توفّر البنية التحتية يعني انخفاض تكاليف الإنتاج ومن ثم زيادة الأرباح، وهذا ما يشجّع القطاع الخاص على فتح مشاريعه الاستثمارية خصوصاً في ظل عدم مزاحمة القطاع العام له في النشاطات الإنتاجية. فالدور المطلوب للدولة هو الدور التنموي الذي يسهم في إيجاد القاعدة الأساسية لانطلاق القطاع الخاص في الاقتصاد...
يختلف دور الدولة في الاقتصاد من دولة لأخرى ومن وقت لآخر حسب الظروف السائدة، كما هو الحال في العراق.
حيث سار دور الدولة في الاقتصاد العراقي من الدور التنموي مع تأسيس مجلس الاعمار عام 1950 مروراً بالدور الانتاجي من 1958-2003، وحتى الدور الضبابي ما بعد 2003 ولحد الآن.
يمكن تناول هذه الادوار للدولة في الاقتصاد العراقي، بإيجاز؛ وفق ثلاثة مرحل وهي:
المرحلة الاولى ما قبل 1958
كانت الدولة تمارس الدور التنموي من خلال مجلس الاعمار الذي تأسس عام 1950 بعد أن كان العراق يعاني من تذبذب اداء الوزارات وضعف التنمية والايرادات المالية بسبب احتكار الشركات الاجنبية.
جاء تأسيس مجلس الاعمار لتلافي غياب استقرار الوزارات آنذاك، وتمتعه بالاستقلال الاداري والمالي والتخطيط والتنفيذ للمشاريع التنموية ذات الاولوية القصوى.
تزامن مع تأسيس مجلس الاعمار زيادة الايرادات النفطية نتيجة لتطبيق عقد مناصفة الارباح مع الشركات الاجنبية، عام 1952؛ والتي كانت بمثابة عنصر قوة ودعم لمجلس الاعمار في تنفيذ خططه ومشاريعه بانسيابية.
أسهم مجلس الاعمار في إنجاز الكثير من المشاريع التنموية، التي لاتزال شاخصةً حتى يومنا هذا؛ فيما توقف عن انجاز البعض منها مع قيام ثورة 14 تموز وتم تنفيذها فيما بعد من قبل الدولة.
بمعنى إن الدولة لم تُركّز على النشاط الاقتصادي في القطاعات الانتاجية، التي يمكن للقطاع الخاص أن يقوم بها؛ بقدر ما كان اهتمامها التركيز على القطاعات التنموية التي تمثل حجر الزاوية لانطلاق القطاعات الانتاجية.
خلاصة القول، إن الدولة لم تكُن حيادية عن الاقتصاد وبالمقابل لم تكُن متدخلة بشكل مباشر في القطاعات الانتاجية، فيما إنها أخذت الدور التنموي لأجل وضع حجر الأساس للاقتصاد العراقي.
المرحلة الثانية من 1958-2003
بعد ثورة 14 تموز تم إلغاء مجلس الاعمار وأصبح التوجه العام للاقتصاد العراقي توجّه اشتراكي، أي أن الدولة هي تضطّلع بالاقتصاد بشكل كامل تقريباً.
مارست الدولة دورها في الاقتصاد عبر التخطيط الاقتصادي، على اختلاف مراحل شموليته حسب الظروف السائدة؛ من 1958 وحتى عام 2003.
ففي الظروف المستقرة يكون التخطيط شمولي-أفقياً وعمودياً- لأغلب القطاعات الاقتصادية ومن أعلى المستويات لأدناها، لكن في الظروف غير المستقرة يكون أقل شمولية حيث يفسح المجال للقطاع الخاص ليأخذ دوره في الاقتصاد.
حيثُ سمحت حقبة السبعينيات، بسبب تحسُن الايرادات النفطية وتحقق الاستقرار النسبي؛ أن يكون التخطيط الاقتصادي في أعلى مراحله ليشمل أغلب القطاعات الاقتصادية، لكنه أصبح في أدنى مراحله وفسح المجال للقطاع الخاص في حقبة التسعينات، بسبب الحصار الاقتصادي الذي تسبب في انخفاض الايرادات النفطية التي تمثل الشريان الرئيس للتخطيط الاقتصادي.
جدير بالذكر، إنه مع السماح للقطاع الخاص بأخذ دوره في الاقتصاد إلا إن هذا الدور لا يُمكن اعتباره استراتيجي ودائم بل هو مرحلي ومؤقت، أي يتم إلغاءه بمجرد ما إن تتحسن الظروف وتعود مقومات التخطيط الاقتصادي.
المرحلة الثالثة ما بعد 2003
اتجه العراق بعد عام 2003 نحو تبني نظام اقتصادي مختلف عما هو سابق، ألا وهو اقتصاد السوق كما أشار الدستور العراقي لعام 2005 في موادّه.
حيث نصت المادة 23 أولاً " الملكية الخاصة مصونةٌ، ويحق للمالك الانتفاع بها واستغلالها والتصرف بها، في حدود القانون"
والمادة 24 " تكفُل الدولة حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال العراقية بين الأقاليم والمحافظات ويُنظم ذلك بقانون"
المادة 25 " تكفُل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أُسسٍ اقتصاديةٍ حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته"
ومع تلك المواد الدستورية التي توضح، بشكل وآخر؛ ملامح التوجه الجديد، التوجه نحو اقتصاد السوق؛ إلا أن الواقع يُشير لتعثر واضح في تطبيق التوجّه الجديد، حيث لازال دور القطاع الخاص ضعيف جداً في الاقتصاد.
إذ لم يساهم القطاع الخاص في ممارسة دور مهم في القطاعات الانتاجية واقتصر دوره على قطاعات هامشية، كالتجارة والخدمات، المُعتمد، بشكل وآخر؛ على الايرادات النفطية عبر قناة الانفاق العام وبالخصوص الانفاق الجاري.
بيد ان الدولة انسحبت من النشاط الاقتصادي ولكن آثارها لازالت ماثلة أمام القطاع الخاص والاقتصاد العراقي، حيث تهيمن الدولة على الأراضي (80%) والنفط (100%) والأموال (90%).
فضلاً عن تعقيد الاجراءات الحكومية التي تُثبط من عزيمة ودور القطاع الخاص في الاقتصاد، ويمكن معرفة مدى تعقد الاجراءات الحكومية في العراق من خلال مؤشر الفساد وسهولة اداء الاعمال، حيث يحتل العراق المرتبة 160 من أصل 179 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي، والمرتبة 172 من أصل 190 دولة في مؤشر سهولة اداء الأعمال العالمي عام 2020.
بمعنى إن دور الدولة في هذه المرحلة دور ضبابي غير معروف، أي لا هو بالدور الحيادي ولا هو بالدور التنموي ولا هو بالدور الانتاجي! لذلك لابُد من رسم دور محدد من الآن للمدة القادة لسير الاقتصاد وفقها بشكل انسيابي دون تعثر.
الدور المطلوب
يُعد واقع الاقتصاد العراقي بعد عام 2003 ولحد الآن، شبيه بما كان عليه قبل عام 1950، حيث لم يكُن الاقتصاد قوياً ولم يكُن دور الدولة واضح المعالم حتى جاء مجلس الاعمار ليرسم معالمه، فلم يكُن حيادياً ولا تدخلياً على نطاق واسع، بل اقتصر على الدور التنموي وحسب.
واقع الاقتصاد العراقي بعد 2003 ولحد الآن، ضعيف بل مستجيب للصدمات الداخلية والخارجية بشكل سريع؛ كما لم يكُن دور الدولة واضح المعالم، حيث انسحبت من النشاط الاقتصادي من جانب وظلت ممسكة بعناصر الانتاج من جانب آخر، إضافة إلى تعقيد بيئة الأعمال كما أتضح في المرحلة الثالثة.
حيث يُعاني في الوقت الحاضر من انهيار البنية التحتية وضعف قطاعاته الاقتصادية وسوء بيئته الاستثمارية وانتشار الفساد في أغلب مفاصل الدولة، فكان اداء الاقتصاد ضعيفاً.
ولأجل إنهاء ضعف الاقتصاد والعمل على تقويته لابُد من العمل على رسم الدور المطلوب للدولة لتبقى المساحة الأخرى للقطاع الخاص ليمارس دوره المطلوب وفق قوى اقتصاد السوق.
هذا الدور يُفترض أن يكون شبيه بالدور التنموي الذي اعتمدته الدولة بعد عام 1950 وذلك بعد تأسيس مجلس الأعمار الذي أخذ على عاتقه انشاء المشاريع التنموية دون الدخول في النشاطات الاقتصادية التي يستطيع القطاع الخاص القيام بيها.
على اعتبار ان واقع الاقتصاد الحالي لا يمكن أن تضطلع به غير الدولة مما يتطلب دوراً استثنائياً لأجل تجهيز القادة الأساسية ليأتي بعدها دور القطاع الخاص في قيادة الاقتصاد.
أي لابُد أن تتجه الدولة إلى جانب الوظائف التقليدية، الأمن والدفاع والعدالة؛ التي لا يُمكن التفريط بها في أي حال من الأحول؛ إلى الدور التنموي المتمثل في توظيف الايرادات النفطية في انشاء المشاريع التنموية كقطاع البنية التحتية، مع عدم نسيان قطاع الرعاية الاجتماعية خصوصاً للفئات الهشة في المجتمع.
ان توفّر البنية التحتية يعني انخفاض تكاليف الإنتاج ومن ثم زيادة الأرباح، وهذا ما يشجّع القطاع الخاص على فتح مشاريعه الاستثمارية خصوصاً في ظل عدم مزاحمة القطاع العام له في النشاطات الإنتاجية.
فالدور المطلوب للدولة في الوقت الحاضر هو الدور التنموي الذي يسهم في إيجاد القاعدة الأساسية لانطلاق القطاع الخاص في الاقتصاد.
خلاصة القول، ان دور دولة في الاقتصاد العراقي مرّ بمراحل مختلفة من التنموي قبل 1958 مروراً الإنتاجي ما بين 1958-2003، وأصبح غير واضح المعالم (ضبابي) ما بعد 2003 والآن الدور المطلوب هو الدور التنموي لانطلاق القطاع الخاص وتقوية اداء الاقتصاد العراقي.
اضف تعليق