معروف إن المجتمع العراقي نشأ وترعرع في ظل سيادة نظام الحزب الواحد، سياسياً، ونظام التخطيط، اقتصاديا، مما نجم عنه تعثر التحول نحو الديمقراطية والسوق عند تطبيقهما بشكل مباشر، فأصبحت مسألة تكييفهما مسألة في غاية الضرورة. العبودية السياسية والاتكالية الاقتصادية، لا ينسجمان، مع جوهر اقتصاد السوق...
معروف إن المجتمع العراقي نشأ وترعرع في ظل سيادة نظام الحزب الواحد، سياسياً، ونظام التخطيط، اقتصاديا، مما نجم عنه تعثر التحول نحو الديمقراطية والسوق عند تطبيقهما بشكل مباشر، فأصبحت مسألة تكييفهما مسألة في غاية الضرورة.
العبودية السياسية
حيث نشأ المجتمع العراقي وترعرع في ظل نظام الحزب الواحد، الذي أحكم قبضته الحديدية لما طويلة من الزمن، القاضي بتكميم الأفواه وعدم الاعتراض وإبداء الرأي وما على المجتمع إلا الطاعة والانصياع لرغبته، فنشأت ثقافة العبودية للحاكم السياسي، هذا من جانب.
الاتكالية الاقتصادية
وترعرعه أيضاً في ظل نظام التخطيط القاضي بقيام الدولة بإدارة الاقتصاد كلياً، أي كل العمليات الاقتصادية من ملكية وإنتاج وتوزيع وغيرها، مما يعني غياب الاستقلال الاقتصادي وفقدان بناء المسؤولية الفردية لدى أفراد المجتمع، ونشوء ثقافة الاتكالية على الدولة من جانب آخر.
كلا الأمرين، العبودية السياسية والاتكالية الاقتصادية، لا ينسجمان، مع جوهر اقتصاد السوق الذي يقوم على الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة والمنافسة بين المنتجين لضمان خفض الأسعار ورفع جودة المنتجات وزيادة رفاهية المستهلك.
مؤشرات تعثر التحول الاقتصادي
وبعيداً عن الجانب السياسي ومؤشرات تعثره، كونه متروك لأصحاب الاختصاص، فالمؤشرات التي توضح تعثر التحول نحو اقتصاد السوق في العراق كثيرة ويمكن الإشارة لأبرزها في الاتي:
اولاً: الحرية الاقتصادية، حيث لم تتوفر الحرية الاقتصادية لممارسة النشاط الاقتصادي من قبل القطاع الخاص بشكل سلس، وذلك لانحرف دور الدولة في الاقتصاد العراقي عن الدور المطلوب في ظل تبني اقتصاد السوق بالتزامن مع ظهور الأحداث الطارئة-كالحروب والطائفية والإرهاب والتأثر بالأزمات الدولية-نتيجة لضعف كفاءة النظام السياسي.
ففي الوقت الذي ينبغي إن تنسحب الدولة من النشاط الاقتصادي وبنفس الوقت تعمل على تذليل العقبات التي تقف كعائق أمام القطاع الخاص من ممارسة نشاطه الاقتصادي، أصبحت هي العائق الرئيس في طريقه وذلك لضعف النظام السياسي ورؤيته تجاه الاقتصاد من جانب وتصلب النظام الإداري من جانب آخر.
ثانياً: الملكية الخاصة، حيث لا تزال الدولة تهيمن على نسبة كبيرة من عناصر الإنتاج وبالخصوص الأرض ورأس المال، إذ تمتلك الدولة أكثر من 80% من الأراضي والمتبقي منها هو20% والمملوك من قبل الأهالي يتكون في جزئه الأعظم من الأراضي السكنية[1]، كما وتملك الدولة ما يُقارب 60% من إجمالي تكوين راس المال الثابت فيما يملك القطاع الخاص 40% منه[2].
كما وتهيمن على النفط الذي يُعد شريان الاقتصاد العراقي، بحكم ارتفاع مساهمته في اغلب المؤشرات الاقتصادية وبالخصوص الناتج المحلي الإجمالي 64% عام 2017، وما يُقارب 90% من الإيرادات المالية للدولة، وأكثر من 99% من الصادرات السلعية، كما وتحتل أهمية كبيرة في الجهاز المصرفي وبالخصوص مصرف الرافدين والرشيد.
ثالثاً: المنافسة الاقتصادية، ترتبط هذه النقطة بالنقطتين السابقتين، إذ إن هيمنة الدولة على الأرض وراس المال من جانب وضعف الحرية الاقتصادية بفعل غياب الرؤية الاقتصادية ذات العلاقة باقتصاد السوق وتصلب النظام الإداري من جانب آخر، كلا الجانبين أسهما في غياب تكافؤ الفرص بين المنتجين في استثمار الفرص المتاحة في البلد والنتيجة غياب المنافسة الاقتصادية.
رابعاً: انخفاض الأسعار، من مميزات تطبيق اقتصاد السوق هو انخفاض الأسعار بفعل المنافسة بين المنتجين، وبالفعل لم يرتفع التضخم في العراق بل شهد انخفاضاً حتى شكل 4% عام 2018 لكن هذا الانخفاض لم يكن انخفاض حقيقي بفعل المنافسة بين المنتجين بل كان بفعل الدعم المتمثل في تدخل البنك المركزي ببيع الدولار وشراء الدينار عبر نافذة العملة.
إذ معلوم إن الجهاز الإنتاجي العراقي يتسم بالتصلب ولم يُغطي الطلب المحلي بل هناك نقص حاد في الإنتاج المحلي فلو لم يتدخل البنك المركزي من خلال بيع الدولار وشراء الدينار لارتفع التضخم إلى نسب عالية جداً، وعليه يمكن القول، إن انخفاض الأسعار في العراق هو انخفاض مدعوم وليس انخفاض حقيقي، وسترتفع الأسعار بمجرد تقليص الدعم فضلاً عن توقفه.
خامسا: جودة المنتجات، في ظل تطبيق اقتصاد السوق بشكل سليم سيفرز منتجات ذات جودة عالية، لان المنافسة تجعل أسعار السلع المتجانسة سعراً واحداً، ومن أجل زيادة مبيعات هذه السلع يضطر المنتجون إلى تحسين جودة منتجاتهم، فيحصل المستهلك على سلع ذات جودة عالية وبأسعار منخفضة، وهذا ما لا يمكن حصوله في ظل تبني نظام التخطيط كونه لا يهتم بجودة المنتجات بقدر اهتمامه بتحديد الأجور والأسعار فتكون المنتجات أقل جودة.
وهذا ما لم يحصل في العراق بحكم ضعف عمل الاقتصاد وهشاشته وحتى المنتجات المستوردة من الخارج هي منتجات ذات جودة رديئة وذلك لإهمال الدولة لموضوع حماية المستهلك من جانب وانخفاض وعي الأخير بحماية نفسه سعراً وجودةً، لا بل يعتقد إن السلعة الأفضل جودة هي التي يرتفع سعرها! وهذا ما لا ينسجم مع اقتصاد السوق القاضي بانخفاض أسعار المنتجات مع ارتفاع جودتها بحكم المنافسة.
المؤشرات أعلاه، توضح إن التحول الاقتصادي في العراق تعثر بشكل جليّ ولم يعمل الاقتصاد بشكل سليم وفق مبادئ اقتصاد السوق الذي ساد أغلب دول العالم في الوقت الحاضر، بل توقف عن العمل وذلك بسبب التطبيق المفاجئ بالتزامن مع الديمقراطية.
عوامل تكييف اقتصاد السوق في العراق
ومن أجل إعادة تشغيل اقتصاد السوق في العراق والوصول للأهداف المرجوة منه، لا بُد في بداية الأمر العمل على تكييفه في المجتمع العراقي حتى يستطيع أن يستقبله ويتفاعل معه، وهذا التكييف يأتي من خلال الآتي:
أولاً: تحسين بيئة الأعمال، إذ يعاني العراق من سوء بيئة الأعمال ويحتل المرتبة 165 من أصل 190 دولة في مؤشر سهولة أداء الأعمال الصادر عن البنك الدولي، فتحسين بيئة الأعمال تسهم في جذب الاستثمار وتوطينه في الاقتصاد الوطني.
ثانيا: تدريب العاملين، إن العمل على تطوير مهارات العاملين يعني ارتفاع انتاجيتهم أو على أقل تقدير تلافي تكاليف التدريب والتطوير التي ينبغي أن يدفعها المستثمر، وهذا ما ينعكس إيجابياً على أرباح المستثمر، فيدخل الأخير السوق وينشط الاقتصاد.
ثالثاً: تطوير التعليم، في الوقت الذي أعلن العراق التحول نحو اقتصاد السوق ظل التعليم في حقبة الأنظمة السابقة وظل متخلفاً لم يسير بشكل متوازٍ مع هذا التحول، فالعمل على تطوير التعليم هو بداية تكييف اقتصاد السوق لان التعليم هو مصنع له مدخلاته ومخرجاته، فتحسين أداء المصنع، التعليم، يعني تحسن مخرجات التعليم بشكل الذي ينسجم ويتفاعل مع مبادئ اقتصاد السوق.
رابعاً: الإعلام الاقتصادي، هذا الجانب مهم جداً، كونه يسهم في إتاحة المعلومات ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي للجميع، فعلى مستوى الفرص الاستثمارية يجعل جميع المستثمرين على دراية بهذه الفرص ويتنافسون عليها وفق مبدأ تكافؤ الفرص دون تفضيل مستثمر على آخر، وكذلك على مستوى المستهلك يجعله على علم ودراية بأسعار السلع ونوعيتها وهذا ما يجعله أكثر حماية، وكلا الامرين يبعثان الاطمئنان لدى المستثمر والمستهلك، وهذا ما يسهم في تطوير اقتصاد السوق.
خامساً: إشراك القطاع الخاص، بدايةً لا يستطيع القطاع الخاص أن يكسر قيد التخوف ويخوض مغامرة الاستثمار، ولذا نحتاج أول الأمر تكييفه من خلال قيام الدولة بإشراك القطاع الخاص حتى يتشجع ويشتد عوده فيتكيف تدريجياً مع بيئة اقتصاد السوق الجديدة ثم تنسحب الدولة بشكل تدريجي ليكون هو محرك الاقتصاد الرئيس.
خلاصة القول، إن اقتصاد السوق في العراق لا يمكن إعادة تشغيله دون العمل على تكييفه في بداية الأمر من خلال تحسين بيئة الأعمال وتدريب العاملين وتطوير التعليم وتفعيل الإعلام الاقتصادي لكل العمليات السابقة وإشراك القطاع الخاص مقابل الانسحاب التدريجي للدولة مع استمرار دور الإشراف لضمان عدم انحراف اقتصاد السوق عن الدول المطلوب.
اضف تعليق