ماذا يحمل المستقبل للاقتصاد العالمي؟ الإجابة الأكثر ترجيحا، في ظل الظروف الراهنة، هي للأسف الشديد انخفاض النمو، واتساع فجوة التفاوت، وتشوه الأسواق، وارتفاع المخاطر المالية. لكن هذه النتيجة ليست قدرا محتوما. فمن خلال إدخال تغييرات على نموذج السياسات في الوقت المناسب، يصبح بوسع صناع السياسات...
بقلم: محمد العريان
لاجونا بيتش ــ تُـرى ماذا يحمل المستقبل للاقتصاد العالمي؟ الإجابة الأكثر ترجيحا، في ظل الظروف الراهنة، هي للأسف الشديد انخفاض النمو، واتساع فجوة التفاوت، وتشوه الأسواق، وارتفاع المخاطر المالية. لكن هذه النتيجة ليست قدرا محتوما. فمن خلال إدخال تغييرات على نموذج السياسات في الوقت المناسب، يصبح بوسع صناع السياسات أن يرسوا الأساس لاقتصاد أكثر ديناميكية وشمولا وقدرة على الصمود.
كان الضرر الاقتصادي الذي أحدثته أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في الربع الثاني من عام 2020 أسوأ حتى مما كان متوقعا: فقد سجل النشاط الاقتصادي انخفاضا شديدا، واتسعت فجوة التفاوت، وازدادت الأسواق المالية المرتفعة انفصالا عن الواقع الاقتصادي. وفي انتظار لقاح لم يجر تطويره بعد، يظل مسار الخروج من الجائحة ــ والأزمة الاقتصادية المرتبطة بها ــ غير مؤكد إلى حد بعيد.
الآن، تحذر المؤسسات الاقتصادية الدولية الرائدة في العالم ــ صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والبنك الدولي ــ من أن الاقتصاد العالمي قد يستغرق عامين على الأقل قبل أن يستعيد ما خسره بسبب جائحة كوفيد-19. وإذا واجهت الاقتصادات الرئيسية موجات إضافية من العدوى، فقد يستغرق التعافي فترة أطول.
الواقع أن السياسات الجيدة التوقيت والتصميم الداعمة للنمو من الممكن أن تعمل على تسريع هذا الجدول الزمني، في حين تجعل التعافي أوسع نطاقا وأكثر استدامة. وهذا لا يعني المزيد من الغوث في الأمد القريب وحسب، بل يعني أيضا قدرا أكبر من التركيز على التدابير التي تتطلع إلى المستقبل والتي تستهدف تعزيز الإنتاجية، والحد من انعدام الأمان الاقتصادي بين الأسر، وتحقيق انسجام أفضل بين دوافع النمو المحلية والدولية، والتصدي للانفصال المتزايد الخطورة بين النظام المالي والاقتصاد الحقيقي.
هنا، تستطيع الولايات المتحدة، باعتبارها الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، أن تضطلع بدور قيادي مهم. فبصفتها الجهة الموردة للعملة الاحتياطية العالمية الرئيسية، تلعب الولايات المتحدة دورا رئيسيا في تعبئة وتخصيص الأموال القابلة للاستثمار في العالم، وخاصة في وقت حيث يتدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بقوة في الأسواق المالية العالمية. وباعتبارها لاعبا مهيمنا في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومجموعة الدول السبع، ومجموعة العشرين، تستطيع الولايات المتحدة أن تدفع ــ أو تقوض ــ عملية تنسيق السياسات العالمية.
على الرغم من أن صانعي السياسات في الولايات المتحدة على استعداد تام في عموم الأمر لملاحقة السياسات المعززة للنمو، فإن قدرتهم على القيام بذلك أصبحت مقيدة على نحو متزايد بسبب السياسات المحلية غير المستقرة وغير المتوقعة. صحيح أن حزمة الإغاثة في مواجهة أزمة كوفيد-19، والتي بلغت قيمتها 3 تريليون دولار أميركي، كانت استعراضا مبهرا للتعاون بين الحزبين. لكن مع ارتفاع أعداد الإصابات بعدوى كوفيد-19 وظهور التوترات الاجتماعية ــ التي تجسدت في احتجاجات واسعة النطاق ضد الظلم العنصري وعنف الشرطة ــ عاد المشرعون الأميركيون كل إلى زاويته. ونتيجة لهذا، يبدو أن التقدم على مسار إرساء أسس النمو الطويل الأجل ــ بما في ذلك في المناطق والمجالات التي يبدو أنها تحظى بالاتفاق بين الحزبين، مثل البينة الأساسية، وإعادة تدريب وتجهيز العمال (وإن كان بدرجة أقل) ــ بات احتمالا أبعد.
بوسعنا أن نرى انفصالا مماثلا بين الإرادة والقدرة في استجابة السياسة النقدية في أميركا. فبنك الاحتياطي الفيدرالي على استعداد للقيام بكل ما في وسعه للحد من الأضرار الدورية والبنيوية التي قد تلحق بسوق العمل، والتي تشمل أكثر من 46 مليون شخص تقدموا بطلبات للحصول على إعانات البطالة. لكنه يفتقر إلى الأدوات الفعّـالة والدعم من قِـبَـل صانعي السياسات المالية، المجهزين بشكل أفضل لتعزيز النمو الدائم.
في وجود عدد قليل من خيارات تعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي، شعر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بأنه ملزم باتخاذ خطوات لم يكن من الممكن التفكير فيها سابقا والتي تعمل بشكل متزايد على تشويه عمل الأسواق المالية، مما يؤدي إلى تفاقم اتساع فجوة التفاوت في الثروة وتشجيع الإفراط في خوض المجازفة من قِـبَـل كل من المدينين والمستثمرين. وبدلا من كونه جزءا من الحل، يجازف الاحتياطي الفيدرالي الآن بخلق المزيد من المشاكل، بما في ذلك سوء تخصيص الموارد، وتكديس الديون، وعدم الاستقرار المالي ــ وكل هذا من شأنه أن يعمل على تقويض النمو.
لا يخلو الأمر أيضا من انعدام التوازن بين النوايا والنتائج في العلاقات الاقتصادية الدولية. ففي سعيها إلى جعل النظام التجاري العالمي أكثر عدالة، لاحقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب سياسات ثنائية تسببت في تقويض التدفقات التجارية. والآن أصبحت الولايات المتحدة أكثر الاقتصادات المتقدمة انتهاجا لسياسات الحماية.
في عموم الأمر، في اللحظة حيث تتطلب الأزمات المالية المتكاثرة التنسيق الوثيق لاستجابات السياسات على المستويين الفردي والجمعي، كانت إدارة ترمب حريصة على تحاشي التعددية. ومن منظور بعض البلدان في آسيا بشكل خاص أصبح من غير الممكن على نحو متزايد التنبؤ بسياسة الإدارة الأميركية، إلى الحد الذي أثار الشكوك حول متانة وموثوقية النظام العالمي الذي يعتمد في صميمه على الولايات المتحدة. على سبيل المثال، عملت الصين على التعجيل بجهودها الرامية إلى تعميق الروابط الثنائية والإقليمية حتى يتسنى لها تجاوز الولايات المتحدة، ولكن على حساب تفتيت النظام الدولي.
ينقسم صناع السياسات في الولايات المتحدة حول العديد من القضايا، ولكن من المؤكد أنهم يمكنهم الاتفاق على الرغبة في تحقيق نمو أسرع وأكثر شمولا وديمومة. وتتمثل الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الغاية على نحو مستدام في إقران تدابير الإغاثة القصيرة الأجل بسياسات مالية وإصلاحات بنيوية متطلعة إلى المستقبل وداعمة للنمو (والعمل). وإلا فإن المشاكل التي يمكن التصدي لها في الأمد القريب، مثل البطالة المرتفعة، من الممكن أن تتحول إلى مشاكل أعمق جذورا وتصبح معالجتها أشد صعوبة.
من جانبه، يتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتوخى قدرا أكبر من الحذر في الكيفية التي يتدخل بها في الأسواق. فمن خلال توسعه المستمر في كل من نطاق ومدى برامج شراء الأصول، يجرد الاحتياطي الفيدرالي الأسواق من قدرتها على تسعير وتخصيص الموارد على النحو اللائق. وإذا لم يكن حذرا، فقد تنتهي به الحال إلى سحب البساط من دون قصد من تحت أقدام النظام الأميركي القوي القائم على السوق، ودعم الشركات الحية الميتة التي تتسبب في إضعاف الإنتاجية، والمزيد من تقليل احتمالات تمكن النمو الاقتصادي الحقيقي في النهاية من إقرار أسعار الأصول المرتفعة.
أخيرا، ينبغي لصانعي السياسات في الولايات المتحدة أن يعملوا معا لاستعادة زعامة بلدهم للاقتصاد العالمي، من خلال إعادة تنشيط مناقشات السياسة المتعددة الأطراف وتحسين أداء النظام العالمي القائم على القواعد. لتحقيق هذه الغاية، ينبغي للولايات المتحدة أن تعمل على إحياء الجهود المتعثرة لإصلاح إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بما في ذلك من خلال جعل التمثيل متماشيا مع الحقائق الاقتصادية الغالبة اليوم والعمل على زيادة موارد الصندوق.
كما ينبغي للدول الأخرى أن تمتنع عن التقليل من أهمية مثل هذه التغيرات لإدائها الاقتصادي. ذلك أن أي اقتصاد، مهما بلغ حجمه، من المرجح أن يتأثر بنمو الاقتصاد الأميركي، والاستقرار المالي الدولي، والتأثيرات الجانبية المترتبة على السياسة النقدية. في ظل أزمة كوفيد-19، أصبح تطور نموذج السياسة الاقتصادية العالمية ضرورة ملحة. ويتمثل التحدي الذي يواجه البلدان الأخرى الآن في الحد من "مخاطر التنفيذ" التي تواجه أميركا، من خلال بذل كل ما في وسعها لضمان شحذ دوافع النمو الذاتية التعزيز وإقامة نظام دولي أكثر عدالة.
اضف تعليق