الانقسام الجيوسياسي والاقتصادي المتنامي بين القوى العظمى يجب أن يؤدي إلى تحول في نموذج الـفِـكر الاقتصادي. ظل أهل الاقتصاد لفترة طويلة ينظرون إلى الأمن القومي باعتباره مجالا منفصلا للدراسة ولا يؤثر كثيرا على تحليلهم للأسواق ــ ولسبب وجيه: فقد ازدهرت مهنتهم، مثلها كمثل الاقتصاد العالمي، وسط الاستقرار النسبي...
بقلم: رباح أرزقي
أبيدجان ــ لقد دخل الاقتصاد العالمي عصرا جديدا يغلب عليه حِـس الأمن القومي. سلطت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الضوء على الضعف الذي أحدثه الاعتماد المفرط على سلاسل التوريد العالمية وفشل التنسيق في التصدي للمخاطر الصحية العالمية. لكن الحدث الذي أنذر حقا بقدوم هذه الحقبة الجديدة كان غزو روسيا غير المبرر لأوكرانيا وتخريب الاقتصاد العالمي.
إلى جانب الخسائر البشرية والاقتصادية المترتبة عليها، زادت الحرب في أوكرانيا بشكل حاد الانقسامات بين الكتل الجيوسياسية الغربية والشرقية المتمركزة حول الولايات المتحدة والصين على التوالي. استخدمت روسيا صادراتها من الطاقة والمواد الغذائية كسلاح لتقسيم الأوروبيين وسعت إلى تأجيج المشاعر المعادية للغرب في البلدان النامية. وقد اتخذت الصين جانب روسيا وكانت حريصة على تأكيد دعمها لمخاوف الكرملين الأمنية. وتشكل التوترات حول تايوان، الدولة الرائدة في تصنيع أشباه الموصلات على مستوى العالم، نقطة ملتهبة رئيسية أخرى في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين.
ينبغي لنا أن ننظر إلى هذه التطورات على أنها توابع للاستقطاب المتزايد الذي طرأ على الاقتصاد العالمي، والذي تعزز بفعل انعدام التناسق بين النظامين السياسيين اللذين تنتهجهما القوتين العظميين. ليس من قبيل المصادفة أن تنشط مؤخرا العديد من الصراعات المجمدة، وأن تنتهج العديد من القوى المتوسطة الحجم والإقليمية سلوكا أكثر حزما.
على النقيض من الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، تُـعَـد الصين منافسا استراتيجيا واقتصاديا للولايات المتحدة. وتساعد العلاقات التجارية والمالية المتنامية بين الصين والجنوب العالمي في تفسير التحول الذي طرأ على ولاءات العديد من البلدان الفقيرة تجاه أميركا. لكن القرار الذي اتخذته العديد من البلدان النامية في مارس/آذار بالامتناع عن التصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين غزو روسيا لأوكرانيا فاجأ المسؤولين الأميركيين والأوروبيين.
الواقع أن الانقسام الجيوسياسي والاقتصادي المتنامي بين القوى العظمى يجب أن يؤدي إلى تحول في نموذج الـفِـكر الاقتصادي. ظل أهل الاقتصاد لفترة طويلة ينظرون إلى الأمن القومي باعتباره مجالا منفصلا للدراسة ولا يؤثر كثيرا على تحليلهم للأسواق ــ ولسبب وجيه: فقد ازدهرت مهنتهم، مثلها كمثل الاقتصاد العالمي، وسط الاستقرار النسبي خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ساعدت مؤسسات بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية ــ مع اضطلاع الغرب وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة بدور ضمني مساند ــ في دعم توسع الاقتصاد العالمي. منذ عام 1960، ازداد الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو ثمانية أمثال. ونتيجة للارتفاع الهائل الذي سجله الاقتصاد الصيني في العقود الأخيرة، فإن الناتج المحلي الإجمالي في الصين (قياسا على أسعار الصرف في السوق) قد يتجاوز نظيره في الولايات المتحدة بحلول عام 2030.
لكن الاستقطاب الجيوسياسي الغالب اليوم يهدد بتفتيت الاقتصاد العالمي بطرق متعددة. وهناك مؤشرات قوية تدل على أن هذا بدأ يحدث بالفعل. تسبب نهج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب "أميركا أولا"، وتحريضه على حرب الرسوم الجمركية مع الصين، في توجيه ضربة حادة للأسواق الحرة والتجارة الحرة، وحذت إدارة بايدن حذوه. مؤخرا، دَعَـت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إلى "دعم سلاسل التوريد الصديقة" التابعة للحلفاء الموثوق بهم كجزء من استجابة أميركا الاستراتيجية للتحدي الصيني المتنامي. لكن قد يكون من الصعب تحديد من يُـعَـد "صديقا"؛ وقد يؤدي استخدام معايير مثل مدى التزام دولة ما بالديمقراطية إلى تكوين مجموعة صغيرة نوعا ما من الأصدقاء.
بالتوازي مع هذا، أبدى عدد متزايد من البلدان الاهتمام بالانضمام إلى "البريكس"، المجموعة التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، وجنوب أفريقيا. وتروج الصين لنظام حكم عالمي جديد تدعمه منظمات جديدة. كما تتطلع الصين وروسيا إلى تطوير بدائل لنظام الدفع SWIFT. هذا أيضا لن يكون سهلا، خاصة وأن أنظمة الدفع متداخلة مع قضايا مرتبطة بالعملات الاحتياطية. يتمثل اختبار حقيقي للصين هنا في ما إذا كان بوسعها إيجاد بديل لسندات الخزانة الأميركية حيث يمكنها استثمار احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية.
شهد العالم العديد من النوبات التاريخية من الانقسام، بما في ذلك الحروب التجارية، ولكن ربما لم يكن أي منها متغلغلا إلى هذا الحد بين قوتين عظميين على المستويين الاقتصادي والاستراتيجي. يتجلى هذا الاتجاه بوضوح في عمليات الشطب في أسواق البورصة، وقطاعات مثل الرقائق الإلكترونية، وتكنولوجيا الاتصالات، ومبيعات الأراضي الزراعية، والطاقة، والصناعة الدفاعية. وقد يزداد تفتت سلاسل التوريد لكل من السلع والخدمات نتيجة لحواجز غير جمركية مثل المعايير الأمنية، ومعايير الخصوصية والصحة النباتية، أو المشكلات المتعلقة بالتشغيل البيني للمعدات الإلكترونية والرقمية.
الواقع أن المقايضات بين الكفاءة الاقتصادية والأمن القومي هائلة. لا شك أن الانحراف بعيدا عن الأسواق الخاضعة للعولمة سيقلل الكفاءة، ويؤجج التضخم، ويترك مئات الملايين من البشر في حال أسوأ. لهذا، يتعين على أهل الاقتصاد أن يعيدوا النظر في النهج الذي يسلكونه في التعامل مع موضوعات مثل الميزة النسبية، وتكامل السوق، وكيفية تعزيز التقارب.
في هذه البيئة الجديدة حيث أصبح أمن الإمدادات مسألة بالغة الأهمية، يجب أن يحرص تصميم سلاسل القيمة على تقليل مخاطر استخدامها كسلاح. وبينما تحدد الأسواق الحرة التسعير الـفَـعّـال على نحو أفضل من أي آلية أخرى، فمن المرجح أن تعمل أجزاء منفصلة من الاقتصاد العالمي بشكل مستقل مع استقلال التسعير وعمليات الشراء من موردين خارجيين.
لا شك أن التصدي للتفتت الاقتصادي المتزايد والحد من التكاليف المترتبة عليه يتطلب معالجة المصادر الأساسية للانقسام. وعلى هذا فإن بناء الثقة والحد من عدم اليقين بين القوتين العظميين وحلفائهما أمر شديد الأهمية. لكن هذا يتطلب شيئا مختلفا تمام الاختلاف عن الـفِـكر الاقتصادي الجديد.
اضف تعليق