تعد الموازنة العامة أحد أذرع السياسات الاقتصادية المستخدمة في معالجة التقلبات الاقتصادية ورفع معدلات النمو وتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي. وتزداد الاهمية الاقتصادية للموازنة العامة في البلدان النامية نظراً لاتساع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. اما في البلدان النفطية تضاف ادواراً اخرى لعل اهمها كون الموازنة اداة لتوزيع الريع النفطي على الجمهور.
وتفصح التجربة الاقتصادية في البلدان النفطية عن نموذج نمو فريد من نوعه فيها، حيث تكون النفقات الحكومية العامة محركاً لمعظم القطاعات الاقتصادية ومولداً رئيساً للوظائف. وحتى بالنسبة للقطاع الخاص (غير النفطي) فانه يعتاش على النفط بشكل غير مباشر باعتماده على رواتب موظفي الدولة وتعاقده بشكل رئيس مع المؤسسات الحكومية، مما ولد تلازماً محكماً بين حركة القطاع النفطي والقطاع غير النفطي في هذه البلدان.
من الناحية المالية هناك قصة اخرى، حيث ترتبط البنية المالية بشكل شبه كامل على النفط، وقد زاحم الاعتماد المفرط على النفط في تغطية الايرادات العامة المصادر الاخرى كالضرائب والرسوم وعوائد المؤسسات الاقتصادية العامة وأضعف من نسب مساهمتها في تمويل الموازنة العامة. هذا الواقع ولد انكشافاً خطيراً للموارنة العامة على إيرادات الريع النفطي والمرتبط اساساً بتقلبات اسعار النفط الموجهة بعوامل ومتغيرات اقتصادية وسياسية عالمية.
ونظراً لدور النفقات الحكومية في تحريك النمو وارتباطها في النفس الوقت بالمورد النفطي المرتبط اساساً بعوامل خارجية. بات النمو والاستقرار الاقتصادي مهدداً بآفاق الاقتصاد العالمي وتذبذبات اسعار النفط الخام.
من جانب اخر، زاد الارتباط المذكور بين الموازنة العامة والنفط من عمق الاختلالات الهيكلية في هذه البلدان. فعلى مستوى سوق العمل تجذب الوظائف العامة قرابة نصف القوى العاملة لما توفره من رواتب مغرية وضمانات مالية وصحية تفوق ما يوفره القطاع الخاص رغم ضعف الانتاجية الحدية للعامل في القطاع العام لتصل الى اقل من الساعة يومياً في بعض هذه اللبدان.
ونظراً لميول الاستبداد الراسخة في بنية حكومات هذه البلدان، بات التوظيف الحكومي اداة لتوزيع جزء من الريع النفطي مقابل تنازل الافراد في حقوقهم بالديمقراطية والمسائلة الشعبية. قابل ذلك تزايداً ملحوظاً في الشق التشغيلي من النفقات العامة على حساب الشق الاستثماري، حيث يلاحظ تزايد النفقات التشغيلية في حقب الازدهار النفطي وتدفق الايرادات بغزارة، في حين شكل ذلك عبء كبيراً على الموازنة العامة حين تنحسر ايرادات النفط الخام نظراً لانعدام الإيرادات البديلة وعدم مرونة النفقات التشغيلية للتقليص (كون معظمها رواتب واجور). وقد أسهم ذلك في فقدارة المرونة المالية للتكيف مع هبوط اسعار النفط.
عناصر الاختلال المالي في البلدان النفطية
تفصح الملامح العامة لاقتصادات الريع النفطي عن مجموعة حرجة من التشوهات الاقتصادية التي يمكن حصر اهمها فيما يلي:
1- ارتباط الموازنة العامة بالمورد النفطي زاد من انكشاف الاقتصاديات النفطية على الخارج مهددا التوازنات الاقتصادية الداخلية والخارجية فيها.
2- هيمنة المورد النفطي على ادوات السياسة المالية (النفقات العامة والضرائب) عطل عمل هذه الادوات في تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في البلدان النفطية.
3- اخفاق نموذج النمو الاقتصادي القائم على النفقات العامة في تحقيق اهداف الرفاه والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي نظراً لارتباطه بعوامل اقتصادية وسياسية عالمية مؤثرة في اسعار النفط يصعب في العادة التنبؤ والاستعداد لها.
4- الادمان المفرط على العوائد النفطية أضعف من جدية حكومات الريع النفطي في تنويع القاعدة الاقتصادية وعزل القطاعات الاقتصادية غير النفطية عن مسار اسعار النفط لتكون مصدات واقية من صدمات اسعار النفط الخام.
5- تشوه سوق العمل في هذه البلدان نظراً لتحول الدولة الى مؤسسة توظيف خارج اطر الانتاجية والحاجة الفعلية وبأجور عالية. واعتماد القطاع الخاص على العمالة الاجنبية في تأمين الايدي العاملة اللازمة في مؤسساته المختلفة.
6- سيادة نمط الركوب المجاني والتمتع بالنفقات العامة بدون مقابل أضعف مساحة الشفافية والرقابة على الاداء العام وزاد من استبداد الحكومات النفطية على حساب الديمقراطية والحرية الفردية.
فك الارتباط وسياسات الاصلاح
قد يكون الهبوط المزمن لأسعار النفط عن المستويات التي تطبعت عليها موازنات الاقتصادات الريعية فرصة جيدة لإعادة النظر بهيكل الاقتصاد النفطي القائم ومحاولة عزل تدفقات المورد النفطي تدريجياً عن القطاعات الاقتصادية عبر دعم وتحفيز النمو الذاتي للقطاع الخاص بعيداً عن مؤسسات الدولة.
كما يتطلب الامر تفعيل الإيرادات غير النفطية والحد من الهدر والاسراف الذي يلازم صرف النفقات العامة عبر اعتماد مبدأ العائد الكلفة في الانفاق لضمان الترشيد والضبط المالي.
بالإضافة الى ضرورة تضمين خطط وسياسات التنمية والاصلاح الاقتصادي في الموازنات العامة وزيادة درجة الشفافية والرقابة على الاداء المالي للحكومة.
من جانب اخر يتطلب واقع سوق العمل دعم القطاع الخاص بالشكل الذي يضمن تحويله لقطاع مولد للوظائف على اسس اقتصادية رصينة.
واخيراً ينبغي استغلال الفوائض النفطية المتحققة في مدد التعافي النفطي لمشاريع استثمارية معدة اساساً للتصدير لتكون نافذة جديدة للعملة الاجنبية حين تنحسر ايرادات النفط الخام بدلاً من الاستثمار المالي للفوائض وما يحيطه من مخاطر تقلبات اسواق المال العالمية.
اضف تعليق