النتيجة الحتمية لهذا الإهمال هو تحول الطلب العراقي المتنامي للسلع والخدمات الى هدف سهل ولقمة سائغة للأسواق العالمية، ومنفذاً لتصريف بضاعتهم ومنتجاتهم، حيث يستورد العراق قرابة ٩٧٪ من احتياجاته المحلية، فيما تشير العديد من الاحصائيات ان العام ٢٠١٧ شهد تبادلا تجاري بقيمة ٥٥ مليار دولار...
شهدت الاعوام الاربعة الاخيرة من بعد عام ٢٠١٤ ايام عجاف، وقلق متزايد بتزايد هيمنة النفط على ايرادات الدولة وانحسار باقي قطاعتها، في ظل انهيار الاسعار العالمية وتراجع سعر البرميل الواحد لحدود 30 دولار، وبواقع ينذر بعواقب وخيمة ان لم تتعظ وتتعلم الدولة من المشاكل المالية لتلك السنوات، وتباشر بوضع الخطط الاستراتيجية لتغير حال العراق من دولة ريعية الى دولة انتاج او دولة جباية على اقل تقدير.
ان الطريق الى هذا التغيير يمر عبر مراحل عديدة أولها واهمها هو تكثيف الإيرادات غير النفطية.
ويقصد بتكثيف الإيرادات، هو زيادة مدخلات الدولة من الاموال، عن طريق تفعيل وتطوير باقي قطاعاتها، الإنتاجية او الصناعية او الزراعية او الخدمية، وكل ما يمكن ان يحقق تدفق مالي لخزينة الدولة سواء كان بالعملة المحلية او العملة الأجنبية.
واحب هنا ان اسلط الضوء على المنافذ الحدودية، باعتبارها من اهم مصادر الايراد، ان لم يكن أهمها.
نظراً لاعتماد العراق منذ عام ٢٠٠٣ ولغاية الان على استخراج النفط الخام وبيعه في الأسواق العالمية، واعتباره الاساس في بناء سياسته المالية، مهملاً بذلك باقي القطاعات بمختلف جوانبها من خلال اعتماد المنهج الريعي في رفد الدولة باحتياجاتها المالية، حتى تجاوز ما يدره النفط ٧٢ ترليون دينار عراقي من اصل 91 ترليون دينار قيمة الموازنة الكلية لعام ٢٠١٨.
ان هذه الاهمال قد اسس لضعف الإنتاج الداخلي، وعدم قدرتها على تغطية الطلب المحلي المتزايد وتلبية حاجات السوق على اقل تقدير، ليحل بدلها الاستيراد.
لقد شهد العراق عام ٢٠٠٣ انهيار النظام السياسي القائم في ذلك الوقت على يد التحالف الدولي، وفتح الأبواب على مصراعيها للأسواق العالمية لتمزق وبكل قسوة الصناعة والزراعة المحلية، والتي كانت اصلاً تترنح نتيجة سنوات الحروب والحصار الدولي وسوء الإدارة السياسية والاقتصادية للبلد.
لقد أعقبت عام ٢٠٠٣ سنوات من التخبط السياسي والاخفاق الأمني وسوء إدارة الملف الداخلي والذي تمثل بعدم اضطلاع الحكومات المتعاقبة بواجبها ببناء واقع انتاجي وانقاذ الجانب الزراعي من الاهمال وترك الملايين من الدوانم الزراعية فريسة سهلة للجفاف والتصحر، فضلاً عن هجرة معظم المزارعين لأراضيهم والتحاقهم بطابور الباحثين عن التوظيف الحكومي، بما يشكله من عبء ارهق كاهل الموازنات العامة ووسمها بالصفة التشغيلية.
ان النتيجة الحتمية لهذا الإهمال هو تحول الطلب العراقي المتنامي للسلع والخدمات الى هدف سهل ولقمة سائغة للأسواق العالمية، ومنفذاً لتصريف بضاعتهم ومنتجاتهم، حيث يستورد العراق قرابة ٩٧٪ من احتياجاته المحلية، فيما تشير العديد من الاحصائيات ان العام ٢٠١٧ شهد تبادلا تجاري بقيمة ٥٥ مليار دولار عبر المنافذ الحدودية، كان من المفترض ان تشكل الرافد الثاني للموازنات الحكومية، بعد النفط، لتغطية الانفاق العام للدولة، وهنا تبرز المفارقة حيث لم يحقق العراقي من منافذه الحدودية سوى( 550 ) مليون دولار، أي ما نسبته ١٪ من قيمة التبادل التجاري، وهذا بحد ذاته كارثة بالمقاييس الاقتصادية والمالية والإدارية حيث انه لم يصل حتى الى عتبة ال ٥٪ كحد ادنى لقيمة التعريفة الجمركية على المواد الداخلة للبلد وكما حددتها سلطة الاحتلال والمتمثلة بالسفير الامريكي بول بريمر في ذلك الوقت من عام ٢٠٠٣، ويمكن ايجاز العوامل المتحكمة بالمنافذ الحدودية والتي اثرت سلبا وبصورة كبيرة في مستوى واردتها المالية بما يلي.
1. التعقيد والروتين وتفشي البيروقراطية في المعاملات الرسمية للبضائع الداخلة للبلد، وبما يعزز الواقع المتخلف لإدارة المنافذ الحدودية
2. سيطرة بعض الأحزاب السياسية والمافيات الاجرامية على الكثير من المنافذ الحدودية، وتدخلهم في ادخال البضائع بطرق غير شرعية تكلف خزينة الدولة مليارات الدولارات.
3. تفشي الفساد المالي والإداري في المنافذ الحدودية وتزوير الأوراق الرسمية للعديد من البضائع الداخلة، لغرض التهرب الضريبي، حيث ذكرت بعض التقارير ان العراق يخسر ١٥ الف دولار في الدقيقة الواحدة بسبب الفساد في المنافذ الحدودية.
4. قدم طرق الدفع والتقييم واطر العمل البدائية وعدم ادخال طرق ال فع الالكتروني، اضعف من الرقابة الحكومية على أداء العاملين في هذه المنافذ.
ان الإدارة السليمة والكفؤة لهذه المنافذ يمكن ان تحقق أرباح وايرادات للخزينة الحكومية قد لا تقل عن الإيرادات النفطية، او قد تكون داعماً اكبر لها، ويمكن إيضاح ذلك من خلال ما أعلنته هيئة اعلام المنافذ الحدودية عن قيامها بحملة منظمة وصارمة لمنع حالات الفساد المالي والإداري اثمرت عن نتائج تعكس الأموال التي قد تتحقق من هذه المنافذ في حالة استثمارها بالشكل الصحيح، حيث أعلنت هيئة المنافذ الحدودية/منفذ ميناء ام قصر الشمالي عن احصائيات بينت من خلالها ان الإيرادات المتحققة ما بين الفترة من ١ - ٩ حزيران ٢٠١٨ قد بلغت اكثر من ٣١ مليار دولار، في الوقت الذي كانت الإيرادات المتحصلة لشهر نيسان الماضي ١٩ مليار دولار ولك ان تلاحظ الأرقام وتتصور الفرق، وقد يكون من الجدير بالذكر ان هيئة المنافذ الحدودية استلمت مهامها في ٢ أيار من هذا العام.
ان أهمية المنافذ الحدودية تتعدى فرض التعريفة جمركية ومراقبة البضائع الداخلة الى ماهو اكثر من ذلك، ويمكن ايجازها بعدة أمور،
• فحص ومراقبة السلع والمواد الداخلة للبلد والتأكد من صلاحيتها وإمكانية استخدامها البشري وانها لا تشكل أي خطر على الانسان سواءً صحياً او امنياً.
• التأكد من كمية وجودة البضائع الداخلة للأسواق العراقية والحد من سياسة الإغراق، والمتمثلة باستيراد كميات كبيرة من سلعة معينة وبمواصفات رديئة يكون سعرها منخفض وذات مواصفات رديئة.
• وضع الاسس السليمة لعملية الاستيراد والتأكد من عدم استيراد أي منتج يمكن انتاجه داخلياً، حفاظاً على الإنتاج المحلي وتشجيعاً للصناعة العراقية.
• فرض نسبة ضريبية معينة كتعريفة جمركية على السلع الداخلة بناء على نوع السلعة وقيمتها، تختلف من سلعة الى أخرى، فقد تكون ٥٪ في بعض السلع، وقد تصل الى ٢٠٠٪ في سلع أخرى.
• الحد من خروج العملة الأجنبية وإيقاف نزيفها للخارج، من خلال الرقابة على الاموال الخارجة.
• تعتبر إدارة المنافذ الحدودية واحدة من اهم أدوات محاربة غسيل الأموال، من خلال متابعة التحويلات المالية للخارج بحجة استيراد البضائع والتأكد من سلامة الموقف التجاري للجهة المستورِدة.
ان توجه الحكومة نحو تكثيف الموارد غير النفطية أصبحت ضرورة ملحة لا تقبل المماطلة او غض الطرف، لضعف الموارد غير النفطية وتخلفها، فخلال الفترة التي أعقبت عام ٢٠١٤ وعند انخفاض أسعار النفط عالميا لحدود ٣٠ دولار للبرميل الواحد توجهت الحكومة نحو خيارات الاقتراض سواءً الداخلي من خلال السندات المصرفية او الاقتراض الخارجي وهذا التوجه يعد من اكثر الامور خطورة، لان معظم هذه القروض لم تكن قروض استثمارية وانما كانت قروض لأغراض تشغيلية يتعلق قسم كبير منها بتسديد التزامات الحكومة من الرواتب او الانفاق الجاري، والخيار الثاني الذي اتخذته الحكومة، هو فرض استقطاعات بنسب معينة من رواتب الموظفين بهدف تدعيم الانفاق العسكري لإدامة زخم المعركة ضد داعش، ومثل هذه الخيارات وامثالها لاتعد حلولاً جذرية تخرج العراق من ازمته المالية، بقدر ما يمكن ان يوفره تكثيف الموارد المالية من المنافذ الحدودية في وقت بلغت عملية التبادل تجاري الى ٥٥ مليار دولار سنويا.
مما تقدم يتضح الأهمية التي يمثلها المنافذ الحدودية في دعم الواقع المالي للبلد في ظل تقلبات أسعار النفط، وهناك بعض النقاط التي يجب على الحكومة اخذها بالاعتبار لزيادة وتكثيف الايراد المادي لهذه المنافذ.
1. القيام بإصلاحات مالية وإدارية للقضاء على الفساد الإداري الذي اجتاح المنافذ الحكومية، وتسهيل الاجراء الروتيني لمعاملات الادخال للبضائع.
2. الضرب بيد من حديد من خلال حملات امنية وعسكرية شاملة للقضاء على المافيات والعصابات التي تتحكم بالمنافذ الحدودية للبلد.
3. اضطلاع الحكومة بدورها الحازم في فرض نفوذها وبسط ارادتها، وابعاد الأحزاب السياسية وإيقاف تدخلاتهم في المنافذ الحدودية.
4. وضع سياسة تجارية واضحة المعالم مبنية على الأسس الاقتصادية والعلمية، ووضع جدول لتقديرات التعريفة الجمركية ونسب فرضها تتناسب وقيمة السلعة الداخلة وبما يخدم المنتج المحلي، ويحقق الحماية للصناعة الوطنية.
5. الجدية في تفعيل جهاز التقييس والسيطرة النوعية، ومنحة المزيد من المساحة للعمل والرقابة لما يشكله من أهمية في الحفاض على سلامة المواطنين، والحفاظ على صحتهم.
6. تطوير البنى التحتية للمنافذ الحدودية فيما يتعلق بشحن وتفريغ البضائع وطرق التوصيل والتأمين.
7. استخدام التكنلوجيا الحديثة، من خلال ربط كل المنافذ الحكومية بمنظومة عمل الكترونية، تمثل قاعدة بيانات ومعلومات واحصاءات واحدة للسيطرة على البضائع الداخلة ومراقبة كمياتها وجودتها.
8. تنظيم عملية الاستيراد وحصرها، من خلال منح اجازات الاستيراد للشركات المختصة، وحسب اختصاصاتها وعدم ترك الباب مفتوحا للاستيراد العشوائي.
اضف تعليق