هناك علة أخرى لتكون ونشوء العقيدة الدينية، ووجود ظاهرة الايمان بالله على امتداد الحياة البشرية الا وهي «الفطرة الالهية» المغروسة في اعماق كل انسان. لقد فسر الالهيون ظاهرة التدين التي لازمت الانسان ابداً، حسبما تشهد بذلك الاثار والحفريات، بأنها من مقتضى الفطرة الانسانية التي خلق الانسان وجبل عليها...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
5 ـ نظرية توارث العقيدة
ذهب جماعة ـ ممن لم يرتضوا النظريات السابقة ـ الى نظرية جديدة في تفسير وجود العقيدة الدينية في الحياة البشرية ملخصها: أن العقيدة الدينية أمر فكري ورثته الاجيال اللاحقة من الأجيال السابقة حتى وصلت الى عصرنا الحاضر، وبهذا أراح أصحاب هذه النظرية أنفسهم، وظنوا بأنهم اهتدوا الى تحليل سليم في هذا المجال.
والجواب: أن هذه النظرية كسابقاتها ـ في غاية الضعف والبطلان لوجوه نذكرها فيما يلي:
أولا: أن غاية ما تفيده، وتثبته هذه النظرية ـ على فرض صحتها ـ هو أنّ علة انتقال العقيدة من الأجيال السابقة إلى اللاحقة، وتواجدها في جميع العصور هو «التوارث الفكري» وهو أمر آخر لا يرتبط ببحثنا الحاضر المنعقد حول تفسیر «نشوء العقيدة الدينية» أساساً.
فما ذكروه يعلل وجود العقيدة الدينية في الأجيال المتلاحقة، لا نشوء العقيدة ابتداءاً. اذن فصاحب هذه النظرية لم يأت بشيء جديد في هذا المجال.
ثانياً: ان سريان العقيدة الدينية وسيادتها في جميع أبناء البشر وفي جميع الأجيال يكشف عن ان العقيدة الدينية من الامور الملازمة للروح والفكر البشري بحيث لا يعقل انفكاكها عنهما، فهي تماماً مثل الاكل والشرب والملبس وغيرها من الفعاليات والحاجات الجسدية التي لا تفارق البشر ولا تنفك عنهم.
ومثل هذا الحضور الدائم للعقيدة الدينية في الفكر البشري والحياة العقلية الانسانية منذ العصر الحجري والى عصر الفضاء هذا يكشف عن واقعية هذا الامر اذ لا يمكن ان يكون لشيء ما مثل ذلك الحضور الشامل لولا كونه كذلك.
القرآن ونظرية توارث العقيدة
قد عرفت ان صاحب هذه النظرية يعتبر الاعتقاد بالله امراً خرافياً ورثته الأجيال اللاحقة من السابقة.
وقد عرفت ـ في ما مضی ـ ان هذه النظرية ـ مضافاً الى وهنها وضعفها ـ لا تفي حتى بنفس مقصود القائل فان البحث ـ في المقام ـ انما هو في التعرف على علة نشوء العقيدة الدينية اساساً، وهو بعد لم يأت بشيء ذي بال في هذا المجال.
غير اننا اذا رجعنا إلى القرآن لرأينا أن الأنبياء الذين كانوا في الرعيل الأول من الدعاة إلى الله يصرون اشد الاصرار على انه ليس لبشر عاقل ان يقتص آثار الأمم السالفة من دون تمحيص لها أو تحقيق، ومن دون أن تكون مقرونة بالدليل والبرهان اذ يقول:
﴿وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الزخرف ـ 23 ـ 24) (1)
والعجب من قائل هذه النظرية أن يكرر نفس المقالة ويعتبر الدعوة الى الله دعوة خرافية أخذت من الاسلاف مع أن بعض معارضي دعوات الانبياء ـ في عهود الجاهلية ـ كانوا يتفوهون بهذا الكلام، ويعدون دعوة الانبياء من قبيل الاساطير. قال سبحانه:
﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا ۙ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (الانفال ـ 31)
على ان الانبياء كانوا كلما باشروا بالدعوة قرنوا نداءاتهم واقوالهم بالأدلة واصروا على أن ما يقولونه مشفوع بالبينات التي هي الدلائل الساطعة على صدق مقالهم، وصحة ادعائهم فكيف والحال هذه يصح أن توصف دعوتهم الى الله بأنها قضية وراثية وان ما كانوا يدعون اليه كان من الخرافات والأساطير التي لا يدعمها دليل؟
قال سبحانه:
﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّـهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ (هود 62 ـ 63)
6 ـ التدين وليد الفطرة الانسانية
لقد تبين لك فيما مضى ضعف الوجوه التي فسر بها الماديون ظاهرة العقيدة الدينية وعللوا بها نشوء الاعتقاد بالله، وبما وراء الطبيعة.
ثم ان هناك علة أخرى لتكون ونشوء العقيدة الدينية، ووجود ظاهرة الايمان بالله على امتداد الحياة البشرية الا وهي «الفطرة الالهية» المغروسة في اعماق كل انسان.
ويتضح هذا الأمر اذا عرفنا ان افعال الانسان تتنوع الى انواع عديدة:
1 ـ الافعال الاكتسابية وهي التي يأخذها الانسان عن طريق التعلم، سواء اصبحت عدد من المخدرات كالتدخين، وشرب الشاي، أو غير عادية كالكتابة والخياطة والرعي.
2 ـ الافعال الطبيعية التي تكون من قبيل ردود الفعل كانقباض العين عند سقوط النور عليها وسحب الانسان رجله عند وخزها بابرة أو ما شاكل ذلك.
3 ـ الأفعال الغريزية التابعة من الطبيعية المشتركة بين الحيوان والانسان كالرغبة الى الجنس الاخر، وكنسج العنكبوت لبيته، وهجرة الطيور من قطر الى قطر، وحنان الأم على ولدها، واجتناب الخطر، والفحص عن علل الحوادث وغير ذلك.
فكل هذه امور غريزية نابعة من الطبيعة المشتركة بين النوعين (الحيوان والانسان).
4 ـ الامور الفطرية التي فطر عليها الانسان فهي تولد معه، وتتكامل وتنمو بصورة تدريجية، وذلك مثل حبه للعلم والكمال، وميله الى الفن والجمال وانجذابه الى قيم الأخلاق ومحاسن الخصال.
فالأقسام الثلاثة الأخيرة تشترك في انها جميعاً تابعة من عمق الجبلة البشرية وناهضة من ثناياها، وان كان بيتها قررت من جهة أو جهات.
فالأفعال التي تدخل في خانة «ردود الفعل» تتحقق من دون علم صاحبها بخلاف النوعين الأخيرين فهما يصدران عن صاحبهما عن وعي وعلم.
أما الثالث (وهي الامور الغريزية) فهي تصدر عن الحيوان عن علم ووعي غير انها تسحر الحيوان وتسيطر على جميع تصرفاته حتى انه لا يجد من هيمنتها وتسخيره مخلصاً.
فان نسج العنكبوت لبيته، أو صنع النحل للبيوت المسدسة، أو الحركات الجنسية الصادرة عن الحيوان كلها أمور تقتضيها طبيعة الحيوان، وجميعها تصدر عنه بعلم ووعي لكن من دون حرية واختيار.
وهذا بعكس الانسان ـ فهو بخلاف الحيوان ـ فانه قادر على تنفيذ غرائزه والسماح بظهور آثارها في حياته عن حرية واختيار أو عدم السماح لها بذلك فهو ليس مسخراً لها ولا محكوماً بحكوماتها القاهرة كما هو الحال في الحيوان بل هو بما جبل عليه من الحرية والاختيار هو الذي يقود الغرائز ويوجهها الى ما هو انسب لشأنه وحاله.
وأما الامر الرابع: وهو الامور الفطرية التي جبل عليها الانسان فتعمل وتصدر آثارها عنه بوعي واختيار.
فحب الاستطلاع ـ مثلا ـ وان كان له جذور ضاربة في اعماق الفطرة الانسانية الا ان للإنسان ان يحد منه فيبقى في ظلمة الجهل ولا ينساق وراء رغبته في تحصيل المعرفة والاطلاع.
ثم ان ملازمة هذه الأمور ومبادئها للكينونة الانسانية تبلغ حداً لو سلبت عن الانسان لارتفعت الانسانية برمتها أو ارتفعت الحصة العظيمة منها وكأنها مقوماتها، ودعائم ذاتها.
وبعبارة أخرى انها من الملازمة بحيث يقتضي فرض عدمها فرض عدم الانسانية، او عدم حصة منها فكأن هذه الامور تشكل قسطاً كبيراً من انسانية الانسان.
اذا تبين هذا نقول: لقد فسر الالهيون ظاهرة التدين التي لازمت الانسان ابداً، حسبما تشهد بذلك الاثار والحفريات، بأنها من مقتضى الفطرة الانسانية التي خلق الانسان وجبل عليها، حتى كأن العقيدة الدينية هي التوأم الذي يولد مع الانسان.
وعلى هذا الأساس يكون قد تطابق الفكر الانساني مع مقتضى الفطرة البشرية.
فان طبيعة الانسان تجره الى الاعتقاد بالله سبحانه، وتدفعه الى التدين له وعبادته، بينما يستدل جهازه الفكري والعقلي على وجود تلك «القوة العليا» بالأدلة والبراهين، فيتطابق مقتضى الفطرة ومقتضى العقل، وتشكل الفطرة والعقل جناحين يطير بهما الانسان نحو الكمال.
وهذا الوجه ـ لو ثبت وهو لا شك ثابت كما ستعرف عند استدلالنا عليه في المبحث القادم ـ اتقن ما يمكن أن تفسر به ظاهرة العقيدة الدينية من دون ان يرد عليه أي واحد من الاشكالات الماضية الواردة على التعليلات والتفسيرات التي سبقت.
فكيف يصح أن تفسّر «ظاهرة التدين» بعامل الخوف مع ان تقدم العلوم قد أذهب الخوف عن النفوس؟
أم كيف تعلل هذه الظاهرة بانها وليدة التضليل الاستعماري والاستغلالي مع ان البشر رغم وقوفه على حيل المستعمرين واساليب المستغلين لا يزال متمسكا بالعقيدة الدينية ساعيا وراء ندائها وآخذا بتعاليمها؟
كيف يصح تفسير ظاهرة الاعتقاد بالله والاخرة بعامل الخوف، وقد كان الانبياء الذين ضربوا أروع الأمثلة في حب الله، يمثلون أعلى مظاهر الشجاعة والبسالة، ولم يكونوا جبناء ولا ضعفاء؟
كيف يصح ذلك والشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الله، واعزاز دينه أقدموا على ذلك بشجاعة لا تقبل الشك؟
ان تركیز قوى الاستعمار والاستغلال الكبرى جهودها للقضاء على الدين ومحو اثاره وملامحه في المجتمعات البشرية في مختلف الاعصار، والتوسل لذلك بكل حيلة ووسيلة، وفشلهم في هذا السبيل خير دليل على تجذر هذه الظاهرة في اعماق الفطرة الانسانية وملازمة غريزة التدين للنفس البشرية دون انفكاك.
وبالمناسبة يجب أن نعرف أن ظهور الالحاد لدى بعض الرجال السياسيين لا يدل على عدم كون هذه الظاهرة أمراً فطرياً اذ لا يجب أن تظهر آثار الامر الفطري في جميع الموارد والاحوال، كيف والميول الجنسية رغم كونها من اظهر الأمور الفطرية قد يخبو أوارها ـ احیاناً ـ عندما يكبح الانسان جماحها أو يقمعها بالمرة أو يكاد.
كما ان «حب الاستطلاع» هو الاخر رغم كونه أمراً فطرياً قد يختفي لدى البعض عندما ينصرفون الى الغرائز الاخرى انصرافاً كلياً ويتمادون في أعمالها اكثر من الحد الطبيعي فلا يبقى مجال الاظهار غريزة حب الاستطلاع.
نعم إن الفطرة البشرية هي مبدأ ظهور التدين في المجمعات البشرية وانجذابها الى ما وراء الطبيعة، ولكن التدين هذا يتكامل بفضل البراهين العقلية والادراكات الصحيحة المنطقية، ولأجل ذلك يكون التدين وليد الخطرة والعقل معاً، وهذا ما يتبنى هذا الكتاب اثباته، وسيوافيك كلا الأمرين في الفصول القادمة.
ملخص ما سبق
تلخص من البحث السابق امور:
١ ـ ان هناك مسألتين ـ في مجال العقيدة ـ اهتم بهما علماء النفس والاجتماع والتاريخ مؤخراً وهما: البحث عن عوامل نشوء العقيدة الدينية، والبحث عن آثارها في الحياة البشرية.
2 ـ ان الماديين لما نظروا الى ظاهرة التدين بمنظار مادي بحت ودرسوها بأفكار مسبقة ومضادة حول الدين كاعتباره اعتقاداً بأمر موهوم نحتوا لوجودها في حياة البشرية عللا طارئة، واختلقوا لها نظریات بعيدة عن الواقع.
٣ ـ ان الماركسيين رغم محاربتهم للعقيدة، واصرارهم على عدم حاجة البشر اليها لم يتحرروا من تقديس مبادئهم بعد اعتناقها والاعتقاد بها، كما يفعل المتدينون.
4 ـ ان الاغلبية الساحقة من البشر مؤمنون يعتقدون بما وراء هذا الوجود المادي على اختلاف مشاربهم ومسالكهم وليس هناك سوى قلة قليلة ـ بالقياس إلى تلك الكثرة الغالبة ـ لا تؤمن بالله لأغراض سياسية، أو اخلاقية، أو نفسية.
5 ـ أن الضابطة الصحيحة والمعقولة في تفسير الظواهر الاجتماعية هو
تقسيم الأمور الى ما له جذور في اعماق الفطرة أو مبررات وجيهة في منطق العقل فلا يجوز نحت الاسباب لظهوره ووجوده، والى ما هو عارض على حياة الانسان لأسباب طارئة فيجوز تحت الأسباب له. والأول مثل ظاهرة الزواج وجمع المال، والثاني مثل الاعتقاد بنحوسة الرقم 13 ونعيب الغراب.
6 ـ الفطرة البشرية السليمة، والرابطة العقلية المنطقية بين مشاهدة النظام الكوني والاعتقاد بالخالق، يثبتان بان التدين والايمان بالله، من النوع الأول فلا يصح نحت الاسباب لنشوئه في حياة البشر.
7 ـ ان تفسير نشوء العقيدة بنظرية الخوف البشري من الحوادث الطبيعية مرفوض:
أولا: لانها تتجاهل فطرية الاعتقاد بالخالق، ومنطقيته كما مر.
ثانياً: لان هذه النظرية لا تستند إلى أية أدلة موجهة بل هي ضرب من الخيال، والافتراض، والتخمين.
ثالثاً: لانها تعجز عن تفسير ايمان العباقرة والعلماء والمخترعين والمكتشفين بالله، وهم ممن استطاعوا التغلب على اكثر المخاوف.
8 ـ ان العقيدة الدينية ومفاهيم الدين وان كانت تبعث على الطمأنينة الا ان هذا من آثار العقيدة لا من دوافع واسباب نشأتها، وليس من الصحيح أن نخلط بين اسباب النشوء والاثار المترتبة على الشيء.
9 ـ تفسير نشوء العقيدة الدينية بنظرية «الجهل البشري بالعلل الطبيعية للحوادث» مرفوض أيضاً:
أولا: لانها تتجاهل فطرية الايمان بالله وعقلانيته كسابقتها.
ثانياً: لانها تنم عن جهل اصحابها بمنطق الالهيين الذين يعتقدون بالعلل الطبيعية، والنظام العلى، ويعتبرونه دليلا على وجود خالق لمجموع ذلك النظام.
ثالثاً: انها تثبت بشكل غير مباشر بان البشر كان يعتقد دائماً بالعلية ولهذا اعتقد بوجود خالق للكون، وان اخطأ أحياناً في احلال الخالق محل بعض العلل الطبيعية، لو صح ذلك.
رابعاً: لان العقيدة الدينية موجودة حتى في المجتمعات المتحضرة العارفة بالعلل الطبيعية.
خامساً: لان الاعتقاد بالله لو كان مبعثه الخوف أو الجهل لكان الدواب والبهائم اولی بهذا الاعتقاد لعجزها الاشد وجهلها الأكبر.
فيتلخص من ذلك أن الجهل والخوف لو صح كونهما علة لنشوء العقيدة فهما من قبيل العلة البعيدة لا العلة القريبة بمعنى انهما هيئا للعقل فرصة ودافع التفكير في منشأ الكون وحوادثه ثم الاعتقاد بوجود خالق له. فالإيمان بالخالق وليد العقل لا الجهل ووليد الفطرة لا الخوف الساذج.
10 ـ ان تفسير نشوء العقيدة بالنظرية الاقتصادية الماركسية التي تقول بأن الدين ردة فعل للأوضاع والعلاقات الاقتصادية وأنها استغلت لتحرير الشعوب هي الأخرى مردودة.
اولا: لان ذلك يتعارض مع أصالة التدين وفطريته وعقلانيته فليس تابعاً للتغيرات الحاصلة في وسائل الانتاج.
ثانياً: أن استغلال الدين من قبل بعض الوصوليين من الحكام والكهنة شيء واصالة الدين والتدين شيء آخر.
ثالثاً: ان هذه النظرية ان صحت فانما تصح بالنسبة إلى الأديان المحرفة التي طرأ عليها التحريف لصالح طبقة معينة ولا تصح بالنسبة الى الاسلام النقي في اصوله وفروعه وتعاليمه وبرامجه الانسانية العادلة من اي تحريف.
رابعاً: ان التدين الصحيح خير عامل للتقدم العلمي، وخير دعامة للاخلاق وخير عامل للتحرك والاستقامة وخیر باعث على التقيد بالنظام والقانون وخیر رادع عن الجريمة.
خامساً: أن العقيدة الدينية كانت يوم لم يكن ـ في فجر التاريخ البشري ـ اي طبقيات.
سادساً: ان جعل الفكر والدين من توابع التغيرات الاقتصادية ينفي صحة هذه النظرية الماركسية نفسها لانها بذلك يمكن اعتبارها من ولائد ظرف اقتصادي خاص فلا تكون صحيحة على اطلاقها.
سابعاً: ان الاقتصاد ليس محوراً وان كان أمراً مهماً، فطغيانه على بقية الأمور لا يلغي اصالة التدين كما أن طغيان بعض الغرائز لا يعني نفي الغرائز الأخرى بالمرة.
ثامناً: أن العامل الاقتصادي ليس هو المحرك الوحيد للتاريخ فهناك الغرائز وهناك الشخصيات المصلحة، وهناك الافكار الاجتماعية مثل فكرة القومية.
تاسعاً: ان انتشار التدين بين الطبقات المحرومة يكشف عن انه كان مقبولا عقلياً لديهم والا فكيف اعتنقوا ما كان يتوسل به المستغلون للإضرار بهم.
عاشراً: ان التدين لم يختص بالفقراء والمحرومين فما اكثر المتدینین بين الأثرياء وما أكثر تضحياتهم بالنفس والنفيس في سبيل العقيدة الدينية.
حادي عشر: ان انتعاش الحالة الاقتصادية للمحرومين لم يلازم انحسار العقيدة الدينية عن حياتهم دائماً كما ادعى الماركسيون، والحضارة الاسلامية واليونانية خير شاهد على ازدهار هما معاً في آن واحد.
ثاني عشر: ان كثيراً من الدعاة إلى الدين كانوا يدعون الى مقارعة الظالمين والمستغلين، ويناهضون كل غاصب لأموال الناس هاضم لحقوقهم سارق لجهودهم.
11 ـ ان نظرية «توارث العقيدة» لم تأت بشيء جديد ولم تفسر منشأ العقيدة بل بررت وجوده في جميع العصور.
12 ـ إن نظرية فرويد التي تقول بأن الاعتقاد بقوة وراء هذا الكون هي استمرار لحالة طفولية كانت تفرض على الانسان مذ كان طفلا أن يلتمس ملجأ وكهفا هي أيضاً مرفوضة لأنها تعجز عن تفسیر ایمان الفلاسفة العظام والعباقرة الكبار والمجتمعات المتحضرة الواعية بالله سبحانه كما انها قد تستقي جذورها من عقد نفسية كان يعاني منها فرويد تجاه والده، وربما يكون قد تأثر بالعقيدة المسيحية المحرّفة التي تعتقد ببنوة المسيح عليه السلام.
13 ـ فنستنتج من كل ذلك أن هذه النظريات كلها مؤسسة على التخمين وانها لم يذهب اصحابها اليها الا بعد أن افترضوا وهمية العقيدة الدينية واعتبروا ذلك أمراً مسلماً ولذلك اضطروا او عمدوا إلى اختلاق الاسباب وافتراض العلل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لظهورها ونشوئها في الحياة البشرية.
14 ـ كما نستنتج أن العقيدة حقيقة واقعة في حياة البشرية لها في فطرته جذور وفي عقله مبررات منطقية، وفي حياته اثار ايجابية في غاية الأهمية والحيوية.
اضف تعليق