لا يزال العراق كما هو حال معظم الدول الريعية منغمسا في تطوير القطاع النفطي المدر للأموال السهلة والتي أصبحت مع مرور السنين المصدر الرئيس ان لم يكن الوحيد لخزينة الدولة، مهملاً كل ماعدا ذلك. ان الاثار السلبية للتركيز على القطاع النفطي في العملية التنموية واهمال...
تعد فكرة وضع الثروة النفطية في خدمة التنمية وتنشيط القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والتحويلية وباقي القطاعات هو التوجه الرئيسي الذي رافق توجه الدولة العراقية منذ ان بدأ النفط يحتل مركز متزايد في واردات الدولة، وتحديداً في خمسينيات القرن الماضي في ١٩٥٠، حيث شهد هذا العام تأسيس مجلس الاعمار الذي قام بالتخطيط ووضع الأسس للعديد من المشاريع الاستراتيجية التي لاتزال شاخصة لغاية اليوم، الا ان هذه الاحلام والآمال تبددت الواحدة بعد الأخرى بسبب تراجع خطط التنمية امام الانفراد في تطوير قطاع النفط على حساب بقية القطاعات، وابتداء من تلك الفترة ولغاية الان لا يزال العراق كما هو حال معظم الدول الريعية منغمسا في تطوير القطاع النفطي المدر للأموال السهلة والتي أصبحت مع مرور السنين المصدر الرئيس ان لم يكن الوحيد لخزينة الدولة، مهملاً كل ماعدا ذلك.
ان الاثار السلبية للتركيز على القطاع النفطي في العملية التنموية واهمال باقي القطاعات تجلى بشكل صارخ في الازمة المالية الخانقة التي شهدها البلاد في عام ٢٠١٤ بعد التراجع الحاد في أسعار النفط وما رافقها من تحديات امنية مصيرية، بالإضافة الى مستوى الانفاق العالي للحكومة نتيجة سنوات الوفرة وما ترتب عليها من تأسيس وبناء واقع مالي يصعب التنصل عنه، حيث شكلت هذه العوامل منطلقات ضغط في ظل تراجع أسعار النفط من جهة، وتراجع باقي قطاعات الدولة بشكل جعلها تتحول من مؤسسات توفر السيولة المالية للخزينة العامة الى عبء مالي لا خير منه من جهة ويصعب التخلص منه من جهة اخرى.
وبالرغم من الإعلان المتواصل عن رغبة الحكومة في تنشيط باقي قطاعات الدولة ومحاولاتها المتتالية لتعدد مصادر الدخل الحكومي مثل قرار خصخصة جباية الكهرباء وقرار رفع نسبة الضريبة والرسوم الجمركية وغيرها من القرارات فان هذا التوجه لم يلاقي النجاح المطلوب في ضل الروتين الإداري والفساد المالي واستمرار النهج الريعي من حيث الإيرادات العامة ومن حيث الانفاق العام. حيث اثبتت هذه الازمة المالية وبشكل قاطع ان الاعتماد على النفط بشكل مطلق بمثابة الاعتماد على سراب لا حقيقة له.
ان الاهتزازات في أسعار النفط مسألة حتمية لا مفر منها ولأسباب عديدة معظمها خارج الإرادة الوطنية ولا يمكن تقنينها او توقعها بكل حال من الأحوال، اذ ان محددات سعر برميل النفط يخضع لعدة عوامل منها قوى العرض والطلب، ومنها الضغوطات المتبادلة بين الدول المصدرة والدول الصناعية المستوردة، وغيرها العديد من الأمور التي ينجم عن تفاعلها ارتفاع او انخفاض في أسعار النفط، وقد عول الكثير من الاقتصاديين على الازمة الخانقة التي مرت بها البلاد ان تكون بمثابة درس لواضع المنهج الاقتصادي تحثه على وضع القواعد المتينة لاقتصاد يبتعد شيئاً فشيئاً عن النهج الريعي، ولكن واقع الحال يعكس خلاف هذه الأمنية وخصوصاً بعد تسريب مسودة موازنة ٢٠١٩.
حيث شهدت الأيام الماضية اهتمام اعلامي حول مسودة موازنة عام ٢٠١٩ والتي وان لم ترقى لان تصبح قانون موازنة ولم يتم المصادقة عليها من قبل مجلس النواب واعتمادها بشكل نهائي، لكنها تشير وبشكل واضح الى استمرار النهج الريعي للاقتصاد العراقي وعدم الاستفادة من تجربة انهيار أسعار النفط الأخيرة في بناء اقتصاد متين قائم على تعدد مصادر الدخل للخزينة المركزية للدولة، حيث صرح مسؤولون في وزارة المالية "انه تم اعداد الموازنة الاتحادية للعام المقبل 2019، على ان لا تكون نمطية متعددة الاتجاهات، كون الموقف العام للبلاد تغير عن الموقف الذي كان فيه للأعوام الماضية وعليه هناك حاجة كبيرة الى ان تتغير او تتعزز صيغ التمويل المختلفة سواء الموازنة العامة او الموازنات الاخرى او صيغ التمويل بالاقتراض او بالدخول بشراكات او بإيجاد منافذ للقطاع الخاص بالعمل"، ومع اتفاق وتأييد كل من له إلمام واهتمام بالأمور الاقتصادية بأهمية ان تتغير صور تمويل الموازنة وضرورة تعزيز صيغ التمويل، لكن يبقى السؤال شاخص ويبحث عن اجابة، هل الواقع العملي لهذه الموازنة يذهب بهذا الاتجاه؟ ام ان النظرة الموضوعية والواقع الملموس تبين خلاف هذا التوجه؟
ان الاجابة على هذه الأسئلة تتطلب منا الرجوع الى مسودة الموازنة المنشورة مؤخراً في وسائل الاعلام للاطلاع على نقطتين مفصليتين يمكن من خلالهما استبيان التوجه العام للموازنة العمومية لعام ٢٠١٩.
النقطة الاولى ان اجمالي النفقات للوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة للعام 2019 قدرت 12٨،٤ ترليون دينار، في حين ان موازنة عام ٢٠١٨ قدرت بـ ١٠٤،١ ترليون، أي بزيادة الانفاق الكلي للسنة القادمة يقدر بقرابة ٢٣،٣ ترليون دينار، وان هذه الزيادة في الموازنة من حيث جهة إيراداتها ووجهة انفاقها هي التي ستحدد مدى اختلاف هذه الموازنة عن سابقاتها.
لقد قدرت إيرادات الموازنة العامة الاتحادية للسنة المالية ٢٠١٩ بمبلغ ١٠٥،٥ ترليون دينار في حين انها قدرت في موازنة عام ٢٠١٨ بمبلغ ٩١،٦ بزيادة عن تبلغ قرابة ١٣،٩ ترليون دينار والتي نتجت عن ارتفاع أسعار النفط وبالتالي ارتفاع سعر تقدير البرميل الواحد الى من (٤٦) الى (٥٦) دولار للبرميل وبمعدل تصدير قدره ٣،٨٨ مليون برميل يومياً.
ان هذه الزيادات وهذا التوجه يبين وبوضوح استمرار النهج الريعي في حساب إيرادات الدولة الكلية، ويكفي للتأكد من هذا الامر الرجوع الى تفاصيل هذه الإيرادات، حيث بينت مسودة الموازنة ان توقعات الإيرادات النفطية للسنة القادمة بلغت ٩٣،٧ في حين انها عام ٢٠١٨ بلغت ٧٧،١ أي بزيادة تقدر ب ١٦،٦ ترليون دينار، واما الإيرادات غير النفطية لعام ٢٠١٩ فقدرت ب ١١،٨ أي انها اقل من تقديرات عام ٢٠١٨ والبالغة ١٤،٤ ترليون دينار وان الفارق بينهما يبلغ (٢،٦) ترليون دينار، وان تراجع هذه الإيرادات بسبب الاعتماد المتزايد على الإيرادات النفطية المرتفعة واهمال باقي القطاعات والتي هي تعاني اصلاً حالة من التراجع منذ عام ٢٠٠٣ ولغاية الآن والذي بدوره يعكس استمرار تفرد الإيرادات الريعية وهيمنتها على كل ما سواها من الإيرادات، ولعل هذه الصورة تبين حقيقة المحرك الرئيسي لإيرادات عام ٢٠١٩ وهو النفط وفقط النفط ولا شيء غيره، الامر الذي يضعنا امام نتيجة نهائية هي ان موازنة عام ٢٠١٩ هي موازنة نمطية مستمرة على نفس النهج الريعي لكل سابقاتها من الموازنات ولا شيء مختلف فيها عن غيرها.
النقطة الثانية التي احب الإشارة اليها في المقارنة بين موازنة العام الحالي والعام القادم هي اجمالي العجز المخطط لمسودة الموازنة الاتحادية لعام ٢٠١٩ والذي بلغ ٢٢،٨ ترليون دينار ، في حين ان العجز المخطط لسنة ٢٠١٨ بلغ ١٢.٥ ترليون دينار ، أي زيادة في العجز المخطط بقرابة ١٠،٣ ترليون على ان يغطى هذا العجز من ثلاث محاور رئيسية هي من خلال الزيادة الحاصلة في أسعار النفط او من زيادة صادرات النفط الخام او من الاقتراض الداخلي والخارجي مع المبالغ النقدية المدورة في حساب وزارة المالية الاتحادية ، ومن الواضح ان العجز المخطط يعتبر حساب ريعي مؤجل يتم سداده من احد القنوات السابقة والتي تعد كلها قنوات ريعية بامتياز ولا دخل لكل ما هو غير نفطي في رفد الموازنة العامة بالأموال اللازمة لحالات مماثلة وهذا بحد ذاته هو تعميق للنهج الريعي في حسم الأمور المالية المعلقة.
من خلال النقطتين السابقتين والتي مثلت مقارنة بسيطة بين بعض بنود تقديرات مسودة موازنة عام ٢٠١٩ وما يقابلها من موازنة عام ٢٠١٨ من حيث الإيرادات الكلية والعجز المخطط ، والذي يبين ان الزيادة الحاصلة في موازنة ٢٠١٩ هي نتاج ارتفاع أسعار النفط العالمية والذي يصب في خانة النهج الريعي للاقتصاد العراقي ، اذ ان مجموع زيادة الواردات النفطية في مسودة عام ٢٠١٩ والبالغ ١٣،٩ ترليون مع زيادة العجز المخطط والبالغ ١٠،٣ يحقق زيادة في الواردات الكلية يبلغ ٢٤،٢ ترليون وهو ما يزيد عن حجم زيادة الانفاق في موازنة ٢٠١٩ عن موازنة ٢٠١٨.
ان هذه المعادلة البسيطة تبين مدى تعلق وارتباط الإيرادات الحكومية بالريع النفطي بالرغم من التجارب السلبية للعديد من دول العالم التي تلتزم المنحى الريعي في اقتصادها بشكل عام والتجربة العراقية في تاريخها الحديث وخصوصاً لما بعد ٢٠١٤ بشكل خاص، وعدم فرز جوانب من الموازنة لمعالجة هذا الخلل الهيكلي في الاقتصاد العراقي والاكتفاء بمبدأ يبقى الحال على ما هو عليه بالرغم مما اثبتته التجربة الاقتصادية من خلال الانهيار السابق لأسعار النفط بخطر هذا المبدأ على مستقبل العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ضل المطالبات الجماهيرية بتوفير فرص العمل وتحسين مستوى الخدمات العامة التي يستحيل تغييرها وتطويرها بهذا المعدل من الانغماس في التوجه الأحادي الريعي للاقتصاد العراقي.
اضف تعليق