أوضح البراهين العقلية وايسرها تناولا أو لمساً، بعد دليل الفطرة، هو دليل النظام وهو الاهتداء إلى وجود الله عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في كل جوانب الكون، ومن خلال ملاحظة القوانين والنواميس الدقيقة الحاكمة على كل ذرة من ذراته.. النظام السائد في الكون ليس الا ولید عقل جبار...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
ان الهدف الأسمى لجميع المفكرين والفلاسفة هو تفسير الظاهرة الكونية بنحو فلسفي وعلمي، وقد طرحت في هذا المجال تفسيرات ونظریات عديدة تبلغ خمسة هي:
١ ـ نظرية «التدبير والتقدير والخلق»:
هذه النظرية ترى أن العالم بمادته وصورته مخلوق لقوة عالمة قادرة، هي التي أوجدته، وأخضعته لهذه النواميس والقوانين، وان تلك القوة وذلك الموجود العالم القادر هو الله سبحانه الذي خلق فسوى، وقدّر فهدى.
وهذا هو ما ظلّ يتبناه الالهيون في مختلف العصور والأزمنة.
2 ـ نظرية خيالية الكون:
وترى هذه النظرية أن العالم خيال في خيال، ووهم في وهم، فلا اصالة للكون، ولا وجود أبداً، أو أن الإنسان لا يقدر أن يصل إلى درك هذا العالم وواقعياته.
وهذه هي النظرية التي يتبناها الخياليون الذين سموا خطأ بالمثاليين.
٣ ـ نظرية الصدفة:
ويرى أصحاب هذه النظرية أن المادة قديمة في وجودها وأن صورها وأشكالها تحققت بالصدفة من دون دخالة أي عقل وشعور.
4 ـ نظرية الخاصية:
ويعتقد أرباب هذه النظرية أن النظام الكوني العام وليد خاصية المادة. وهذا يرجع في مصطلح القوم الى المادية الميكانيكية.
5 ـ نظرية المادية الديالتيكية:
ويذهب أصحاب هذه النظرية الى ان النظام السائد في الكون جاء نتيجة التضاد الديالتيكي الموجود في أجزاء الكون، المحرك نحو هذا النوع من النظام.
وهذه النظريات الثلاثة الأخيرة تشترك في الاعتقاد بقدم المادة وأزليتها، ولكنها تختلف في بيان تحقق الصور والانظمة السائدة في الكون.
هذه هي الآراء المطروحة من قبل المفكرين، لتعليل وتفسير الظاهرة الكونية، فهلمّ معنا ندرسها واحدة تلو الأخرى، في ضوء العقل والمنطق لنرى ما يصح منها وما لا يصح، وما هو سليم مقبول منها، وما هو سقيم مرفوض، وان أي واحدة منها قادرة ـ واقعاً ـ على تفسير الكون، وتبیین اسراره، وفك رموزه والغازه، بشكل معقول ومقبول، ونبدأ بنظرية الخلق الالهية أولا.
العقل يقود الى الله
قد ثبت في الفصل الأول أن السبب الواقعي لنشأة التدين انما هو أمر يرجع الى فطرة الانسان وجبلته، أو انه أمر يتجلى في مداركه العقلية وبذلك تبين ضعف الوجوه التي استند اليها الماديون في تفسير ظاهرة التدين، ومسألة الاعتقاد بالله.
كما اننا قد برهنا في طليعة الفصل (الثالث) على تلك الفطرة وانها أمر لا ينفك عن الانسان، وان وجود الإنسان لم یزل متلازماً مع هذا الميل الذاتي إلى الله.
ويجب الان أن نقف على كيفية وصول الانسان الى اثبات وجود الله سبحانه عن طريق الاستدلال والبرهنة العقلية. وهذا هو الفصل المهم في هذا المجال.
ان من العجب العجاب ان تبقى القافلة البشرية منذ ان وجدت والى اليوم مشدودة بفطرتها وفكرتها إلى موجود خارج عن نطاق حسها لا تدركه بحواسها، ولا تناله بشيء من جوارحها.
ان من العجب العجاب ان تظل الانسانية تعتقد بهذا الموجود أشد الاعتقاد وتتعلق به أشد التعلق فتعتكف عند بابه، وتعتقد بان له كل التأثير في حياتها، إلى درجة انها لا ترى للحياة معنى بدون التعلق به، ولهذا تفدي في سبيله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وهو من أقوى الأشياء في الواقعية وأشدها في الخفاء وان كان من أظهرها في الآثار والتجليات.
ولقد كان هذا الاعتقاد ولا يزال من أقوى العوامل التاريخية الباعثة على سلسلة من الحروب، كما كان وراء الكثير من حالات الصلح والهدنة والوفاق أحياناً أخرى.
ان المشاهدة والملاحظة تشهدان ـ بما لا ريب منه ـ على ان الانسان يرمق ـ في مصيره ـ قمة شامخة، وان الجميع يحاول الوصول اليها بالعبادة والرياضة والعشق، وقد بلغ تشوق الانسان الى هذا الأمر أحياناً إلى درجة انه تحت وسائل غير صحيحة للبلوغ الى تلك القمة السامقة، والوصول الى تلك الذروة العالية بعبادته وتخضعه، كما هو الحال في عبدة الأصنام حيث اتخذوا أصناماً لتقربهم إلى الله زلفی كما يقول القرآن الكريم:
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ﴾ (یونس ـ 18)
وقال:
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ﴾ (الزمر ـ 3)
ان الاعتقاد بالله قد أوجد فنوناً وخلق حركات بديعة، وأحدث علوماً، وتسبب في ظهور الكثير من الاداب، وكان وراء بعثة طائفة من صفوة البشرية هم الأنبياء، كما وقد لعب دوراً عميقاً في التحولات، والتطورات وكان له حظ عظيم جداً في حياة البشر، وكان بالتالي أقوى ظاهرة في الحياة الإنسانية ظهوراً وتأثيراً.
ثم انه لابد ـ قبل أي شيء ـ ان ننبه إلى أمر مهم في هذا المجال وهو ان العقلاء وبالاخص المفكرين منهم كانوا في مقابل ظاهرة الكون علی صنفین:
1 ـ من يعتبر هذا العالم خيالا في خيال، فلا يرى له حقيقة أبداً أو انه ينكر امكانية الوصول الى حقيقة على الاقل.
2 ـ من يرى لنفسه ولما يحيط به من عالم خارجي حقيقة وواقعية.
والبحث في هذا الفصل انما هو مع الصنف الثاني دون الأول، اذ البحث مع الصنف الأول أعني المثاليين (1) بل الخياليين في خصوص اثبات الخالق غير مفيد وهم ينكرون الواقعية الخارجية أو يشككون في امكانية الوصول اليها على الأقل، فلابد من أن يكون البحث معهم على نطاق أوسع وهو اثبات آن وراء أنفسهم عالماً خارجياً ذا حظ عظيم وكبير من الواقعية والوجود، وان في مقدور الانسان ان يصل الى طائفة من هذه الواقعيات.
ولكي يقف القارئ على مدى ضعف هذا الاتجاه ووهنه نشير الى مقالتهم وبعض ما یقیمونه من أدلة في هذا المجال في آخر هذا الكتاب على وجه الاجمال اذ للبحث في هذه المسألة مجال آخر وهو ابحاث نظرية المعرفة.
ولا يخفى أن للمثال معني آخر في اللغة ومصطلح الأخلاقيين ولا سيما في مصطلح الفلسفة الإغريقية.
ابرز الادلة على وجود الله الخالق:
البرهان الأول: برهان النظام
«ان الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق».. هذه الجملة المعروفة بين الالهيين والفلاسفة منهم خاصة تشير الى كثرة الأدلة والبراهين على وجوده سبحانه وتنوعها، بحيث يناسب كل طريق منها افهام جماعة من الناس وبهذا تكون معرفة الله متاحة لكل أحد، وممكنة لجميع فئات الناس من مثقفين إلى عاديين ومن حضريين الى بدويين، فلكل فئة من هذه الفئات المختلفة في الافهام والمستويات أن تهتدي الى وجود الله بإحدى هذه الطرق والادلة، كل فئة بحسب فهمها وقدرتها على النظر والاستفادة من هذه الأدلة وها نحن في هذا القسم من البحث نقف على برهان آخر من هذه البراهين.
ان أوضح البراهين العقلية وايسرها تناولا أو لمساً للجميع، بعد دليل الفطرة، هو «دليل النظام» وهو الاهتداء إلى وجود الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في كل جوانب الكون، ومن خلال ملاحظة القوانين والنواميس الدقيقة الحاكمة على كل ذرة من ذراته ويمتاز هذا الدليل على غيره بأمرين:
1 ـ ان هذا الدليل الذي يمكن الوقوف عليه من مطالعة اية ظاهرة من ظواهر الكون، يمكن تقريره بحيث يتمشى مع تقدم العلوم وتطورها.
وبعبارة أخرى: أن صدق هذا الدليل ودلالته تتجلى اكثر فاكثر كلما تقدمت العلوم وازدهرت، وتوصل الانسان الى كشف المزيد من الحقائق الكونية والقوانين الطبيعية والعلاقات الدقيقة السائدة في عالم الأحياء وغير الاحياء فكما أن المرء في العصور الغابرة كان بإمكانه ان يتمسك بهذا الدليل ويستدل به على وجود الله، فإنه يمكن لإنسان هذا العصر، الذي وقف فيه على الكثير من أسرار الكون، وقوانينه، أن يستهدى به أيضاً لأنه وقف على مصاديق أكثر وأدق لهذا الدليل، وحصل على رصيد أعظم من الامثلة بعد وقوفه على تفاصيل هائلة عن الكون والحياة.
وبعبارة ثالثة: كما ان الانسان الذي كان يعيش في العصور الغابرة والعهود القديمة ويرى نشأة الكون من العناصر الأربعة (التراب، الماء، الهواء، النار) ويقصر حجم هذا العالم على الافلاك التسعة أن يستدل بدليل النظام على وجود خالق لهذا الكون كذلك يمكن للإنسان الذي يعيش في عصر الذرة والاختراعات والكشوف العلمية المتقدمة التي عرف الانسان بسببها كيفية نشأة الكون من عناصر كثيرة، ووقف على قوانین ونوامیس، وتراكيب طبيعية معقدة جهلها السابقون.
فان الاختلاف في تفسير الكون وما فيه من عناصر وتركیبات لا يؤثر في دلالة هذا البرهان، ولا يزلزله لاتفاق الجميع في اثبات نظام دقيق سائد في هذا الكون، ولهذا فان تقدم العلوم لا يزيد هذا الدليل الّا وضوحاً، ولا يعطيه الا عمقاً ورسوخا، فان الجميع قديماً وحديثاً، متفقون على سيادة نظم دقيقة خاصة على هذا الوجود، انما الاختلاف هو في تشخيص نوعية هذه القوانين والنواميس وسعتها وضيقها، وهو أمر لا يضر بالبرهان المذكور أبداً.
2 ـ ان كل متخصص في ناحية من العلوم بإمكانه ان يستدل بمعطيات العلم الذي تخصص وبرع فيه على وجود الله، وهذا يعني ان عالم النبات والاحياء والفيزياوي، والمتخصص في شؤون الفضاء، والطبيب والإخصائي في الكيمياء سواء في الانتفاع بهذا الدلیل كما سيتضح دلك في الابحاث القادمة.
والان الى دليل النظام نفسه.
ما هو دليل النظام؟
ان دليل النظام يتكون من ثلاثة أمور هي:
1 ـ قانون العلية الذي يعني ان لكل ظاهرة علة، ولكل حادثة سبباً ويقع بيان هذا الأمر واثباته على عاتق العقل البديهي أو العقل النظري، على اختلاف في اعتبار قانون العملية اصلا (بديهياً) مثل ادراك الانسان للحرارة والبرودة أو (نظرياً) يحتاج الى التفكر والتأمل (2).
وبما أن المادي والالهي كليهما يعترفان بقانون العلية ويصدّقان به فاننا نترك ولكن الى ان هذه التساؤلات التي يطرحها الاطفال حول علة الظواهر انما تكون دليلا على «فطرية قانون العلية» اذا لم يلاحظوا قبل ذلك نماذج من نشأة الظواهر عن اسباب خاصة في حين أن الواقع يشهد بان الاطفال لا يتساءلون عن الاسباب والعلل الا بعد أن مروا بعشرات العلل والمعلولات والاسباب والمسببات وأدركوا الارتباط بین العلة والمعلول بأفهامهم البسيطة.
ولهذا لا يمكن اعتبار قانون العلية امراً فطرياً.
البحث فيه هنا، فما رمي به الالهيون من التنكر لهذا القانون ما هو الا محض افتراء أو مغالطة، فهذه كتب الالهيين الكلامية والفلسفية شاهدة على أنهم بحثوا هذا القانون وأيدوه أكثر من غيرهم.
2 ـ ان هذا الكون بأسره يخضع لنظام موحّد ومتين ابتداء من الذرة وانتهاءاً بالمجرة، وان العلماء لم يقفوا في هذا الكون الفسيح الا على المحاسبة الدقيقة والتصميم المتقن.
ويقع بيان هذا الامر على عاتق العلوم الطبيعية فهي التي تشرح تفاصيل هذا النظام، وتقدم لنا مظاهر منه، وترينا نماذج من القوانين السائدة في الكون في جميع الحقول والمجالات.
ويكون هذا البند في برهان النظام بمثابة الصغرى حسب مصطلح المنطقيين.
٣ ـ ان العقل يحكم ـ ببداهة ـ بان هذا النظام البديع بما فيه من النوامیس المبنية على المحاسبات العلمية الدقيقة صادر عن عقل جبار محيط بالمادة وخصوصياتها، ويعلم بكل القوانين والنواميس السائدة في الكون، ولا يصح ان يستند هذا النظام إلى الصدفة أو إلى نفس المادة أو يصدر عنها، وسنشرح هذه المسألة عندما نبسط الكلام في هذا المجال.
هذا ولابد أن يعلم القارئ الكريم أن «برهان النظام» برهان مستقل ولا يرتبط ببرهان (حدوث المادة) ودلالته على محدث وراءها.
وبعبارة أخرى أن «برهان النظام» الذي نحن بصدده الان يهدف إلى بيان أن النظام السائد في الكون ليس الا ولید عقل جبار محيط بالقوانين والسنن الطبيعية وان من المستحيل صدوره عن المادة نفسها سواء أكانت المادة قديمة ام حادثة فان هذا البرهان يجري على كلا الفرضين ولا يختص بفرض حدوث المادة.
نعم هناك برهان آخر وهو برهان «حدوث المادة» الذي يحكم به العقل وتثبته العلوم الطبيعية وهو أمر يستلزم افتراض وجود محدث لها، فهو ما سنتعرض له في البحوث القادمة.
وخلاصة القول أن هذا البند يكون بمثابة الكبرى في برهان النظام.
اذن يتكون برهان النظام ـ بعد الاعتراف بقانون العلية المسلم بين العقلاء ـ من:
1 ـ صغرى وهي أن هذا الكون باسره يخضع لنظام دقيق، وهي حقيقة تثبتها العلوم الطبيعية التي تقدم نماذج من القوانين والمحاسبات الدقيقة في شتى مجالات الكون والطبيعة.
٢ ـ كبرى وهي أن النظام المبني على المحاسبة معلول لفاعل عاقل، عارف بالنواميس والقوانين في ذلك النظام، ويمتنع أن يكون من صنع المادة نفسها.
ثم ان طبيعة البحث وان كانت تقتضي تقديم الكلام في الصغری على الكبرى أي اعطاء نماذج من القوانين والنواميس والسنن والمحاسبات السائدة في الكون قبل بیان ان هذه النظم ليست الا من صنع عقلية جبارة وحكيمة وعارفة هي التي جهزت المادة بهذه النظم، الا اننا نقدم البحث في الكبرى اولا ليمكن الاستنتاج منها عند ذكرنا لنماذج من القوانين الطبيعية والسنن الكونية الحاكمة في عالم الفضاء وعالم النبات والجماد والحيوان والانسان.
وينبغي أن نقف ـ قبل أي شيء ـ على معنى النظم.
ما هو النظم؟
النظم هو عبارة عن الترابط والتعاون بين أجزاء مجموعة واحدة لتحقيق هدف معين بحيث يكون كل جزء في هذه المجموعة مكملا لها، وبحيث يكون فقدان كل جزء موجباً لأن تفقد المجموعة الأثر المترتب عليها والهدف المتوخى منها.
ونرى مثل هذا النظام سائداً في «الساعة»، فالانسان العاقل المجرد لنفسه عن كل هوى وعقيدة سابقة، اذا نظر الى مجموعة واحدة بهذا الوصف انتقل ـ من فوره ـ الى ان هناك شعوراً وقصداً قد تدخل في تحقيق هذا التركيب من دون أن يتوقف في قضائه هذا على أمر آخر.
فلو وجدنا في الطبيعة نظماً بهذا المعنى، بل بمعنى أدق من ذلك بكثير قضينا ـ بالبداهة ـ بأن هذا النظم لم يتحقق فيها الا بدخالة شعور وقصد، وانه من فعل عقل جبار، وحكمة بالغة.
فلو وقفنا عند سفح جبل بركاني على «ساعة يدوية» سليمة وعاملة ملقاة بين أكوام الحمم والصخور البركانية الباردة التي تطايرت من فوهة ذلك الجبل.
وافترضنا أن جميع العناصر المستخدمة في هذه الساعة موجودة برمتها في مكونات تلك الاحجار، والحمم الباردة، فهل يجوز لاحد أن يتصور أو يدعي انّ هذه الساعة خرجت ـ من تلقاء نفسها ـ من ذلك البركان مع تلك الحمم المتطايرة من دون أن يصنعها صانع، بحجة أن ما يكونها من العناصر موجودة بعينها في تلك الأحجار والحمم.
ان العقل يرفض بقوة مثل هذا التصور مع أن جميع العناصر المستخدمة في «الساعة» موجودة بعينها في تلك الحمم الباردة التي تطايرت من الجبل البركاني قبل ذلك. وليس هذا الا لان العقل يحكم ـ بصميم ذاته ـ بأن كل ما ساد فيه تنظم بمعنی «الترابط الوثيق والتعاون العميق بين أجزاء مجموعة واحدة بهدف تحقيق غاية معينة» لا ينفك ـ عقلا ـ عن دخالة شعور في تحققه.
وهذا هو ما يحكم به العقل في كل موجود ساد في أجزائه الترابط والتعاون والاتساق لغرض تحقيق غاية معينة من دون فرق بین مصنوع وآخر.
فاذا عرفت هذه الحقيقة يبقى أن نستعرض معاً الفرق بين ما هو من فعل المدبر الحكيم وما هو من نتائج الصدف والاتفاق واليك ذلك الفارق بين الصدفة والتدبير.
ان الجميع ـ كما اسلفنا ـ تعترف بالأنظمة العجيبة الدقيقة السائدة على الكون، غير ان الكلام هو في منشأ هذا النظام البديع المتقن المبني على المحاسبة الدقيقة.
والسؤال المطروح هو: هل هذا النظام الكوني وليد الصدفة، أم أنه من صنع فاعل خبير، وصانع عاقل يفوق كل شيء حكمة وعلماً، ويعرف بكل المحاسبات الدقيقة، وتحيط بها احاطة كاملة وشاملة؟.
ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أمرين من شأنهما القاء الضوء على هذا المطلب، والامران هما:
الأول: نقاط الالتقاء والافتراق بين الالهي والمادي:
ان المادي والالهي كليهما يعترفان بخضوع هذا الكون بأسره لنظام الاسباب والمسببات، أي أن كليهما يعترفان بأن لكل ظاهرة من الظواهر المادية الكونية علة مادية، بحيث لا تحدث هذه الظاهرة الا عقيب تلك العلة، وتنعدم بانعدامها، فما نراه من حوادث طبيعية ما هي الا نتيجة العلل الطبيعية سماوية كانت أو أرضية.
فهطول الأمطار وحدوث البروق والرعود، كل ذلك وغيره من الظواهر الطبيعية الكونية لا يحدث الا نتيجة التفاعلات الجوية، والمقدمات الطبيعيّة، وعالم النجوم والافلاك قائم في ظل قاعدة الجذب والدفع المسماة بقانون الجاذبية، والانسان والحيوان يواصلان حياتهما في نطاق آلاف القوانين الطبيعية التي تضمن لهما البقاء والاستمرارية، كما أن الأشجار والنباتات هي الأخرى مستمرة في حياتها وفعالياتها يفعل النواميس الحاكمة في عالم النبات.
وبكلمة واحدة فان كل ما يطرأ في صفحة هذه الطبيعة من حوادث وظواهر مادية دقيقة كانت او جليلة مدين في وجوده وبقائه للعلل مادية في عالم الطبيعة، وهذا هو ما نقصده من «النظام السائد في الكون».
والالهى لا يقصد من اثباته لوجود الله انكار هذا النظام، وتجاهل هذه العلل والاسباب الطبيعية، وادعاء ان الله يقوم بكل ما يقع في عالم الطبيعة بصورة مباشرة دون توسط الاسباب والعلل الطبيعية المادية، وكأنه يريد أن يجعل «الله» مكان العمل الطبيعية، كلا فهذا أمر لا يدعيه الالهيون ابدا وما رمي به الالهي في بعض كتب الماديين فرية محضة.
فليس هناك اي الهي يؤمن بالكتاب العزيز ويعترف بالعقل يتنكر للعلل الطبيعية وينفي تأثير العلل ودور الأسباب المادية في ظهور الظواهر الكونية، بل الالهيون ـ قديماً وحديثاً ـ مجمعون على تأثير هذه العلل، وظهور الحوادث الطبيعية والظواهر الكونية عقيب عللها المناسبة وأسبابها الخاصة.
ان للقارئ ان يقف بنفسه على مدى اعتراف الالهيين وتمسكهم ـ قديماً وحديثاً ـ بقانون الاسباب والمسببّات وبنظام العلل والمعلولات الطبيعية السائدة على هذا الكون، وذلك اذا لاحظ:
(اولا) القران الكريم الذي يزخر بالحديث عن الأسباب المادية والعلل الطبيعية في هذا العالم مثل قوله تعالی:
أ ـ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ (النور ـ 43).
ب ـ ﴿اللَّـهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (الروم ـ 48).
جـ ـ ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد ـ 4)
فاننا نجد في هذه الآيات كيف ينسب القرآن الظواهر الطبيعية إلى العلل الطبيعية والاسباب المادية، ويقرر تاثيرها في معلولاتها، وهو تصريح لا غموض فيه بنظام الاسباب والمسببّات.
(وثانیا): ما درج عليه الفلاسفة الالهيون، منذ أقدم العصور، من تقديم بحوث مفصلة ومطولة في الطبيعيات تشمل بحوثاً في علم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلم النبات وعلم الرياضيات ثم اتباعها ببحوث في الالهيات فانهم كانوا يجعلون القسم الأول من مؤلفاتهم الفلسفية في «الطبيعة» والقسم الثاني في «ما بعد الطبيعة» كما فعل ارسطو ومن جاء بعده، وهذا هو خير دليل على عناية الإلهيين بالطبيعة، واعترافهم بقوانينها، وسننها، ونظام الاسباب والمسببّات السائد فيها.
هذه هي النقطة المشتركة بين الالهيين والماديين واما نقطة الافتراق فهي أن الالهي يسند هذا النظام (اي نظام الأسباب والمسبّبات المادية الطبيعية) في نشوئه بقائه إلى خالق، حكیم، قدير، أوجد هذه السنن والقوانين بقدرته المطلقة وبعلمه الواسع الذي نعبر عنه بالمحاسبة الدقيقة، بينما يسندها المادي الى الصدفة. أو يدعي بان انفجارات المادة غير المتناهية هي التي أدت إلى ظهور وتكون هذه النظم، وكان هذا هو ما عليه الماديون في سالف الزمان.
بيد أنهم ـ لتهافت هذه الفرضية أمام الأدلة القاطعة ـ انتقلوا إلى فرضية أخرى هي فرضية «خاصية المادة» وتعني ان هذه الأنظمة والقوانين هي من خصائص المادة أي أن المادة بطبعها تقتضي هذا النظام، وان هذا النظام هو خاصية هذا العالم المادي، وهي نظرية مرفوضة وستعرف بطلانها في البحوث القادمة.
هذا كله عن الأمر الأول وهو بيان نقاط الاشتراك والتمايز والالتقاء والافتراق بين الالهي والمادي.
الثاني: بماذا ميز فعل الصدفة عن فعل الفاعل الحكيم... سيكون الموضوع القادم..
اضف تعليق