هانز هلموت كوتز/سوزان لوند

 

واشنطن العاصمة ــ تغيرت معالم وحدود التمويل العالمي بصورة دراماتيكية خلال العقد المنصرم منذ بدء الأزمة المالية في أغسطس/آب 2007. فقد تقلصت القيمة الكلية لتدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود بمقدار 65% خلال السنوات العشر الماضية، وهو تدني يعكس الانخفاض الحاد في أنشطة المعاملات المصرفية الدولية.

والسؤال الذي يهمنا هو الدلالات التي يمكن أن نستنتجها من أرقام كهذه بشأن صحة وسلامة التمويل العالمي اليوم. هل تمثل دليلا على ترنح وتراجع حركة "العولمة المالية"، أي انتقال رؤوس الأموال بين الدول؟ وإذا كان الأمر كذلك فعلا، هل يعد شيء كهذا أمرا سيئا؟

يعكس التراجع الحالي النفور من مخاطرة أكبر وتزايد الوعي منذ بدأت الفقاعة في الانفجار في أواخر 2007. لكن وفقا لبحث جديد أصدره معهد ماكينزي، فإن هذا الوضع المستجد يعد بمثابة نسخة أكثر مرونة من التكامل المالي العالمي.

قبل الأزمة، زاد النشاط المصرفي عبر الحدود بقوة مع توسع كثير من بنوك العالم الكبرى دوليا، وتزايد أنشطة الإقراض فيما بينها، والاستثمار في الأصول الأجنبية. فقد حدث مثلا أن توسعت بنوك منطقة اليورو بشكل كبير بعد استحداث عملة اليورو. وارتفعت قيمة المطالبات الخارجية لبنوك منطقة اليورو (وفروعها) من 6.6 تريليون دولار عام 2000 إلى 23.4 تريليون دولار عام 2007. الأهم من ذلك أن معظم هذا النمو كان داخل منطقة اليورو ذاتها، التي كانت تشهد ظهور سوق مصرفية متكاملة، مما حدا بالبعض إلى الاعتقاد بأن وجود عملة موحدة وقواعد مشتركة يعني اختفاء المخاطر القُطرية تقريبا.

الواضح لنا اليوم أن مؤسسات كثيرة سيطرت عليها عقلية القطيع، بدلا من تنفيذ استراتيجيات حكيمة متعقلة في مجال الأعمال. وكانت البنوك العالمية الكبرى، الجريحة آنذاك بفِعل الانهيار المالي في الولايات المتحدة وما تلاه من أزمة في منطقة اليورو، حريصة على تخفيض وجودها في الخارج، وتصفية بعض أعمالها، والخروج من أخرى، والسماح للديون المستحقة بتجاوز آجال سدادها. ومنذ عام 2007، بلغت قيمة الأصول التي باعتها البنوك العالمية تريليوني دولار على الأقل.

كانت البنوك السويسرية والبريطانية والأمريكية جزءا من السبب وراء التقهقر، لكن بنوك منطقة اليورو كانت في قلبه. فمنذ بدأت الأزمة، خفضت بنوك منطقة اليورو المطالبات الخارجية بمقدار 7.3 تريليون دولار، أي بنسبة 45%. ويمثل نصف هذا المبلغ تقريبا محفظة متناقصة بين مقترضي منطقة اليورو، خاصة البنوك. ومن ثم فقد سقطت فكرة أن الإقراض داخل منطقة العملة الواحدة هو إقراض شبه محلي.

مع تطور الأزمة المالية، أصبحت مشاركة القطاع الخاص ــ من خلال "تقليم أصل الديون" و"مشاركة الدائنين في تحمل تكاليف عمليات الإنقاذ" ــ خيارا يهدد البنوك. ومن منظور المخاطرة، أضحت الأسواق المحلية، التي كانت البنوك تتمتع فيها قبل ذلك بمزية المعاملات الضخمة والمعرفة السوقية، أكثر جاذبية نسبيا. ففي ألمانيا مثلا، هبطت نسبة الأصول الأجنبية من مجموع الأصول في أكبر ثلاثة بنوك من 65% في 2007 إلى 33% في 2016. ولم يكن هذا مجرد تقليص للميزانية العمومية، إذ نمت الأصول المحلية بنسبة 70% خلال الفترة ذاتها.

ربما يكون ما ظهر في منطقة اليورو وخارج حدودها نظاما ماليا أكثر استقرارا، على الأقل فيما يتعلق بالنشاط المصرفي. فقد طُلب من البنوك إعادة بناء رؤوس أموالها، كما أسهمت القواعد واللوائح الجديد الخاصة بالسيولة في تقليل نسب الإنفاق بالاستدانة وقابلية التعرض للخسارة. وشكلت بعض التدابير مثل اختبار الإجهاد والاستعداد للحل ــ ما يسمى بوصية البقاء (الوثيقة التي تحدد بها المؤسسة طريقة حلها) في القطاع ــ مثبطات قوية للتعقيد. كل هذه العوامل قللت أيضا من جاذبية العمليات الخارجية.

كذلك يؤشر وجود خليط أكثر تنوعا من تدفقات رؤوس الأموال إلى استقرار أكبر. ورغم هبوط إجمالي تدفقات الإقراض السنوية عبر الحدود بنسبة الثلثين، فإن الاستثمار المباشر الأجنبي كان أقدر على الصمود. يُعَد الاستثمار المباشر الأجنبي أكثر أنواع تدفقات رأس المال استقرارا، كونه يعكس قرارات استراتيجية طويلة الأجل للشركات. وتشكل المواقف المتعلقة باستثمار رأس المال (الاستثمار المباشر الأجنبي بالإضافة إل استثمارات المحافظ) 69% من تدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود الآن، ارتفاعا من 36% في 2007.

ويتمثل مقياس أخير للاستقرار في تقلص الاختلالات المالية العالمية، بما ذلك الأرصدة الكلية لرؤوس الأموال والحسابات المالية. ففي عام 2016، انخفضت نسبة تلك الاختلالات إلى 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، هبوطا من 2.5% في 2007. فضلا عن ذلك، باتت نسب العجز والفائض المتبقية موزعة على عدد أكبر من البلدان مقارنة بما قبل الأزمة. ففي عام 2005، استحوذت الولايات المتحدة على 67% من صافي تدفقات رؤوس الأموال العالمية. وبحلول عام 2016، هبطت هذه النسبة إلى النصف. وبينما كانت الصين تستحوذ على 16% من صافي فائض رأس المال في العالم في عام 2005، تدنت هذه النسبة إلى واحد بالمئة فقط العام الماضي. كما انخفضت الاختلالات داخل منطقة اليورو، مع استثناءات قليلة مثل ألمانيا وهولندا. وأضحت الدول النامية اليوم مستوردة لرؤوس الأموال مرة أخرى.

لكن لا ينبغي أن يستدعي أي شيء من هذا مشاعر الرضا. فمن المحتم أن ينطوي النظام المالي العالمي المحبوك بشكل أشد إحكاما على مخاطر عدوى أعلى. فهناك احتمالية دائمة لعودة مظاهر الإفراط والتجاوزات، إذ تشهد بالفعل أسواق السندات والعقارات في بعض الاقتصادات المتقدمة صعودا لمستويات غير مسبوقة، رغم توقعات النمو المتوسط. كما يظل التقلب في تدفقات رؤوس الأموال الإجمالية مبعثا للقلق. فمنذ عام 2010، واجه ثلث الدول النامية وثلثا الاقتصادات المتقدمة تقلبات كبرى في تدفقات رؤوس الأموال الكلية. وتتسم تدفقات الإقراض بصورة خاصة بالتقلب، فقد شهدت أكثر من 60% من الدول درجة ما من التقلبات السنوية، وكان التحول المتوسط يعادل 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي للدول المتقدمة، و3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول النامية.

يرى بعض المراقبين أنه ينبغي فعل المزيد لاحتواء المخاطر الكامنة في النظام؛ وبقدر ما تحولت تلك المخاطر ببساطة من البنوك إلى بنوك الظل، فربما كانوا محقين. ولكن في مجمل الأمر، نستطيع أن نرصد علامات تدل على تزايد المرونة والاستقرار في كل مكان. وعلى هذا فإن التدابير التي اتُخِذَت خلال السنوات العشر الأخيرة تشير ضمنا إلى قدر أقل من الهشاشة عندما تحل الأزمة التالية، لأنها حتما ستحل.

* هانز هلموت كوتز، مدير برنامج مركز السياسات الآمنة في جامعة جوته في فرانكفورت/سوزان لوند، شريك مع معهد ماكينزي العالمي
http://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق