تعاني اسواق النفط الخام من التذبذب المستمر بالأسعار بسبب حساسية قوى العرض والطلب الى مختلف المحددات السياسية والاقتصادية والطبيعية. ويشير التطور التاريخي لاتجاهات الاسعار الى تأثير العامل السياسي بشكل كبير على تحركات الاسعار خلال عقد السبعينات من القرن المضي حين تضاعفت الاسعار لمعدلات مرتفعة بسبب...
تعاني اسواق النفط الخام من التذبذب المستمر بالأسعار بسبب حساسية قوى العرض والطلب الى مختلف المحددات السياسية والاقتصادية والطبيعية. ويشير التطور التاريخي لاتجاهات الاسعار الى تأثير العامل السياسي بشكل كبير على تحركات الاسعار خلال عقد السبعينات من القرن المضي حين تضاعفت الاسعار لمعدلات مرتفعة بسبب استخدام النفط كسلاح لتطويع المواقف الدولية.
في حين شهدت نهايات القرن العشرين ضعفا في الاسعار ناجم عن الانكماش الاقتصادي في عدد من الدول والازمات المالية التي ضربت الدول الاسيوية وغيرها من الاسباب الاقتصادية التي اضعفت الطلب على الطاقة وضغطت على الاسعار السوقية للنفط الخام. في العقد الاول من القرن الواحد والعشرين شهدت الاسواق ارتفاع قياسي (147 دولار للبرميل) لم يدم طويلا بسبب ضغوط متنوعة اهمها المساعي الدولية الحثيثة لإنتاج بدائل اقتصادية للوقود الاحفوري والحفاظ على البيئة والازمة المالية العالمية وما تلاها من ركود في عدد من الدول الصناعية الكبرى. اما العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فقد شهدت اسواق الطاقة ارتفاعا ملموسا في الاسعار حين تجاوز خام برنت عتبة 100 دولار للبرميل نتيجة زخم الطلب العالمي على النفط، خصوصا مع تحقيق الصين والهند وعدد من الاقتصادات الناهضة نموا اقتصاديا قويا ضاعف استهلاكها للطاقة.
مع ذلك، لم يستمر انتعاش اسعار النفط طويلا نظرا لما سببه من نمو غير مسبوق للنفوط غير التقليدية كالنفط الصخري وارتفاع معدلات انتاجه لما يفوق 10 مليون برميل يوميا. مما ادخل اسواق النفط في تخمة غير مسبوقة ادت الى حرب سعرية بين كبار منتجي النفط حفاظا على الحصص السوقية المكتسبة ولتامين الحد الادنى من الايرادات النفطية اللازمة لتمويل الاقتصاد والانفاق العام في الدول النفطية. وقد استمرت اسعار النفط بالهبوط منذ منتصف حزيران عام 2014 وسط حرب سعرية امتدت الى داخل منظمة اوبك دفعت عدد منها الى اغراق السوق بالنفط الرخيص. وقد بررت الدول النفطية الكبرى (كالسعودية) اغراق الاسواق آنذاك بسعيها لإخراج منتجي النفط الصخري من الاسواق الا ان ذلك لم يتحقق تماما بسبب تكيف العديد من شركات النفط الصخري مع الاسعار المنخفضة للنفط واستمراها بتطوير تكنولوجيا حديثة لخفض معدلات التكاليف ورفع الجدوى الاقتصادية لاستخراج النفط الصخري.
وقد ألزمت الضغوط المالية التي تعرضت لها روسيا ودول اوبك الفرقاء على ابرام اتفاق يعيد تشكيل خارطة الانتاج والتصدير النفطي لضبط المعروض والتخلص من التخمة المزمنة في الاسواق. وفي عام 2017 تغلبت الدبلوماسية النفطية والمصالح المالية للدول النفطية على كافة الظروف والاعتبارات القائمة عبر التوصل الى اتفاق (اوبك +) الذي ضم بلدان اوبك وروسيا وعدد من الدول النفطية من اجل خفض صادرات هذه الدول بما يقارب 2 مليون برميل يوميا حتى منتصف العام، بعد ذلك جرى تمديد الاتفاق لغاية العام 2018 حفاظا على معدلات الاسعار التي تأرجحت حينها حول معدل 50 دولار للبرميل.
الانهيار الاخير للأسعار
بعد التعافي الذي شهدته الاسعار حتى اواخر العام 2019، تراجعت أسعار النفط في شهر اذار من العام 2020 لأدنى مستوى لها منذ العام 2016 بعد أن خفضت السعودية السعر الرسمي لبيع نفطها الخام، اشارة لحرب أسعار عقب إخفاق محادثات أوبك مع روسيا في التوصل لاتفاق بشأن خفض الانتاج. وجاءت هذه الخطوة كرد لرفض روسيا اقتراح أوبك إجراء تخفيضات كبيرة في الإنتاج من أجل استقرار الأسعار التي تضررت من التبعات الاقتصادية لفيروس كورونا.
ونتيجة لذلك فقد النفط أكثر من نصف قيمته السعرية بعد انهيار تحالف (أوبك+)، وهو ما كلف الدول الأعضاء في أوبك كثيرا بسبب انحسار الإيرادات النفطية. وقد هوت أسعار النفط عام 2020 لمعدلات خطيرة حين سجل برنت أدنى مستوياته في 21 عام (دون 16 دولارا للبرميل) في أبريل نيسان عقب انهيار الطلب العالمي على النفط وفيض المعروض في الاسواق العالمية.
من جانب اخر، تراجع الطلب العالمي على النفط بشكل حاد بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا واجراءات الحجر الصحي التي اوقفت عمل الاقتصاد العالمي تقريبا. فقد انخفض الطلب العالمي على النفط في شهر نيسان من العام 2020 الى أكثر من 20 مليون برميل يوميا نتيجة التراجع الحاد في النشاط الصناعي في الولايات المتحدة واوربا والصين والهند والاقتصادات الناهضة، فضلا على انكماش قطاع النقل البري والجوي في مختلف بلدان العالم.
الاتجاه المتوقع للأسعار
مؤخرا، وبسبب الانهيار الحاد لأسعار النفط وعقود تداوله الآجلة، ابرمت منظمة اوبك وروسيا وحلفاء آخرون اتفاقا، فيما يعرف بمجموعة (أوبك+)، يقضي بإجراء خفض غير مسبوق للمعروض النفطي بمقدار 9.7 مليون برميل يوميا من أول مايو أيار، وعلى مرحلتين. وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ في الموعد المذكور. فضلا على قيام السعودية بإجراء تخفيضات اضافية لامتصاص فيض المعروض النفطي وتحسين التوقعات حول الاسعار في اسواق الطاقة العالمية.
وفي أحدث مؤشر على انحسار تخمة المعروض، تراجعت مخزونات الخام الأمريكية خمسة ملايين برميل الأسبوع الماضي، مما رفع اسعار خام برنت الى 36 دولار للبرميل، كما تقدر تقارير دولية حديثة حدوث تراجع حاد في انتاج النفط الصخري جراء تكبد الشركات المنتجة لخسائر فادحة تكبح فرص الاستثمار المستقبلي في ظل الاسعار الراهنة. اضافة لذلك، ثمة أدلة على تعافي استهلاك الوقود في الولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الصناعية المتقدمة والاقتصادات الناهضة، مما يوحي الى تعافي الطلب العالمي على النفط، او على الاقل كبح التراجع المستمر في معدلاته المعتادة منذ تفشي فيروس كورونا عالميا.
هل تستمر الاسعار بالارتفاع؟ ام هناك فرص لانهيار اخر للأسعار؟
تتطلب الاجابة التأكد اولا من قدرة الشركاء (اوبك وحلفائها) على الاستمرار في الوفاء بنسب التخفيض المقرة وضمن التوقيتات المحددة، وهو امر ممكن لعدة اسباب اهمها التجربة التاريخية التي افصحت عن تكاتف مصدري النفط الخام لتقليص فيض المعروض النفطي عام 2017، والضغوط المالية التي تواجه الدول النفطية عام 2020 واخيرا الضغوط السياسية التي مورست بحق عدد من الدول لإجراء خفض حقيقي ومؤثر للإنتاج.
مع ذلك، فان تامين جانب العرض ليس العامل الحاسم، كالسابق، لأسواق النفط، وانما تتجه انظار الجميع صوب مسار تفشي فيروس كورونا وفرص حدوث موجة ثانية للتفشي قبل التوصل للقاح ناجع، وما يخلفه ذلك من تداعيات اقتصادية على الولايات المتحدة واوربا والصين والاقتصادات الناهضة التي تشكل رقم صعب في تكوين الطلب العالمي على النفط.
اضف تعليق