هناك علاقة وثيقة بين السياسة والاقتصاد، بشكل عام، لا يمكن بحال من الأحوال تجاهلها، حيث يؤثر ويتأثر بعضهما بالبعض الآخر، ويختلف هذا التأثير والتأثر ببعضهما البعض من حيث الاتجاه والحجم من بلد لآخر ومن وقت لآخر حسب الظروف السائدة والنظام السياسي والاقتصادي (التركيب السياسي – الاقتصادي)...
يعتقد البعض إن الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق يسيران بشكل متوافق دون وجود تناقض بينهما، لكن الحقيقة كما يسيران بشكل متوافق في الحرية والمنافسة فهما يسيران بشكل متناقض في المساواة والتدخل.
هناك علاقة وثيقة بين السياسة والاقتصاد، بشكل عام، لا يمكن بحال من الأحوال تجاهلها، حيث يؤثر ويتأثر بعضهما بالبعض الآخر، ويختلف هذا التأثير والتأثر ببعضهما البعض من حيث الاتجاه والحجم من بلد لآخر ومن وقت لآخر حسب الظروف السائدة والنظام السياسي والاقتصادي (التركيب السياسي – الاقتصادي) الذي تتبناه الدولة، لكن تبقى السياسة بوابة الاقتصاد سواء بشكل جوهري أو بشكل سطحي.
فعندما يكون أداء السياسة، بشكل عام، سيئاً سينسحب هذا الأداء السيء، حتماً، إلى ساحة الاقتصاد فيكون هو الآخر أداءه سيئاً، والعكس صحيح عندما يكون أداء السياسة جيداً سينسحب هذا الأداء الجيد إلى ساحة الاقتصاد فيكون هو الآخر أداءه جيداً أيضاً، وكلا الأداءين السيء والجيد، ستنعكس آثارهما، حتماً، على المجتمع، فالأول (الأداء السيء) يولد الحرمان والفوضى والثاني (الأداء الجيد) يولد الرفاه والاستقرار.
الجانب السياسي
ان إدارة الشؤون العامة لأي بلد لا يمكن أن تتحقق بشكل عفوي وعشوائي خصوصاً في التأريخ المعاصر والحديث، دون وجود نظام سياسي معين بصرف النظر عن آلية اختيار هذا النظام، سواء تم اختياره من قبل المجتمع أو تم فرضه بالإكراه، أي المهم وجود نظام سياسي يعمل على إدارة الشؤون العامة للبلد. وإن مدى النجاح أو الإخفاق الذي يحققه النظام السياسي في إدارته لشؤون البلد، هو الذي يحتم الدخول لدائرة التفكير بآلية اختيار النظام السياسي الذي يتكون من نظامين ولكل منهما تفرعات كثيرة متروكة لأصحاب الاختصاص وستتم الإشارة إلى النظامين بشكل عام وبما يتناسب مع سياق المقال.
هناك نظامان في الجانب السياسي هما الدكتاتوري صاحب الحزب الواحد الذي يؤمن بمقولة "نفذ ثم ناقش" ويُصادر الحرية ويمنع المشاركة السياسية ويُقصي المعارضة ويخفض الشفافية ويحجب المعلومات ويُغيب المجتمع المدني من حيث الوجود أو الدور ويُفقد المنظمات المستقلة استقلاليتها ويزيد القوة العسكرية ويعسكر المجتمع ويجند الإعلام...إلخ. والنظام الآخر هو النظام الديمقراطي صاحب حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، والذي تكون الحرية السياسية أساسه والمشاركة وسيلته والمعارضة مكفولة فيه والشفافية عالية والمعلومات متاحة والمجتمع المدني أعمدته والمنظمات المستقلة أركانه والقوة العسكرية سوره...إلخ.
الجانب الاقتصادي
كما إن للجانب السياسي أنظمة سياسية تستخدم لإدارة الشؤون العامة لبلد ما، فالاقتصاد لا يمكن ان يسير بشكل عفوي وعشوائي أيضاً، أي لابد من وجود نظام اقتصادي تتبناه الدولة لإدارة الاقتصاد وبما يلبي حاجات المجتمع المتزايدة بواسطة الموارد المحدودة، لان الاقتصاد بحد ذاته قائم على أساس إشباع الحاجات المتزايدة بواسطة الموارد المحدودة، وبالتالي لا يمكن لدولة ما أن تهمل الاقتصاد دون وجود نظام يعمل على إدارة الموارد أفضل إدارة، وبالتأكيد إن إدارة الموارد المحدودة تختلف حسب النظام الاقتصادي المُتبع من قبل الدولة، فهناك أنظمة مختلفة لإدارة الاقتصاد يمكن تناول أكثرها شيوعاً بإيجاز أدناه.
الاشتراكي والرأسمالي والمختلط والإسلامي هذه أسماء لأنظمة اقتصادية يمكن لأي دولة ان تتبناها لإدارة اقتصادها ولكن كنتيجة للتطبيق الواسع، للنظام الاشتراكي بفعل نموذجه المعروف بالاتحاد السوفيتي الذي أعلن انهياره في 1991، والنظام الرأسمالي بفعل نموذجه المعروف بالولايات المتحدة الأمريكية واستمرت تجربته حتى الوقت الحاضر، أصبحا معروفين بشكل كبير، فالأول هو النظام الاقتصادي الاشتراكي (الدولة) قائم على الدولة والتخطيط المركزي ومحدودية القطاع الخاص وتدخل/هيمنة الدولة في/على النشاط الاقتصادي، والثاني وهو والنظام الاقتصادي الرأسمالي (السوق) قائم على السوق والمنافسة والحرية الاقتصادية ومحدودية الدولة، والقطاع الخاص هو المحرك الأساس للاقتصاد.
التركيب السياسي-الاقتصادي
بما انه اتضح من خلال ما سبق، ان لكل دولة لابد أن تتبنى نظاماً سياسياً وآخر اقتصادياً وذلك لإدارة الشؤون العامة للبلد وإشباع الحاجات المتزايدة بواسطة الموارد المحدودة لمجتمع ذلك البلد، إذن أصبح لابد من وجود أربعة فرضيات لتركيب النظامين السياسي-الاقتصادي مع بعضهما البعض، حتى تستطيع الدولة من خلال أحد هذه التركيبات إدارة البلد سياسياً واقتصادياً. التركيبات الأربعة هي الدكتاتورية - الاشتراكية، الدكتاتورية - السوق، الديمقراطية - الاشتراكية، الديمقراطية - السوق، وإن لكل تركيب من هذا التركيبات إيجابياته وسلبياته، كما إن هناك تفاوتاً كبيراً بين تركيب وآخر بشكلً عام، فالتركيب الأخير هو النقيض التام للتركيب الأول سياسياً واقتصادياً. ولأجل عدم الإسهاب واختصار الوقت ومراعاة حجم المقال، سيتم تناول التركيب الأخير، "الديمقراطية – السوق"، وذلك بما ينسجم مع عنوان المقال، من حيث نقاط الالتقاء كالحرية والمنافسة ومن حيث نقاط الافتراق كالمساواة والتدخل.
وتجدر الإشارة إلى إن هناك جدلية حول الديمقراطية - السوق من حيث أيهما يسبق الآخر ويكون هو نقطة البداية ويمهد الطريق لاستقبال الآخر، فالبعض يعتقد ان اقتصاد السوق ينبغي ان يسبق الديمقراطية لأنه (البعض) يعتقد إن اقتصاد السوق والمجتمع الذي يتولد عنه والنمو الاقتصادي الذي يحدثه، كلها ظروف ملائمة جداً لنشوء المؤسسات السياسية الديمقراطية والمحافظة عليها. في حين يعتقد البعض الآخر إن الديمقراطية ينبغي ان تسبق اقتصاد السوق لان الأسواق الفعالة تتطلب بنى اجتماعية وسياسية واسعة... فبعد فترة طويلة كان الكثير من قادة العالم يعتقد ان التنمية الاقتصادية يمكن ويجب أن تسبق اي تحرك نحو الديمقراطية، فإن الزعماء في أنحاء العالم اليوم بدأوا يدركون بأن الديمقراطية تقدم الميزة المكملة والمرغوبة، بل التي يجب أن تتوفر مسبقاً لإبقاء النمو الاقتصادي على مدى الحياة.
الحرية والمنافسة نقاط التقاء
تعتمد الديمقراطية والسوق على مبدأ الحرية والمنافسة، فعلى المستوى الديمقراطي هناك حرية للمواطنين في مسألة الترشيح والانتخاب وعدمه دون إقصاء وتهميش وإجبار لهم كما هو الحال في الدكتاتورية، وهناك حق للمنافسة بين المرشحين في تولي المناصب السياسية، وهي المسؤولة عن رفع كفاءة الأداء السياسي، فكلما يكون للمرشح مميزات كبيرة مقارنةً بأقرانه سيفوز بالمناصب السياسية وهذا ما ينعكس على الأداء السياسي، وبهذا فالحرية السياسية والمنافسة الحقيقة تكون حاضرة في الأنظمة الديمقراطية غائبة في الأنظمة الدكتاتورية.
وعلى مستوى السوق فهناك حرية للإفراد في العمليات الاقتصادية ابتداء من الملكية، اي امتلاك وسائل الإنتاج، والإنتاج ومروراً بالنقل والتوزيع وانتهاء بالاستهلاك والتصدير والاستيراد، كذلك المنافسة ومنع الاحتكار هو المطلوب في اقتصاد السوق، وهي التي تحقق الكفاءة في إنتاج السلع والخدمات، سعراً وجودةً، في حين لم يكن هذا متاحاً للأفراد في ظل الأنظمة الدكتاتورية، إذ في الغالب تكون الدولة هي المسيطرة على اغلب العمليات الاقتصادية فلم تراعي مسألة الكفاءة الاقتصادية فينخفض الأداء الاقتصادي.
استنتاج
فكما إن الفرد يكون حراً في شراء السلعة في ظل اقتصاد السوق يكون حراً أيضاً في انتخاب المرشح الذي يتلائم مع رغبته وفكره وطموحه في ظل الديمقراطية السياسية. وكذا الحال بالنسبة للمنافسة فكما ان المنتج والمستهلك له الحق في منافسة المنتجين والمستهلكين الآخرين، فإن الفرد له حق المنافسة مع الناخبين والمرشحين الآخرين أيضاً. وعليه فالديمقراطية والسوق يلتقيان عند الحرية والمنافسة سياسياً واقتصادياً.
المساواة والتدخل على مفترق طرق
وكما ذكرنا سابقاً، ان اقتصاد السوق يقوم على أساس الحرية والمنافسة، وهذه الحرية تسمح بامتلاك الوحدات الاقتصادية من قبل الأفراد او الجماعات، وذلك بفعل الدوافع الشخصية سعياً لتحقيق أهداف محددة كالربح، بعيداً عن الأهداف غير المحددة كالصالح العام مثلاً. وبما ان الظروف الذاتية (مثل صحة الفرد وتعليمه ومهاراته وكفاءته) والموضوعية (العوامل المشجعة أو المثبطة لإنشاء الوحدة الاقتصادية) تختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر ومن زمن لآخر، فإن هناك حتماً اختلاف في حجم الثروة التي يمتلكها الأفراد وبالنتيجة هناك تفاوت اقتصادي بين الأفراد في ظل سيادة اقتصاد السوق.
تقوم الديمقراطية، بعد توفر الظروف الملائمة والمؤسسات الديمقراطية، على أساس المساواة بين المواطنين في المشاركة السياسية سواء ناخبين او مرشحين، بعيداً عن التمييز العنصري بسبب العرق أو الدين أو اللون او الجنس أو اللغة أو غيرها، كونها تنظر للمواطن على أساس المواطنة وفقاً لمبدأ "الحقوق مقابل الواجبات" وليس على أساس الهويات الفرعية التي تؤدي عند سيادتها إلى غياب المساواة ومن ثم شيوع النزاعات والعنف والفوضى وعدم الاستقرار. حيث ان استخدام الموارد السياسية التي تعني كل شيء يمكن ان يصل إليه الشخص أو الجماعة لاستخدمه في التأثير المباشر أو غير المباشر على سلوك الآخرين، كالوجاهة الاجتماعية او الدينية أو العسكرية وغيرها، يمثل انتهاك خطير للمساواة السياسية كون تلك الموارد يتم توظيفها للتأثير على سلوك الآخرين بالاتجاه المرغوب وليس على أساس المواطنة والحقوق مقابل الواجبات.
اما من حيث التدخل وعدمه، فالديمقراطية مبنية على أساس حكم الشعب بالشعب ولأجل الشعب وهذا ما يتطلب مشاركة الشعب في العملية السياسية لتكون القرارات السياسية نابعة من رحم الشعب وبما يلبي احتياجاته وطموحه وتطلعاته، وهذا ما يدفع بالحكومة أن تتدخل في الجانب الاقتصادي حينما يريد الشعب أن تتدخل خصوصاً في جانب المالية العامة من حيث الإنفاق والضرائب، فعندما يزداد حجم الفقر سيولد الشعب المزيد من الضغط على الحكومة للتخفيف من حدة الفقر عبر قيام البرلمان بسن القوانين القاضية بزيادة الإنفاق وتقليص الضرائب خصوصاً بالنسبة للفئات محدودة الدخل. في حين، ان اقتصاد السوق يرفض التدخل في الشأن الاقتصادي كونه يرى أن تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي سيولد تشوه اداء الاقتصاد بشكل عام لان السوق يقوم على أساس آلية العرض والطلب والتنافس بين المنتجين والمستهلكين من القطاع الخاص الباحث عن الربح، هذه الآلية (آلية عمل السوق) ستجعل الاقتصاد أكثر كفاءة وأٌقل إسرافا وأكثر ترشيد للموارد الاقتصادية، ولهذا فعند سيادة اقتصاد السوق ستكون الدولة حيادية التدخل تجاه النشاط الاقتصادي.
استنتاج
العلاقة بين الديمقراطية والسوق تخفي تناقضاً في مسألة المساواة وتدخل الدولة، كون اقتصاد السوق يولد بالضرورة تفاوت اقتصادي بين الأفراد وهذا ما يولد عدم المساواة في الموارد السياسية لمختلف المواطنين، وبهذا فاقتصاد السوق ينال بشدة من المساواة السياسية، فالمواطنون غير المتساوين اقتصادياً من غير المحتمل أن يكونوا متساوين سياسياً وعليه لا يمكن تحقيق المساواة السياسية الكاملة في ظل سيادة اقتصاد السوق. وبالنسبة لتدخل الدولة في الاقتصاد فالديمقراطية تدعو للتدخل في الاقتصاد تلبية لمتطلبات الشعب خصوصاً في ظل قيام الشعب بالحكم الديمقراطية بواسطة الجهات التشريعية والرقابية وغيرها. في حين اقتصاد السوق يرفض تدخل الدولة في الاقتصاد كونه يقوم على آلية العرض والطلب والقطاع الخاص هو من يلبي احتياجات الاقتصاد لا الدولة، وعليه فهناك توتر دائم بين الديمقراطية والسوق في مسألة المساواة وتدخل الدولة.
الاستنتاج العام
وبناءاً على ما سبق، فإن هذا التركيب بين الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق لا يمكن أن يكون ذو تطابق كامل ولا يوجد أي اختلاف بينهما! كون "المساواة والتدخل" تفصل بينهما. كما انه (التركيب بين الديمقراطية والسوق) لا يمكن أن يكون على مفترق طرق بشكل كامل ولا يلتقيان أبداً، كونهما يلتقيان في نقاط معينة "كالحرية والمنافسة" وعليه فالديمقراطية والسوق يلتقيان في نقاط ويفترقان في أخرى.
اضف تعليق