هناك شخصيات بارزة في التاريخ الغابر وكذا في العصر الحاضر يعتقدون بالله سبحانه، ويعبدونه لكونه المثل الأعلى للكمال والجمال، وغير ذلك من الصفات العليا لا لكونه يقوم مقام الأب في ازالة الخوف عنهم، وتوفير الحماية اللازمة لهم. وقد مرت بعض النصوص المنقولة عنهم والتي تؤيد هذه الحقيقة...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
4 ـ العقيدة الدينية ظاهرة طفولية
ثم ان ثمت نظرية أخرى لا يليق أن نذكرها في عداد النظريات لتفاهتها وسخافتها الفاضحة، وهي: ان الانسان يوم كان طفلا كان يحس بالحاجة الشديدة الى الحماية تجاه الأخطار المحيطة به بسبب ضعفه وعجزه، فكان يجد هذه الحماية عند امه، ولما أدرك تفوق الاب لجأ اليه، ولما أحس بعجز أبيه أيضاً تجاه الأخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر قدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يحلّه محلّ أبيه، وهكذا نشأت عنده فكرة الاله.
والمجتمع وان تخلص اليوم عن بعض ما يعلق بضمير الطفل من الحاجة في اللجوء الى الأم أو الأب حيث انه قد بلغ مرتبة كبيرة من البلوغ العقلي والفكري الّا ان اعتقاده بالله استمر لاستمرار الحالة الطفولية التي كانت تعلق بضمير المجتمعات الغابرة التي كانت من حيث العقل والقهم بمنزلة الطفل.
وخلاصة القول: أن عقيدة الانسان بالله في الاجتماعات البدائية ماهي الّا استمرار لعقيدة الطفل بالحاجة الى حضن الام، وكنف الاب وحمايتهما، فهذه العقيدة أو الحالة الطفولية هي التي أوجدت في عقله فكرة الاله القائم مقام الاب.
والجواب عن هذه النظرية هو انه ـ مضافاً الى ما ذكرناه من الأجوبة المشتركة عن النظريات الاخر في هذا المورد ـ يرد عليه:
أولا: أن صاحب هذا التحليل خلط بين «الدافع» والنتيجة المتحصلة من ذلك الدافع من حيث القيمة، كما ألمحنا الى ذلك في ما سبق.
فلو اننا فرضنا صحة هذا التحليل ـ ولن يصح أبداً ـ وارتضينا ما يقول من أن الحالة الطفولية هي التي دفعت البشر الى اتخاذ العقيدة الدينية، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية العقيدة الدينية وان كان الدافع اليها أمراً تافهاً، وذلك لما قلنا من أن الدافع وما یندفع اليه ليسا سواء ولا متحدين في القيمة.
فربما يكون الدافع أمراً تافهاً، ولكنه يدفع الانسان الى امر ذي بال، كما لو دفعت الحرب الى اختراع اجهزة مفيدة، أو دفعت غريزة طلب الجاه أو الشهرة أو الثروة الى ابتداع مكتشفات نافعة.
ثانياً: انه يرد عليه ما نبهنا اليه أكثر من مرّة وهو أن هذه النظرية وسابقاتها من قبيل التحليل القائم على أمر غير ثابت أبداً، بل مما ثبت خلافه، وهو ان «العقيدة الدينية أمر موهوم لا علة له من فطرة أو عقل» ولما كانت العقيدة عندهم أمرا موهوماً أخذ يشرّق أصحاب هذه النظريات ويغربون، ويحاولون أن ينحتوا لنشوء هذا الأمر الموهوم علة، وهم يرون بان نشوء العقيدة الدينية من قبيل الاعتقاد بنحوسة العدد 13، ونهيب الغراب، وما شاكل ذلك.
ولكن وصف «العقيدة الدينية» بذلك وجعلها في عداد الاوهام والخرافات من أسوء المواقف تجاه الحقائق، فان العقيدة الدينية علة فطرية، وأخری منطقية، ولهذا لا مجال لنحت الفرضيات لتفسير جودها ونشوئها والسماح للخيال بابتداع التبريرات والعلل.
ثالثاً: ان هذا التحليل سيف ذو حدّين لأن الظاهر منه هو أن صاحبه يعبد عقائد الناس الى العقد الروحية التي تعلق بالنفس الإنسانية في فترات من عمر الانسان.
فلو صحّ ذلك فلماذا لا تصحّ هذه النظرية بالنسبة الى نفس هذه العقيدة التي اختارها المحلل تجاه الدين ومفاهيمه، حيث قال ان العقيدة الدينية ترجع في ابتدائها الى عقدة روحية، ولماذا لا يكون الحاد هذا المحلل (وهو فروید) وخصومته مع الله سبحانه راجع الى عقدة روحية اصيب بها في فترة معينة من فترات عمره، خاصة وانه قد نقل عنه بانه كان متعلقاً بمربية له في طفولته، وكان يذهب معها إلى الكنيسة، ولما طرد والده تلك المربية من منزلهم بتهمة السرقة نشأت لدى فرويد عقدة تجاه أبيه الذي حرمه من تلك المربية فصار خصماً لوالده منذ ذلك الوقت.
فلماذا لا تكون خصومته لله امتداداً لخصومته لوالده؟
أضف إلى ذلك أن هذا المحلل لم يمكنه أن يتحرر من رواسب العقائد المسيحية المحرفة التي علقت بضميره منذ كان طفلا يتردد على الكنائس، فان تنزيل الاله منزلة الأب والتعبير عن خالق الكون بالأب فكرة مسيحية، تستقي جذورها من العقائد المسرحية المحرفة.
والناظر في أمثال هذه التحليلات لا يشك في ان كل واحد من المحللين
قد نظر الى العقيدة السائدة في عصره وبيئته فجعلها مقياساً لتحليله، ومعياراً لتقييمه.
ولم يكن أولئك المحللون ذوي خبرة والمام بالشرائع والعقائد، السماوية حتى يميزوا المحرّف عن غيره والصحيح عن السقيم، كما عرفت.
رابعاً: ان هناك شخصيات بارزة في التاريخ الغابر وكذا في العصر الحاضر يعتقدون بالله سبحانه، ويعبدونه لكونه المثل الأعلى للكمال والجمال، وغير ذلك من الصفات العليا لا لكونه يقوم مقام الأب في ازالة الخوف عنهم، وتوفير الحماية اللازمة لهم.
وقد مرت بعض النصوص المنقولة عنهم والتي تؤيد هذه الحقيقة، بصراحة لا غموض فيها، فراجعها.
القرآن ونظرية استمرار الحالة الطفولية
لقد وقفت على اجمال هذه النظريّة وكيف أن «فرويد» ادعى أن الحالة الطفولية لدى الانسان والتي تتطلب له أباً رؤوفاً يأوي اليه عند الأهوال هي التي جرته إلى أن يخترع فكرة الاله ليقيمه مقام الأب الحامي له في فترة الطفولة حتى تحصل له الطمأنينة ويتوفر له الاستقرار النفسي.
كما قد عرفت ـ أيضاً ـ ما يرد على هذه النظرية من النقد الهادم لأسسها. وها نحن بعد ذلك كله نكرس نظرية القرآن الكريم في هذا المقام فنقول:
أن القرآن الكريم يجعل الطمأنينة أثراً من الاثار الطبيعية لذكر الله سبحانه اذ يقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد ـ 28)
كما انه يصف الله سبحانه بأنه منزّل السكينة في قلوب المؤمنين به اذ يقول:
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الفتح ـ 4)
غير انّ الفرق بين النظرية التي طرحها فرويد وهذا الأمر واضح لا يخفى على المتأمل البصير، فان ذلك العالم النفساني جعل تحصيل الاطمئنان والاستقرار والسكينة علة موجدة، وسبباً باعثاً على ايجاد «فكرة الاله».
وأما القرآن فهو يجعل حصول كل هذه الأمور من نتائج ذكره سبحانه، ومن آثار التوجه الله تعالى.
وأما الانتباه الى وجوده سبحانه فهو امّا من طريق الفطرة أو من طريق البرهان ليس الا.
ثم أن القرآن يشدد النكير على كل من يصف الله سبحانه بالأبوة كما تفعل النصارى الذين يعدونه أباً، وينزلونه منزلة الوالد فيقول:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشوری ـ 11)
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الصافات ـ 18۰)
ولا شك أن فرويد قد تأثر في تقييمه لمسألة العقيدة الدينية بالفكرة المسيحية حول الله وهي فكرة الابوّة والبنوّة الالهية التي يستنكرها القرآن ويشجبها بشدة ويهاجمها بعنف اذ يقول:
﴿مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (1) (مریم ـ 35)
اضف تعليق