q
كما جاء قرار تعديل سعر صرف الدينار العراقي ازاء الدولار ايضاً متناسباً مع الارتفاع الإيجابي الحاصل حاليا في قيمة الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي والذي لامس حوالي (موجب ١٥٪) ما دفع السياسة النقدية الى ضرورة تعديل مسار سعر الصرف ورفع القيمة الخارجية للدينار...

عد قرار ٧-شباط-٢٠٢٣ (القاضي برفع سعر صرف الدينار العراقي الرسمي ازاء الدولار الامريكي ليبلغ ١٣٠٠ دينار لكل دولار بدلا من ١٤٥٠ دينار للدولار الواحد) نمطاً من انماط السياسة النقدية المتشددة tighten policy لمحاربة التضخم ومكافحة الانشطة التضخمية وتوقعاتها ودوالها المستجدة التي ولدتها الاسواق غير مكتملة الشروط (السلعية والنقدية).

ذلك بعد سنوات قاسية من التكييف النقدي monetary adjustment قدم فيها البنك المركزي العراقي منذ العام ٢٠٢٠ السبل النقدية كافة لدعم المالية العامة دون ان تبدي السياسة المالية نفسها أي تكييف مالي fiscal adjustment في تعظيم الايرادات غير النفطية او تقليص مساحة البطالة ذات المرتبتين العشريتين او مستويات الفقر المرتفعة من خلال الانفاق العام، بل لجأت المالية العامة الى تعظيم الاقتراض المحلي ليبلغ اجمالي الدين الداخلي قرابة ٥٠ مليار دولار وفرها البنك المركزي العراقي عن طريق تنقيد الدين العام debt monetisation بنسبة بلغت ٦٣٪؜ من اجمالي تلك الديون دون ان يحقق تخفيض سعر صرف الدينار العراقي بنسبة ٢٣٪؜ اهدافه في التنمية والاستقرار.

فمع توافر احتياطيات أجنبية كبيرة عظمتها دورة الاصول النفطية للعراق والتي لامست اليوم ١١٥ مليار دولار، باتت مؤشراً احتياطياً لا يتناسب وتدني سعر الصرف في السوق الموازي والذي قاد الى انخفاض معدلات الصرف بنسبة ١٠٪؜ ازاء ارتفاع التضخم السنوي بالنسبة نفسها وبحوالي ١٠٪؜ ايضا واقتراب التضخم نفسه من المرتبتين العشريتين، ما اقتضى تدخل البنك المركزي العراقي بحزمة سياساتية مهمة في مقدمتها، التصدي لدالة التوقعات التضخمية التي اضحى السوق الموازي للصرف يولدها (حيث اخذت الاسعار تتصاعد سراعا وتلامس المرتبتين العشريتين كما ذكرنا آنفا)، ذلك عن طريق رفع القيمة الخارجية للدينار العراقي والتي تمثل السياسة النقدية الجديدة في التصدي للتوقعات التضخمية باستخدام متغير اقتصادي وهو سعر الصرف ليمثل (مثبتا اسميا صريحا explicit nominal anchor) يتولى فرض الاستقرار في المستوى العام للأسعار وخفض معدلات نمو التضخم disinflation.

كما جاء قرار تعديل سعر صرف الدينار العراقي ازاء الدولار ايضاً متناسباً مع الارتفاع الإيجابي الحاصل حاليا في قيمة الحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي والذي لامس حوالي (موجب ١٥٪) ما دفع السياسة النقدية الى ضرورة تعديل مسار سعر الصرف ورفع القيمة الخارجية للدينار العراقي وكبح الضغوط التضخمية، اذ آزر قرار سعر الصرف الجديد توافر احتياطيات اجنبية رسمية ساندة للدينار لامست ١١٥ مليار دولار كما ذكرنا.

وهي قوة احتياطية توفر تغطية معيارية لتجارة العراق الخارجية الاجمالية لما يقارب ٢٠ شهر استيرادي، في حين ان المعدل العالمي للتغطية الاستيرادية هو بنحو ثلاثة أشهر فحسب. لذا لابد من ان يؤدي قرار رفع قيمة الدينار العراقي الى مكافحة الانشطة والتوقعات التضخمية التي تفاقمت في الاشهر الاخيرة كما ذكرنا انفا. اذ بلغت الاسعار حافات المرتبتين العشريتين وهو امر ترفضه السياسة النقدية في تطبيق اهدافها المقرة بموجب قانون البنك المركزي العراقي رقم ٥٦ لسنة ٢٠٠٤ لفرض الاستقرار في المستوى العام للأسعار.

فقد اتبع البنك المركزي العراقي في هذه الحالة نمطاً متشدداً tighten policy من انماط السياسة النقدية التي تكافح الاتجاهات التضخمية في الاقتصاد من خلال تعظيم القيمة الخارجية للنقد العراقي باستخدام نظاماً نقديا monetary regime يعتمد بلوغ هدفا وسيطاً يقوم على المثبت الاسمي لسعر الصرف nominal anchor كما اشرنا ذلك، اعتمد كمتغير في صناعة قرار الاستقرار من جانب السياسة النقدية وهو ما يحصل للمرة الثانية خلال السنوات العشرين الماضية، وان بلوغ الهدف الوسيط intermediate target الذي يمثله سعر الصرف التوازني الجديد سيؤدي لامحالة الى خفض التضخم في اطار نظام ثابت للصرف يجسد ارتفاعا في القيمة الخارجية للدينار، كشرط للاستقرار والحفاظ على الدخل النقدي للأفراد واسناد مستويات المعيشة.

منوهين في الوقت نفسه الى ان الموازنة العامة الاتحادية للعام ٢٠٢٣ ستعتمد سعر الصرف الجديد البالغ ١٣٠٠ دينار ازاء الدولار الواحد لأغراض تقييم إيراداتها ومصروفاتها بالعملة الاجنبية مما يعني ان ثمة انسجام بين السياستين المالية والنقدية لبلوغ الاستقرار الكلي.

وبالرغم مما تقدم فما لم تتوجه السياسة المالية والسياسة الاقتصادية بشكل عام نحو تشجيع الاستثمار في التنمية وتشغيل طاقات الانتاج الوطني فان الاستقرار السعري الذي تولده السياسة النقدية لوحدها سوف لن يكفي للقضاء على مشكلات الفقر والبطالة.

واخيرا، فان تحقيق سياسات الاستقرار نفسها دون توافر سياسات تنموية حقيقية ستقود لامحالة الى ركود خطير في نهاية المطاف! فما فعله البنك المركزي العراقي تاريخيا من سياسات متشددة لكبح جماح التوقعات التضخمية برفع سعر صرف الدينار العراقي ازاء الدولار بنسبة ٢٣٪ بين الاعوام ٢٠٠٦-٢٠٠٨ والاستقرار الطويل اللاحق بعدها، آلت الى خفض معدلات النمو في التضخم السنوي الى حوالي ٦٪ بدلا من ٢٧٪ ووفرت بيئة جيدة لانطلاق التنمية.

ختاما سيظل العراق بحاجة مستمرة الى سياسة اقتصادية تؤازر التنمية بشكل متوازي مع سياسة الاستقرار التي وفرها البنك المركزي العراقي في ٧-شباط-٢٠٢٣ والتي يعمل من اجلها لكي تكتمل اهداف البلاد في الاستقرار والتنمية معا.

* باحث اقتصادي أكاديمي، مستشار رئيس الوزراء للشؤن المالية
شبكة الاقتصاديين العراقيين

اضف تعليق