دفعت ردة الفعل المناهضة للتكامل الحقيقي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى اللجوء إلى تدابير الحماية التجارية الأحادية الجانب، التي تستهدف الصين بشكل خاص. وفي كل من الولايات المتحدة وأوروبا، تُقام الحواجز أمام الهجرة وترتفع. وتتحرك حكومات عديدة نحو فرض ضرائب جديدة على شركات التكنولوجيا...
ARVIND SUBRAMANIAN
نيودلهي ــ يتشدق أغلب أهل الاقتصاد بكلمات بديعة عن فوائد التكامل العالمي "الحقيقي" ــ والذي يعني التدفقات العابرة للحدود التي تكاد تكون غير مقيدة على الإطلاق من السلع والعمالة والتكنولوجيا. وهم أقل ثقة عندما يتعلق الأمر بالتكامل المالي العالمي، وخاصة التدفقات القصيرة الأجل من ما يسمى "الأموال الساخنة". ومع ذلك فإن ردة الفعل المعادية للعولمة اليوم تركز إلى حد كبير على التكامل الحقيقي ــ وتكاد تُبقي بشكل كامل على التكامل المالي.
ومؤخرا، دفعت ردة الفعل المناهضة للتكامل الحقيقي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى اللجوء إلى تدابير الحماية التجارية الأحادية الجانب، التي تستهدف الصين بشكل خاص. وفي كل من الولايات المتحدة وأوروبا، تُقام الحواجز أمام الهجرة وترتفع. وتتحرك حكومات عديدة نحو فرض ضرائب جديدة على شركات التكنولوجيا التي تعتبرها أكبر أو أكثر نفوذا مما ينبغي.
في هذا السياق، كان غياب أي شكل من أشكال الاحتجاج ضد التكامل المالي أمرا بالغ الغرابة. فقد عاثت التدفقات المالية فسادا في الاقتصادات الغنية والفقيرة على حد سواء بشكل منتظم على مدار السنوات الأربعين الماضية. ولم يكن هذا الضرر سرا: فقد أبرزته مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، مضيفة بعض التحذيرات إلى دعمها غير المقيد سابقا للانفتاح المالي.
قد يعكس انعدام المقاومة للتكامل المالي بروز المشكلة ــ أو ربما بقدر أكبر من الدقة، السرد المحيط بالمشكلة. فعندما يتعلق الأمر بالتكامل العالمي الحقيقي، من السهل تحديد هوية الجناة والضحايا؛ أما في حالة التكامل المالي فيختلف الأمر.
ولنتأمل هنا مسألة التجارة الحرة. فعلى الرغم من كونها مفيدة في مجمل الأمر، فإن تأثيراتها التوزيعية المعاكسة لا يمكن إنكارها، ومن السهل تحديد من يقع عليه الضرر (على سبيل المثال، عمال الدول المتقدمة في الصناعات ذات القيمة المضافة المنخفضة مثل الصلب) ومن يُحدِث الضرر (الدول النامية القادرة على إنتاج وتصدير السلع المعنية بثمن أرخص). وربما يكون الخاسرون أقلية، ولكن يمكنهم أن يتوحدوا معا على النحو الذي يعمل على تضخيم صوتهم وتعظيم قدرتهم التفاوضية، وخاصة إذا تركزوا جغرافيا. وفي ظل هدف واضح، يكتسب غضبهم القوة والشرعية.
على نحو مماثل، تجلب الهجرة مكاسب كبرى، وفي نظر كثيرين، خسائر كبيرة. وربما تشمل فئة الخاسرين الواضحين العمال المحليين المتضررين (أو الذين يعتقدون أنهم متضررون) من المنافسة المتمثلة في المهاجرين، أو المواطنين الذين يشعرون بأن أساليب حياتهم أو حتى هوياتهم باتت مهددة. ولا يهم ما إذا كانت هذه المزاعم صحيحة من الناحية التجريبية؛ فهي تأتي في سياق سرد واضح ومقنع، حيث يجري تصوير المهاجرين على أنهم أوغاد أشرار. وكما رأينا، يُعَد مثل هذا السرد أداة تعبئة شديدة الفعالية بين أيدي الساسة الهازئين.
من الواضح بطبيعة الحال أن الأزمات المالية ــ كتلك التي ألمت بأميركا اللاتينية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وشرق آسيا في أواخر التسعينيات، وأوروبا الشرقية في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وأوروبا الغربية منذ أوائل العقد الحالي ــ تخلف ضحايا واضحين: أولئك الذين يخسرون وظائفهم أو مساكنهم أو مدخرات التقاعد. ولكن ليس من السهل بنفس القدر تقسيم اللوم على من يستحقونه.
في الماضي ــ في العصور الوسطى فعليا ــ كانت أصابع الاتهام توجه غالبا إلى البنوك. غير أن مصادر تدفقات "الأموال الساخنة" اليوم لا يمكن تحديدها بهذه السهولة. ذلك أن صناديق التحوط، وصناديق الاستثمار، وشركات إدارة الأصول، وصناديق التقاعد، وصناديق الثروة السيادية تعمل من مختلف أنحاء العالَم، وضمن ولايات قضائية شرعية، وضمن ما أطلق عليه سومسرت موم ذات يوم وصف "الأماكن المشمسة المأهولة بأناس ينعمون بالظل".
وحتى إذا كان من الممكن تحديد المقرضين بسهولة، فمن غير الممكن تحميلهم اللوم كله. فالمعاملات المالية تتضمن دائما المقترضين أيضا، وعلى عكس عمال الصلب المستغنى عنهم، نادرا ما يكون المقترضون المتخلفون عن سداد قروضهم (سواء من الأفراد أو الدول) ضحايا أبرياء. ففي العديد من الحالات، حصل كبار المقترضين على قروضهم عن طريق خداع المقرضين أو استخدام الصِلات السياسية، كما فعل رفاق الرئيس الإندونيسي السابق سوهارتو.
في حين تتسبب أشكال السرد البارزة التي تتناول أشرارا بعينهم يسهل التعرف عليهم في جعل إدامة التكامل الحقيقي أمرا بالغ الصعوبة ــ على الرغم من فوائده الشاملة الملموسة ــ فإن غياب أشكال سرد مماثلة مقابلة يسمح للتكامل المالي بالاستمرار دون انقطاع. وهذا من شأنه أن يضع العالَم على المسار نحو قدر أقل كثيرا من النوع الجيد من التكامل، والمزيد من النوع المشكوك فيه.
ويستلزم تغيير هذا المسار توفر نوعين من الاستجابة. فمن أجل دعم التكامل الحقيقي، يتعين على صناع السياسات أن يعكفوا على خلق شبكات أمان طموحة لحماية الخاسرين المحتمين، مع الحرص على تسليط الضوء على الفوائد الإجمالية التي يوفرها مثل هذا التكامل. وربما تكون هناك حاجة أيضا إلى اتخاذ تدابير ملموسة ضد الجناة ــ على سبيل المثال، الشركات والدول التي تسرق الملكية الفكرية بوقاحة ــ على الرغم من التكاليف المحتملة.
من ناحية أخرى، يحتاج صناع السياسات إلى تحسين أدائهم في إدارة التكامل المالي ــ وهي المهمة التي ربما تكون أشد صعوبة، بسبب عدم المطالبة بها حقا من قِبَل أي جمهور انتخابي. ونظرا لطبيعة التمويل الضبابية شبه الشبحية، والتي تستعصي على عملية بناء السرد السهل، فسوف تكون مهمة ترويضه صعبة. لكن ترويضه واجب حتمي.
اضف تعليق