تشكل مكافحة الاحتكار مجموعة القوانين الرئيسية التي تحكم المنافسة في السوق في الولايات المتحدة، وكانت موضوعا لهجوم متواصل من قِـبَـل المصالح التجارية والمفكرين المحافظين لأكثر من خمسين عاما. الواقع أن بايدن هو أول رئيس منذ هاري ترومان يتخذ موقفا علنيا قويا مناهضا للاحتكار، وقد دعم موقفه...
بقلم: إريك بوزنر
شيكاغو ــ يُـعَـد الأمر التنفيذي الجديد الذي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن "تعزيز المنافسة في الاقتصاد الأميركي" أكثر أهمية بسبب ما ينبئنا به أكثر مما قد يترتب عليه من آثار. الواقع أن الأمر التنفيذي لا يأمر بأي شيء. بل إنه "يشجع" الهيئات الفيدرالية التي لديها سلطة على المنافسة في السوق على استخدام سلطاتها القانونية الحالية في التصدي لمشكلة الاحتكار والتكتلات الاحتكارية المتنامية في الولايات المتحدة. في بعض الحالات، لا يُـطـلَب من الهيئات ذات الصلة سوى "النظر في" تكثيف جهود الإنفاذ؛ وفي حالات أخرى، جرى توجيهها إلى إصدار الضوابط التنظيمية، لكن محتوى هذه الضوابط يظل متروكا لها إلى حد كبير.
مع ذلك، سيكون من الخطأ استبعاد اللغة التجريبية التي استخدمها الأمر التنفيذي باعتبارها مجرد لغة خطابية. تشكل مكافحة الاحتكار مجموعة القوانين الرئيسية التي تحكم المنافسة في السوق في الولايات المتحدة، وكانت موضوعا لهجوم متواصل من قِـبَـل المصالح التجارية والمفكرين المحافظين لأكثر من خمسين عاما. الواقع أن بايدن هو أول رئيس منذ هاري ترومان يتخذ موقفا علنيا قويا مناهضا للاحتكار، وقد دعم موقفه هذا بتعيين دعاة متحمسين مناهضين للاحتكار في حكومته.
الأمر التنفيذي طموح في نطاقه وأسلوبه. في مقاطع قوية اللهجة، يتهم الشركات بممارسات احتكارية وغير عادلة في الصناعات الكبرى، بما في ذلك التكنولوجيا، والزراعة، والرعاية الصحية، والاتصالات. ويعبر عن الأسف إزاء تراجع إنفاذ الحكومة لضوابط مكافحة الاحتكار، ويحدد العديد من الأضرار الناجمة عن ذلك ــ بما في ذلك الركود الاقتصادي واتساع فجوات التفاوت بين الناس.
يؤسس الأمر التنفيذي أيضا لمنظمة بيروقراطية جديدة في البيت الأبيض لقيادة جهود مكافحة الاحتكار. ومن خلال المطالبة بنهج "يشمل الحكومة بالكامل"، يستدعي الأمر الموارد الهائلة التي تتمتع بها العديد من الهيئات الفيدرالية، وليس فقط الاثنتين اللتين تشرفان تقليديا على مكافحة الاحتكار (وزارة العدل ولجنة التجارة الفيدرالية).
مع ذلك، تظل أجندة إدارة بايدن في مكافحة الاحتكار تواجه عقبات قضائية كبيرة. على مدار السنوات الأربعين الأخيرة، قامت المحكمة العليا المتزايدة المحاباة للأعمال بإفراغ قانون مكافحة الاحتكار من مضمونه. وفي قرار بعد قرار، أضعفت المعايير المستخدمة لتقييم السلوك المناهض للمنافسة؛ وزادت من الأعباء المصاحبة لإقامة دعوى مكافحة الاحتكار؛ وجعلت أنواع ضحايا الاحتكار المسموح لهم بإقامة الدعاوى محدودة؛ وسمحت للشركات باستخدام بنود التحكيم لحماية ذاتها من الدعاوى القضائية الجماعية؛ وغير ذلك الكثير.
فضلا عن كل هذا، نشرت المحكمة العليا في مختلف أنحاء السلطة القضائية الشك في دعاوى مكافحة الاحتكار. واستوعب القضاة على كل المستويات الشكوك الأكاديمية حول قانون مكافحة الاحتكار الذي فات أوانه منذ ثلاثين عاما. وعلى هذا، يُـنظَـر إلى المدعين التجاريين عادة على أنهم خاسرون حاقدون لاذوا بالقانون لأنهم تلقوا ضربات موجعة في السوق. وتُـعزى قضايا المستهلكين إلى مكائد محامي المحاكمات. وتُـبـتَـلَـع الذرائع التي تقدمها الشركات لممارساتها المناهضة للمنافسة كاملة.
على هذا، فبرغم أن بايدن كان محقا عندما قال إن "تقاعس الحكومة الفيدرالية" هو المسؤول جزئيا عن تراجع إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، فلن تتمكن إدارته (أو أي إدارة) من القيام بالكثير في هذا الصدد ما لم تكن المحاكم في صفها. ولعل هذا يفسر لغة الأمر التنفيذي الحذرة. من المؤكد أن هيئات مثل وزارة العدل ولجنة التجارة الفيدرالية ترغب في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار بقدر أكبر من القوة مقارنة بالماضي، لكنها لن تخصص الموارد لإقامة دعاوى قضائية مصيرها الفشل في المحكمة.
مع ذلك، تظل أسباب التفاؤل قائمة في الأمد القريب، لأن الأمر التنفيذي فتح آفاقا جديدة بما يقوله عن العمل. للمرة الأولى على الإطلاق، يعلن رئيس أميركي أن قانون مكافحة الاحتكار يجب أن يطبق ضد أرباب العمل.
على عكس قطاعات التكنولوجيا، والزراعة، والرعاية الصحية، لم تحظ أسواق العمل بأي اهتمام من جانب الحكومة الفيدرالية حتى قبل بضع سنوات فقط، ولم تتخذ سوى خطوات ضئيلة منذ ذلك الحين. ولكن كما يقر أمر بايدن التنفيذي، "أدت عمليات الاندماج إلى زيادة قوة أرباب العمل في الشركات، مما يجعل من الصعب على العمال المساومة للحصول على أجور أعلى وظروف عمل أفضل".
يعكس هذا التركيز الجديد تأثير أبحاث اقتصادية حديثة تُـظـهِـر أن عددا لا يحصى من أسواق العمل أصبحت خاضعة لهيمنة حفنة من أرباب الأعمال. يرجع هذا التركيز جزئيا إلى عمليات الاندماج وجزئيا إلى النمو الطبيعي للشركات الضخمة، والذي يضع المصانع والمستودعات عادة في مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة حيث المنافسة قليلة للعمال. في ظل هذه الظروف، تكون اليد العليا لأصحاب الأعمال، مما يؤدي ليس فقط إلى انخفاض دخل العمال بل وأيضا تضاؤل النشاط الاقتصادي والناتج، وارتفاع الأسعار، واتساع فجوات التفاوت بين الناس.
كما أبرم أصحاب العمل اتفاقيات مناهضة للمنافسة بين بعضهم بعضا لتثبيت الأجور أو الامتناع عن اصطياد الموظفين من بعضهم بعضا. في عام 2010، تلقت شركات مثل آبل وجوجل، وغيرهما من شركات التكنولوجيا الكبرى، صفعة خفيفة على المعصم عندما اكـتُـشِـفَ أنها اتفقت على الامتناع عن تعيين مهندسي البرمجيات من الشركات الأخرى. لكن سلسلة من القضايا الأقرب إلى الزمن الحاضر، بما في ذلك العديد من الاتهامات الجنائية ضد أرباب العمل، تشير إلى أن قضية 2010 لم تكن شاذة.
هناك أيضا بحث جديد منهم يُـظـهِـر أن بنود عدم المنافسة التي تمنع العمال من الحصول على وظيفة مع منافسي أصحاب أعمالهم أصبحت منتشرة في كل مكان. ويذكر أمر بايدن التنفيذي بحق هذه البنود، التي تمنع العمال من التهديد بمصداقية بالاستقالة عند المساومة للحصول على أجور أعلى. ورغم أن هذه الترتيبات يفترض أن تحمي الأسرار التجارية، فإن هذا التبرير يفتقر إلى المصداقية، لأن هذه الترتيبات تشمل أيضا العمال غير المهرة الذين لا يمكنهم الوصول إلى مثل هذه المعلومات. علاوة على ذلك، تُـعَـد كاليفورنيا واحدة من الولايات الأميركية القليلة التي تعتبر فقرات منع المنافسة غير قانونية، وهي لا تفتقر إلى الإبداع.
وَصَـفَ آدم سميث التواطؤ في سوق العمل بأنه "الحالة الطبيعية لأمور لا يسمع بها أحد أبدا". لحسن الحظ، أقرت المحاكم الأميركية بأن قانون مكافحة الاحتكار ينطبق على ممارسات التوظيف، وعلى هذا فإن الحكومة الفيدرالية لديها حيز كبير للمشاركة المعززة في مهاجمة انتهاكات سوق العمل. الواقع أن الاستجابة الفيدرالية القوية من الممكن أن تحقق تقدما حقيقيا في مساعدة العمال. وهنا قد يكون لمساهمة بايدن في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار أعظم الأثر.
اضف تعليق