العراق أمام فرصة ذهبية وتاريخية لاستغلال ظروف السوق النفطية المواتية والإسراع بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والتحول نحو تنويع الاقتصادي العراقي من خلال استخدام الوفورات النفطية لتنشيط القطاعات غير النفطية وقطاعات الطاقة المتجددة والتحول نحو اقتصاد صديق للبيئة، والعمل على انشاء صندوق سيادي لمواجهة المخاطر المستقبلية، ووضع الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها...
عصفت بالاقتصاد العالمي خلال السنوات الأربع الماضية تحديات كبيرة وخطيرة انعكست على مجمل أوضاعه ومؤشراته الرئيسة، فما ان هدأت التوترات التجارية بين الولايات المتحدة الامريكية والصين، عاد ليسقط في أسوء أزمة ألمت به منذ أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، عانى من خلالها انكماشاً غير مسبوقاً، وتسبب تدهور الأوضاع الصحية في تدهور الأوضاع الاقتصادية العالمية، لينقلب مسار النمو الاقتصادي وليسجل معدلات سالبة وصلت الى نحو -3.3% في عام 2020 بالمقارنة مع 2.8% في عام 2019 وبذلك فقد معدل النمو نحو 6 نقاط بسبب الجائحة(1).
وفي ظل سياسات الدعم وحزم الإنقاذ والمساندة غير المسبوقة للسياسات المالية والنقدية منذ بداية تفشي الجائحة لتنشيط الاقتصاد ونشر اللقاحات بوتيرة متسارعة، عاد النمو الاقتصادي في عام 2021 ليصل الى نحو 5.5% عالمياً.
وفي بداية عام 2021 صدر تقرير افاق الاقتصاد العالمي global economic prospects، وقد أشار الى إنه وعقب انتعاش قوي في عام 2021 من المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي تباطؤاً حاداً وقوياً في خضم مخاطر جديدة ناجمة عن متحورات كورونا وارتفاع مستويات التضخم والديون والتفاوت في الدخل في سياق استمرار تعطل الانشطة الاقتصادية على المدى القريب، وسيؤثر التباطؤ الملحوظ في الاقتصادات المتقدمة ومنها (الولايات المتحدة والصين) في الطلب الخارجي في اقتصادات الاسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
2022 و2023 توقعات
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
- World bank group, global economic prospect, Washington, January 2022, p5.
الى جانب ذلك، جاءت الحرب الروسية – الأوكرانية لتثبط الآمال بشأن التعافي الاقتصادي وعودته إلى مستويات ما قبل الجائحة، وبخلاف التداعيات الإنسانية المباشرة والفادحة للحرب، فقد أدت الحرب الى إبطاء وتيرة النمو الاقتصادي ورفع معدلات التضخم، وشهد الاقتصاد ارتفاعاً حاداً في مستويات المخاطر عموما، وازدادت صعوبة المفاضلة بين السياسات.
وتسببت الحرب في تفاقم سلسلة صدمات الإمداد التي لحقت بالاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، فعلى غرار الموجات الارتجاجية الناتجة عن الزلازل، انتشرت آثار هذه الصدمات على مدى بعيد ونطاق واسع من خلال أسواق السلع الأولية والتجارة والروابط المالية، فروسيا من كبار موردي النفط والغاز والمعادن، كما تُعد هي وأوكرانيا من كبار موردي القمح والذرة، لذلك فقد أدى التراجع في إمدادات هذه السلع الأولية إلى ارتفاع حاد في أسعارها، ووقع التأثير الأكبر لهذا الارتفاع على مستوردي السلع الأولية في أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، وأن ارتفاع أسعار الغذاء والوقود أضر بالأسر الأقل دخلا على مستوى العالم أجمع(2).
ومقارنة بالتنبؤات الصادرة من صندوق النقد الدولي في شهر يناير، تم تخفيض توقعات النمو العالمي إلى 3.6% لعامي 2022 و2023 وهو ما يعكس التأثير المباشر للحرب على أوكرانيا والعقوبات على روسيا، إذ يُتوقع أن يشهد كلا البلدين انكماشات حادة في معدلات النمو، وفي الاتحاد الأوروبي تم تخفيض توقعات النمو لعام 2022 بمقدار 1.1 نقطة مئوية نتيجة الآثار غير المباشرة للحرب، مما يجعله ثاني أكبر مساهم في تخفيض التوقعات الكلية.
المخطط من عمل الباحث
الاقتصاد العراقي في ضوء تطورات أوضاع الاقتصاد العالمي
لا يخفى على أحد إن الاقتصاد العراقي كان من أشد الدول التي تضررت من جائحة كورونا نتيجة الاعتماد الحاد على أسعار النفط والذي فقد أكثر من 50% من اسعارهُ خلال الجائحة، الامر الذي انعكس على مجمل الأوضاع الاقتصادية في العراق، وشهدت أوضاعه المالية ضيقاً شديداً، مما دفع بالحكومة وفي خضم الجائحة الى اتخاذ جملة من الإجراءات لتصحيح الأوضاع منها خفض قيمة العملة وإصدار الورقة البيضاء.... الخ، الى جانب الإجراءات المتخذة من البنك المركزي للتخفيف من حدة الصدمة.
ودخل الاقتصاد العراقي عام 2021 وقد أقر موازنة كبيرة ومتضخمة جداً (أثارت جدلاً واسعاً وكبيراً) وكانت بنحو 164.2 ترليون دينار وتم تخفيضها في مجلس النواب الى نحو 130 ترليون دينار، وبعجز مخطط بلغ ما يقارب 27 ترليون دينار.
وفي ظل الارتفاع المستمر لأسعار النفط وتحسن آفاق الاقتصاد العالمي بلغ متوسط أسعار النفط العالمية نحو 68.8 دولار للبرميل خلال عام 2021 (سعر برميل النفط المثبت في الموازنة هو 45 دولار) لتصل الإيرادات الكلية الى نحو 110 ترليون دينار منها 96.6 ترليون إيرادات نفطية و12.4 ترليون دينار إيرادات غير نفطية، في حين بلغ العجز الفعلي المتحقق نحو 7.4 ترليون وبفارق وصل الى نحو 20 ترليون مع ما كان مخطط بفعل ارتفاع أسعار النفط وزيادة حجم الإيرادات المالية.
ودخل العراق عام 2022 في ظل انتعاش كبير جداً لأسعار النفط مما وفر للحكومة العراقية حيزاً مالياً مريحاً على الرغم من عدم إقرار الموازنة العامة للبلد والتي يبدو انها سوف لا تُقر لهذا العام أيضاً، مما انعكس وينعكس سلباً على أوضاع الاقتصاد العراقي.
1- الاقتصاد العراقي في تقرير وزير المالية
وفي آخر تقرير لوزير المالية العراقية، أشار الى إن ارتفاع أسعار النفط أدى الى زيادة ودائع وزارة المالية لدى البنك المركزي مما يوفر للحكومة مرونة في حال انخفض سعر النفط.
كما أشار الى إن انخفاض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار أدى الى انخفاض الطلب على الدولار لينعكس على زيادة الاحتياطيات بالعملة الأجنبية لدى البنك المركزي العراقي والتي من المتوقع أن تبلغ مستوى قياسي عند 90 مليار دولار مع نهاية عام 2022.
وأوضح إن من أهم نتائج خفض سعر الدينار هو تراجع الفرق بين سعر الصرف الاسمي وسعر الصرف الموازي، مما أزال هامش الربح لأولئك الذين يستغلون سوق العملة على حساب العراقيين.
من جانب آخر، أشار التقرير الى إن الحكومة حفزت الانتعاش الاقتصادي عبر عمليات ضخ هائلة للسيولة مما ولد حافزاً للاقتصاد غير النفطي ليشهد ارتفاع بنسبة 20% في عام 2021 بالمقارنة مع انخفاض بلغ 8% في عام 2020، ومن المتوقع أن ينمو بنحو 25% في عام 2022.
أما فيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية، فقد أشار الى إن ارتفاع الأسعار في العراق هي أقل بكثير من ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً، كما إن التضخم في البلد هو أقل من التضخم في دول الاقتصادات الناشئة ومجموعة الدول المصدرة للنفط في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
2- الاقتصاد العراقي في عيون صندوق النقد الدولي
قامت بعثة من صندوق النقد الدولي بزيارة إلى عمّان–الأردن في المدة 14-18 أيار/مايو 2022 للتباحث مع السلطات العراقية حول أوضاع الاقتصاد العراقي، وقد اشارت البعثة الى إن الاقتصاد العراقي يتعافى بشكل جيد في ضوء ارتفاع أسعار النفط ومن المتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي هذا العام إلى مستوى ما قبل الجائحة، من المتوقع أن يصل إنتاج النفط إلى المستوى الذي كان عليه قبل الجائحة وأن يحقق نمواً شاملاً في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي يصل إلى 10% في 2022.
وعلى الرغم من تأثيرات الحرب الروسية–الأوكرانية من خلال ارتفاع أسعار السلع العالمية بشكل رئيسي في 2022، إلا إن إيرادات النفط المتصاعدة بشكل كبير هي أكثر من كافية لتعويض الارتفاع في فواتير استيراد الغذاء والطاقة ونتيجة لذلك، يُتوقّع أن تحقق أرصدة حسابات المالية العامة والحساب الجاري وفورات كبيرة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، ومع ذلك، فمن المتوقع أن يرتفع التضخّم العام إلى 6.9 بالمائة مقارنة بـ 6 بالمائة العام الماضي مدفوعاً في جزء منه بارتفاع أسعار الغذاء التي تؤثر سلباً على الفئات الأشدّ فقراً.
وعليه، فإن التخفيف من أثر أسعار الغذاء المرتفعة على الفئات الأكثر عرضة للمخاطر هو الأولوية الأكثر إلحاحاً، وإذ إن سياسة المالية العامة متوقفة بسبب غياب موازنة 2022 مما يحد نفقات المالية العامة بمستوى العام الماضي، فسيكون من الضروري تعزيز كفاءة الإنفاق، ومواصلة الرقابة الوثيقة على التعيينات في القطاع العام، وإعادة ترتيب أولويات النفقات ضمن سقوف الموازنة لتمكين تعزيز التحويلات النقدية المستهدفة إلى الفئات الأكثر عرضة للمخاطر واحتواء أثر الفقر على كلفة المعيشة المتزايدة.
وقد أشار البيان الى ضرورة الحفاظ على انضباط المالية العامة وتقليص دعم البنك المركزي لإقراض القطاع العقاري، والعمل على بناء احتياطيات مالية للمستقبل من خلال ادخار نسبة من الإيرادات النفطية في صندوق ثروة سيادي يتم تصميمه بعناية على المدى القصير، وعلى المدى الطويل يجب أن يتحول تركيز سياسات الاقتصاد الكلي نحو ترسيخ الاستقرار الاقتصادي وتعزيز صمود الاقتصاد العراقي، إذ توفر ظروف سوق النفط المواتية حالياً فرصة للإسراع بالإصلاحات الهيكلية التي الحكومة، ويتطلب الامر تعزيز جودة الخدمات العامة وإنشاء حيز في المالية العامة للاحتياجات الاستثمارية وشبكات الحماية الاجتماعية وإصلاح الخدمة المدنية، والتخفيف من دعم الطاقة غير الكفوء، وتنويع إيرادات المالية العامة، وتعزيز الحوكمة، ومن الضروري إصلاح قطاع الكهرباء لخفض تكاليف المالية العامة وتمكين إنتاجية القطاع الخاص.
ختاماً، فإن العراق أمام فرصة ذهبية وتاريخية لاستغلال ظروف السوق النفطية المواتية والإسراع بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والتحول نحو تنويع الاقتصادي العراقي من خلال استخدام الوفورات النفطية لتنشيط القطاعات غير النفطية وقطاعات الطاقة المتجددة والتحول نحو اقتصاد صديق للبيئة، والعمل على انشاء صندوق سيادي لمواجهة المخاطر المستقبلية، ووضع الخطط والاستراتيجيات وتنفيذها وعدم ركنها على الرف كباقي الخطط التنموية السابقة من اجل بناء اقتصاد واعد وقوي.
اضف تعليق