حتى وإن لم يظهر هذا التجاذب إلا على المدى الطويل. ويؤدي تراكم الميزانيات العمومية للبنوك المركزية إلى تشوهات مالية، وإلى تقييد إجراءاتها في المستقبل. وينبغي للبنوك المركزية أن تستشرف هذا التجاذب وتفرض قدرا أكبر من الإشراف الاحترازي الكلي - أي التنظيم الذي لا يقتصر تركيزه على سلامة فرادى المؤسسات، كما كان المستهدف من التنظيم المالي تاريخيا، بل يمتد إلى ضمان سلامة النظام المالي ككل. ومثل هذه الرقابة الاحترازية الكلية المعززة ينبغي أن تركز بشكل خاص على مراقبة توزيعات الأرباح وتراكم المخاطر في أسواق رأس المال غير المصرفية.

وأخيرا، يتعين على البنوك المركزية إعادة النظر في الأدوار التي تؤديها بوصفها جهات إقراض وصنّاع سوق تمثل الملاذ الأخير، وضمان أن تكون أي تدخلات مجرد إجراءات مؤقتة. وعلى البنوك المركزية أيضا أن تركز على الإفصاح عن إطار السياسة النقدية الذي يمهد أوضاع السيولة دون أن يؤدي إلى عمليات شراء أصول دائمة.

توقعات التضخم وركائزه

في الوقت الحالي، تتسبب موجة من صدمات العرض وغيرها من الصدمات في رفع التضخم والتهديد بفصل التوقعات التضخمية عن الهدف، أو الركيزة، التي حددها له البنك المركزي. وبعد ما يُعرف باسم "الاعتدال الكبير" في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي - عندما كان كل من التضخم والنمو الاقتصادي في مستويات مواتية - كانت التوقعات التضخمية مستقرة في جميع الاقتصادات المتقدمة. وعقب الأزمة المالية العالمية، وصل الأمر إلى وجود مخاوف من أن تنخفض الأسعار الكلية (حدوث انكماش). إلا أن التضخم السريع الذي أعقب جائحة كوفيد-19 جعل البنوك المركزية تدرك أن وقت الشعور بالقلق من احتمال الانكماش قد مضى؛ وعاد القلق من احتمال أن يتجاوز التضخم مستهدفات البنوك المركزية على المدى المتوسط.

لقد استوعبت البنوك المركزية جيدا دروس أزمة عام 2008، التي جعلتها تتخلى عن منهجها التقليدي في التعامل مع توقعات التضخم. وكان هذا التحول الفكري مسؤولا إلى حد كبير عن التشخيص المبدئي الخاطئ لخطر التضخم أثناء الجائحة. فقد اعتبرت البنوك المركزية أن التغلب على التضخم الذي حدث في الثمانينات أمر مسلم به، وهو ما جعلها تفترض أن التوقعات التضخمية ستظل دائما على درجة جيدة من الثبات حول الركيزة المستهدفة. ومن منطلق هذا الافتراض، اعتقدت هذه البنوك أنه من الممكن السماح للاقتصاد بأن يصل إلى السخونة - أي ترك معدل البطالة يهبط إلى أدنى مما يُعرف بالمعدل الطبيعي (أو غير التضخمي) - دون تحمل كثير من المخاطر. واعتبرت أيضا أنه من الآمن أن تقدم السياسة النقدية تعهدات للمدى الطويل (كأن تُصدر توجيهات مسبقة بأنها ستُبقي أسعار الفائدة منخفضة في المستقبل)، لأنه لم يَبْدُ من المرجح أن يكون لتلك التعهدات تداعيات تضخمية على المدى الطويل. إلا أن مثل هذه التعهدات يمكن أن تضر بالتوقعات إذا لم تتمكن من الوفاء بها في المستقبل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن خشية الانكماش دفعت البنوك المركزية إلى اتباع منهج قائم على البيانات في التعامل مع السياسة النقدية تسبب عمدا في تأخير أي تشديد للسياسة. ولضمان ألا يتوقف الناتج الاقتصادي قبل الأوان، كانت البنوك المركزية تمتنع عن رفع أسعار الفائدة حين تتوقع ارتفاع التضخم في المستقبل (لنقل، مثلاً، لأنه كان من المتوقع أن يُحْدِث انخفاض البطالة عن المستوى الطبيعي فورة في النشاط الاقتصادي). وبدلا من ذلك، كانت تنتظر إلى أن يتحقق التضخم قبل أن تبدأ في التحرك.

واتخذت البنوك المركزية أيضا منهجا متراخيا في التعامل مع صدمات العرض. فالنماذج الاقتصادية المعتاد استخدامها في البنوك المركزية غالبا ما تفترض أنه لا ينبغي للسياسة النقدية أن تحيِّد التضخم المترتب على صدمات العرض تحييدا كاملا لأن هذا النوع من التضخم ما هو إلا عارض مؤقت (ينتهي مع زيادة العرض)، وأن سياسة أسعار الفائدة تهدف إلى السيطرة على الطلب الإجمالي. أما الحجة التقليدية فهي أن البنوك المركزية يجب أن تُقَيِّم منافع تهدئة التضخم المؤقت في مقابل تكاليف كبح النمو الاقتصادي. غير أن عدم التحرك لمواجهة صدمات العرض باتخاذ خطوات لخفض الطلب يمكن أن يتسبب في زعزعة استقرار ركيزة التضخم ومنع البنوك المركزية من تحقيق أهدافها في المستقبل. ومن المفارقات أن الحرب في أوكرانيا عززت ركيزة التضخم لأنها وفرت للبنوك المركزية غطاء لتفسير سبب هذا الارتفاع الكبير في التضخم.

ولا يبدو حتى الآن أن الإطار الفكري الذي اعتمدته البنوك المركزية بعد أزمة 2008 قد أبعد التوقعات التضخمية عن حدودها المستهدفة. إلا أنه سيكون من المكلف الانتظار إلى أن يبدأ انفلات هذه التوقعات عن ركيزتها لكي يبدأ تغيير هذه الإطار. وقد ظهرت إشارات إنذار بالفعل في أحدث بيانات التوقعات التضخمية. ومن شأن فقدان ركيزة التضخم، بما يصاحبه من عدم يقين لدى المستهلكين ومؤسسات الأعمال، أن يعرقل الطلب والعرض الكليين. وسيكون لهذا عواقب مهمة على كل من البنوك المركزية - لأنه سيعوق قدرتها على السيطرة على التضخم - والنشاط الاقتصادي، لأن المستهلكين والشركات سيترددون في الشراء والاستثمار.

ولمواجهة هذه المشكلات، ينبغي للبنوك المركزية أن تعود إلى اتباع منهج نقدي تتمثل أولويته القصوى في تحقيق استقرار التوقعات التضخمية. فالسياسة لا يمكن تشديدها إلا بعد حدوث التضخم. والأولى من ذلك هو أن تتحرك البنوك المركزية لاتخاذ اللازم فور ظهور إشارات الإنذار. ويتعين على البنوك المركزية أن تجمع بين توقعات قطاع الأسر والأسواق المالية بشأن التضخم في المستقبل، لأن هذه التوقعات هي التي تشكل كلا من أوضاع الطلب الكلي وأسعار الأصول.

* ماركوس برونرماير، أستاذ كرسي إدوارد سانفورد للاقتصاد في جامعة برينستون.
https://www.imf.org/

اضف تعليق