إن جميع البلدان التي تعتمد على مورد واحد أو موارد محدودة تهتم بمسألة التنوع الاقتصادي وذلك للأهمية التي يحققها لتلك الاقتصادات، إذ إن بقاء الاقتصادات أحادية الجانب يجعلها عرضة للتقلبات والمخاطر التي تصيب تلك الموارد المحدودة أو المورد الواحد.
في الوقت الحاضر تعاني أغلب البلدان النفطية من أحادية اقتصاداتها وذلك لاعتمادها على مورد واحد وهو النفط وفي بعض الأحيان يضاف له الغاز أو غيرها، هذا ما يجعل اقتصاداتها عرضة للتقلبات التي تصيب أسعار النفط، فمجرد اهتزاز أسعار النفط لأسباب اقتصادية أو سياسية أو طبيعية أو غيرها، إضافة إلى عدم قدرة الإدارة المحلية من التحكم بأسعاره، فضلاً عن تصلب الأجهزة الإدارية والإنتاجية لأغلب البلدان النفطية، هذه العوامل وغيرها ستدفع إلى تدهور الاقتصاد.
للتنوع الاقتصادي أمران
حيث لا يمكن التحكم بأسعاره وذلك لان النفط سلعة دولية يتحكم بها منتجون ومستهلكون آخرون، فلا يمكن اتخاذ قرار معين بشكل مستقل داخلياً من دون الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية الخاصة بالنفط، كما ان التصلب للأجهزة الإدارية والإنتاجية يعني أنها لا تمتلك المرونة بما يكفي لتكون قادرة على تحويل المواد الخام وخصوصاً النفط إلى منتجات نفطية حتى تستطيع تحقيق التنوع الاقتصادي إذ معروف إن تحويل المواد الخام إلى منتجات نفطية سيفضي إلى أمرين يسهمان في تحقيق التنوع الاقتصادي، وهما
الأمر الأول: تحقيق موارد كبيرة (لان أسعار بيع المنتجات أعلى من أسعار بيع المواد الخام) تكون كفيلة بسد متطلبات القطاعات الاقتصادية التي تشكل عند تفعيلها لب التنوع الاقتصادي. وهذا يكون بشكل منفصل أي إن إيرادات المنتجات النفطية تذهب للقطاعات الاقتصادية من دون ضرورة وجود ارتباط فيما بينهما.
الأمر الثاني: إن تحويل المواد الخام إلى منتجات نفطية يعني بحد ذاته فتح باب التنوع الاقتصادي لان هذا التحويل يدخل ضمن الصناعات التحويلية وهذه الأخيرة معروفة بما لها من منتجات متنوعة وارتباطات عديدة أمامية وخلفية مع القطاعات الاقتصادية الأخرى.
وكما ذكرنا آنفاً إن مسألة تحقيق التنوع الاقتصادي تعد مسألة مهمة بل واستراتيجية لجميع الدول التي تعتمد على موارد محدودة وخصوصاً البلدان الريعية التي تعتمد على موارد تتسم بقصر عمرها بفعل نفاذ كميتها أو انخفاض أهميتها الاقتصادية كنتيجة لإيجاد البدائل بفعل التطور التكنولوجي أو تذبذب أسعارها بفعل ارتباطها بالعالم الخارجي كونها سلعة دولية، كالنفط مثلاً.
مراحل التنوع الاقتصادي
ومن أجل تحقيق التنوع الاقتصادي للاقتصادات الأحادية بالنسبة لتلك البلدان لابد من المرور بثلاث مراحل والتي أطلق عنوان المقال على أساسها ويمكن توضيحها كما يأتي:
المرحلة الأولى: المرحلة النفطية
في هذه المرحلة لا يمكن تحقيق التنوع الاقتصادي بشكل مفاجئ من دون الاعتماد على النفط بل يبقى هو الممول الرئيس لجميع الأنشطة الاقتصادية، إذ لا يمكن لهذه الأنشطة أن تستمر أو تحافظ على موقعها على أقل تقدير في حال قطع الممول الرئيس لها بشكل مفاجئ والاعتماد على الضرائب بشكل مفاجئ أيضاً لان قطع النفط من ناحية والذي يمثل إعانات بل أساس وجود الأنشطة الحالية، وفرض الضرائب التي تمثل كلفة بل قيد عليها من ناحية أخرى مع قلة عددها أصلا، يعني تدهور الاقتصاد والارتماء به نحو التبعية المطلقة التي تخضع العباد والبلاد لرحمة العالم الخارجي.
ولذا لابد من تكثيف الاعتماد على النفط وتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية مع عدم فرض الضرائب إلا بشكل محدود جداً في هذه المرحلة حتى يتسنى توفير الإمكانيات اللازمة -تمت الإشارة إليها سابقاً في الأمر الامر الأول- لدعم القطاعات الاقتصادية بمجملها وسد نفقات الموازنة العامة لعدم فرض الضرائب في هذه المرحلة حتى يتم بناء الأوعية الضريبية لنستطيع إيجاد مورد أخر يتصف بالديمومة والاستقرار إلى جانب النفط فيما بعد.
المرحلة الثانية: المرحلة المشتركة النفط-الضريبة
في هذه المرحلة نكون قد حققنا أوعية ضريبة جيدة نوعا ما وذلك من خلال توجيه الإيرادات النفطية التي تم توفيرها في المرحلة الأولى نحو القطاعات الاقتصادية هذا ما أدى إلى خلق فرص عمل ودخول وأرباح تساعد على فرض الضرائب بشكل تدريجي وأكثر من نسبتها التي تم فرضها في المرحلة الأولى، على أن تأخذ بعين الاعتبار إن الأنشطة في طور التطور والتقدم في مسيرتها الإنتاجية أي إن لا تثقلها بالضرائب بحيث توقفها عن التطور والتقدم، مع توجيه الجزء الأكبر منها نحو الإنفاق الاستثماري، مقابل العمل على تقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية التي كانت تمثل الممول الرئيس للأنشطة الاقتصادية وبشكل تدريجي أيضا حتى تستطيع الأنشطة ان تمول نفسها بنفسها دون الاعتماد على النفط بشكل رئيس مع تحمل جزء من الضرائب مقابل الخدمات التي تقدم لها.
فالعمل على تقليل الاعتماد على النفط بشكل تدريجي وليس مفاجئ مقابل فرض الضرائب بشكل تدريجي وليس مفاجئ أيضا، سيزيد من ثقة الأنشطة الاقتصادية بنفسها والوقوف على قدميها والاستمرار في الإنتاج، وبهذا نكون قد حققنا تقدماً معيناً في مسيرة التنوع الاقتصادي، ويمكن تلخيص هذه المرحلة بالعبارة "زيادة الضرائب المناسبة مع التخفيض المناسب للنفط".
المرحلة الثالثة: المرحلة الضريبية
في هذا المرحلة التي بلغت المشاريع الاستثمارية فيها مراحلها القصوى وحققت أعلى الأرباح ولديها قاعدة ضريبة واسعة تشجع على فرض الضرائب التي تعوض الإيرادات النفطية التي كانت تعد الممول الرئيس في المرحلة الأولى للموازنة والأنشطة الاقتصادية، أي أن الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والكهرباء والنقل وغيرها أصبحت فعّالة لديها القدرة على تمويل نفقات الدولة مع الاعتماد على النفط بشكل محدود مع الاستعانة به في أوقات الأزمات التي تصيب الاقتصاد وادخاره للأجيال اللاحقة عبر الصناديق السيادية التي أنشأتها الكثير من الدول النفطية وأبرزها النرويج، لتحقيق العدالة الاجتماعية بين الأجيال الحالية من ناحية والأجيال اللاحقة من ناحية أخرى لان النفط هو ثروة عامة لا تقتصر على جيل دون أخر وعلى فئة دون أخرى.
فالاعتماد على الإيرادات النفطية في هذه المرحلة يكون أقل ما يمكن والاعتماد على الضرائب أكبر ما يمكن مع اخذ الظروف الخاصة بالمكلف، المنتج أو المستهلك، بعين الاعتبار حتى يشعر بالاطمئنان عندما تشعر الدولة به من جانب وعندما تترجم الضرائب التي يدفعها إلى سلع وخدمات حقيقة يستفاد منها فيعطي الضرائب عن رضى خاطر وليس عن إكراه. وباختصار هذه المرحلة هي عكس المرحلة الأولى التي كانت تعتمد على النفط بشكل كبير وعلى الضرائب بشكل بسيط جداً.
وبالتأكيد أن كل مرحلة لها توقيتاتها الزمنية وهي تختلف من بلد لآخر حسب كوادره وخبراته ومناخه وطبيعة مجتمعه ونظامه السياسي وغيرها.
ومن المهم أيضا فسح المجال أمام القطاع الخاص حتى يأخذ على عاتقه قاطرة التنوع والنمو الاقتصاديين ومراقبة الدولة له حتى لا يخرج من المسار المرسوم له في عملية تحقيق التنوع الاقتصادي، مع قيامه (الدولة) في بناء المناخ الاستثماري وتسهيل الإجراءات التي تحفز المستثمرين المحليين والأجانب على الدخول في النشاط الاقتصادي.
اضف تعليق