q
أدى تقاطع الاعتبارات الجيوسياسية وديناميكيات التعافي من الجائحة إلى ارتفاع الطلب وتأخر العرض. لحسن الحظ، تشير أحدث البيانات إلى أن التضخم بلغ ذروته مع إنفاق المستهلكين شيكاتهم التحفيزية. ويجب أن يزداد تراجعا مع قيام الشركات الخاصة بإصلاح سلاسل توريد المنتجات دون انتظار الحكومة. ولكن الآن بعد تكييف السوق...
بقلم: دانيال أربيس

نيويورك ــ مع ارتفاع الأسعار في العديد من الاقتصادات المتقدمة، تنهال الانتقادات الشديدة على البنوك المركزية بسبب "تخلفها عن المنحنى" في التعامل مع التضخم. لكن هذا غير صحيح. فقد قيدت السياسات الحكومية والاعتبارات الجيوسياسية القائمين على البنوك المركزية ومنعتهم من تطبيع سياساتهم النقدية إلى أن أصبح التضخم أمرا واقعا. كما اصطدمت ارتباكات سلاسل التوريد الصينية والروسية بالطلب الاصطناعي الذي أنشأته وزارة الخزانة الأميركية بإرسال أموال مجانية عبر البريد إلى المستهلكين الأميركيين.

الآن، أصبح المجال المتاح لإحكام السياسة النقدية دون تعطيل الاقتصاد (الذي بدأ يترنح بالفعل تحت وطأة الظروف المالية الـمُـحـكَـمة) ضئيلا للغاية. ولكن من المؤكد أن الحيز اللازم للمزيد من إحكام السياسة النقدية كان مفقودا بسبب القرارات التي اتخذها القادة السياسيون. وهم من يجب أن يتحملوا المسؤولية عن علاج هذه المشكلة، مع الأخذ في الاعتبار أن البيئة الاقتصادية في الأمد الأبعد لا تزال تتسم بثلاثة عناصر مؤثرة: الديون المتزايدة، والشيخوخة السكانية، والتكنولوجيات المعطلة المزيحة للعمالة والطلب.

في ظل هذه الظروف، تصبح محاولات إبطاء التضخم المتواصلة أشد خطورة من التضخم الـعَـرَضي. بالنظر إلى أحداث الماضي، يتضح لنا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وبنوك مركزية أخرى، أجبرتها القيادات السياسية على تأجيل تطبيع السياسة النقدية (وهو شرط أساسي للاستجابة بفعالية للأزمة التالية) عندما كان الاقتصاد قويا في عام 2018. وعندما اندلعت الجائحة، تَـمَـلَّـك الذعر من إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب والكونجرس الأميركي، فأصدرا التوجيهات إلى وزارة الخزانة لاقتراض تريليونات الدولارات لتمويل "مدفوعات الأثر الاقتصادي" لتحفيز الطلب الاستهلاكي.

ثم في عام 2021، كررت إدارة جو بايدن الجديدة ذات العملية. اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي سندات الخزانة القصيرة الأجل المصدرة حديثا، وبهذا ارتفعت ميزانيته العمومية إلى أكثر من الضعف على مدار العامين الأخيرين، الأمر الذي أدى إلى زيادة أرصدته من 4 تريليون دولار إلى 9 تريليون دولار (تسع مرات أعلى من المستوى الذي كانت عليه في منتصف عام 2008 والذي كان أقل من تريليون دولار). وكانت العواقب متوقعة. كما زعم رجل الاقتصاد ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل، فإن التضخم "دائما ظاهرة نقدية وفي كل مكان... ولا تنتج هذه الظاهرة إلا عن طريق زيادة كمية النقود بسرعة أكبر من زيادة الناتج". أي أن المزيد من الأموال التي تطارد ذات القدر من الناتج والسلع والخدمات يعني ارتفاع الأسعار. عادة، يستطيع الاحتياطي الفيدرالي أن يرفع أسعار الفائدة، مما يؤدي إلى تهدئة الطلب لفترة كافية للسماح للعرض باللحاق به. لكن هذه المرة، أدى تقاطع الاعتبارات الجيوسياسية وديناميكيات التعافي من الجائحة إلى ارتفاع الطلب وتأخر العرض. لحسن الحظ، تشير أحدث البيانات إلى أن التضخم بلغ ذروته مع إنفاق المستهلكين شيكاتهم التحفيزية. ويجب أن يزداد تراجعا مع قيام الشركات الخاصة بإصلاح سلاسل توريد المنتجات دون انتظار الحكومة. ولكن الآن بعد تكييف السوق أخيرا مع ارتفاع أسعار الفائدة، يتمثل الخطر الأكثر مباشرة في الإفراط في إحكام الأوضاع المالية.

قد يصبح التضخم في طي النسيان قريبا مع سعي البنوك المركزية إلى الإحكام الكمي ــ بيع الحيازات التي جمعتها بعد 15 عاما من شراء السندات. من جانبه، يستهدف الاحتياطي الفيدرالي خفضا بمقدار تريليون دولار (أو 11%) في حيازات الخزانة على مدار العام المقبل.

المشكلة هي أن الاحتياطي الفيدرالي عندما يبيع سندات الخزانة فإنه بذلك يستنزف فعليا السيولة من الأسواق بأسعار تحددها الأسواق الخاصة بصرف النظر عن المعدلات التي تحددها السياسات. وعلى هذا فقد قفزت أسعار الفائدة على سندات الخزانة لعشر سنوات بالفعل من 1.9% إل 2.7% في الشهر الفائت، ولم يبدأ الاحتياطي الفيدرالي إلا بالكاد أولى جولات مبيعات الأصول الثلاث الأكثر تواضعا (47.5 مليار دولار شهريا بين يونيو/حزيران وأغسطس/آب من هذا العام).

في ذات الوقت، قد نشهد وقوع أخطاء كثيرة من المنظور المالي. لنتأمل هنا حقيقة مفادها أن 24 تريليون دولار من الديون السيادية الأميركية هي ديون عامة بمتوسط أجل استحقاق خمس سنوات. وهذا يعني زيادة بنحو نقطتين مئويتين في أسعار الفائدة على مدار السنوات الخمس المقبلة ستضيف ما يقرب من 500 مليار دولار إلى عبء خدمة ديون الحكومة الفيدرالية الحالي الذي يبلغ 352 مليار دولار. وعلى هذا فإن عجز الميزانية الفيدرالية الحالي الذي يبلغ 3 تريليونات دولار سيزداد بنحو 20%، وهذا يعوض وزيادة عن المدخرات من "مدفوعات الأثر الاقتصادي" بعد نهاية جائحة كوفيد-19. من المؤكد أن التكلفة الإضافية لأول تريليون دولار من سندات الخزانة التي يبيعها بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يكون من الوارد إدارتها بنجاح. ولكن يجب أن نضع في الاعتبار العواقب المرتبطة بأسعار الفائدة والميزانية نتيجة لبيع الاحتياطي الفيدرالي 3 تريليونات دولار أخرى للعودة إلى مستويات 2020، ناهيك عن 7 تريليونات دولار أخرى للعودة إلى مستويات 2009.

هذا فضلا عن مزاحمة الإنفاق غير التقديري: فقد تصبح أقساط الفائدة على الدين الفيدرالي أكبر بند منفرد في الإنفاق الوطني ــ وإن كان من المنتظر أيضا أن ترتفع بشكل كبير تكاليف الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والدفاع الوطني في العام المقبل. في غياب زيادات ضريبية لا يمكن التسامح معها سياسيا، من المنتظر أن يسجل العجز المالي وإجمالي الدين في الولايات المتحدة ارتفاعات غير مسبوقة. في ذات الوقت، تضخمت سوق السندات غير المرغوب فيها لتتجاوز 3 تريليونات دولار مستحقة، وهي تنحرف بشدة نحو مُـصدِري السندات الأقل جودة.

مع حلول آجال استحقاق هذه الإصدارات، ينبغي لنا أن نتوقع رؤية عدد كبير من الشركات "الحية الميتة" التي يجب إعادة هيكلتها لأنها عاجزة عن إعادة التمويل بأسعار فائدة أعلى. لكن هذا يفترض حدوث أي إحكام مادي على الإطلاق. يبدو أن الاقتصاد يتجه نحو الركود قبل أن تصل الزيادات في سعر الفائدة الرسمية إلى نقطة مئوية كاملة، وقبل أن يبدأ حتى الإحكام الكمي. الآن، يتعثر نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، ومن الواضح أن وضع تشغيل العمالة أقل وردية مما يبدو. ولا يعبر معدل البطالة الرئيسي المنخفض (3.6%) عن حقيقة مفادها أن 62.2% فقط من الموظفين المؤهلين يبحثون عن وظائف.

ويبدو أن الوظائف المتاحة لا تجد من يريدها. علاوة على ذلك، مع تقدم تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وغير ذلك من البرمجيات، فإنها ستحل على نحو متزايد محل العمال اليدويين غير المهرة والمتخصصين المهرة. وقد تصبح وظائف المصرفيين والتجار والمستثمرين والمحامين في وال ستريت عُـرضة للخطر قريبا. يجب أن يعتبروا أنفسهم محظوظين بالقدر الكافي لأنهم مازالوا في وظائفهم ــ حتى وإن كان ذلك يعني العودة إلى المكاتب. إن الإبحار عبر هذه الرياح المعاكسة والبحار الهائجة يتطلب انكسار العديد من الأمواج برفق. ومن المفيد بكل تأكيد أن يتوقف صناع السياسات عن البحث عن أسرع وأسهل وسيلة للخروج، وأن يعقدوا العزم بدلا من ذلك على العمل بشكل استراتيجي على الأهداف الاقتصادية والسياسية على المستويين الوطني والعالمي.

* دانيال جيه أربيس، هو الرئيس التنفيذي لشركة استثمارات زيريون
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق