الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تعطل فسيتعرض المجتمع كله للتصدّع والدمار، كما هو الحال في عمود الخيمة عندما ينكسر أو يتحطم، فمن المؤكد أن تنهار عندئذٍ الخيمة، فهذه هي نقطة البداية في صلاح المجتمع، كما أن المفتاح لفساد المجتمع في الاتجاه المقابل، هو ترك الأمر بالمعروف...
إن (الأمر بالمعروف) و(النهي عن المنكر)، فرعان من أهم فروع الدين، وبهما قوام الدين، حيث يقول الإمام الحسين (عليه السلام) عن هذه الفريضة:
(اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلَى الْأَحْبَارِ إِذْ يَقُولُ: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِـهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)(1))(2).
ويقول (عليه السلام): (وَقَالَ: (الْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ)(3). فَبَدَأَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْـمُنْكَرِ فَرِيضَةً مِنْهُ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا إِذَا أُدِّيَتْ وَأُقِيمَتِ اسْتَقَامَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، هَيِّنُهَا وَصَعْبُهَا)(4).
وهنا حقائق ودقائق في كلام الإمام الحسين (عليه السلام):
1: على كافة الناس الاعتبار
الحقيقة الأولى: بدأ الإمام (عليه السلام) حديثه بتوجيه الخطاب للناس، إذ قال: (اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ...)، فالإمام يخاطب (الناس)، وليس فئة أو فصيلاً من الناس، كما نجده في الآية القرآنية الكريمة: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)(5)، ولم يقل الإمام الحسين (عليه السلام): اعتبروا يا أولي الأبصار، أو يا أولي الألباب، إنما قال: (اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ...).
و(الناس) لفظ عام، يشمل الرجل والمرأة، المثقف والجاهل، العالم والمفكر، فهو يشمل مختلف أصناف المجتمع بشتى فئاتهم ومستوياتهم؛ وذلك لأن ما أُمِروا بالاعتبار به شيء عام. وهذا يؤكد ويدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة، وعلى الجميع أداء الفريضتين.
ولذا صار الخطاب لكل الناس، فحتى الإنسان الجاهل مأمور بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لأن العلم والجهل غير مأخوذين في متعلَّق الأمر والنهي على ما حقق في الأصول، وإلا للزم تقدم الشيء على نفسه.
وربما يمكن القول: إن الخطاب موجه لكل البشرية، ليس للمسلمين فحسب، أي حتى الكفار والمشركين والمجوس والنصارى واليهود والوثنيين وجميع أصحاب الديانات معنيون بهذا الخطاب؛ لأنهم مكلفون بالفروع، كما هم مكلفون بالأصول.
ولأن المحتوى عام، والمصلحة والمفسدة عامة غير قائمة بأمر بعينه، والناتج من ذلك كله أنه إذا أقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مجتمع، فسوف يستقيم أمره، وتزدهر شؤونه وتعمه البركات، وإلا فسوف ينتشر الفساد المالي، والانحلال الخلقي، وتسود الجريمة، وسيكون مصير ذلك المجتمع الانهيار والدمار والخراب.
2: (اعتبروا) أمر دال على الوجوب
الحقيقة الثانية: إن لفظة (اعتبروا) أمرٌ، والأمر يدل على الوجوب، فهذا الاعتبار واجب، بغض النظر عن كونه واجباً طريقياً أو موضوعياً، لكن لا شك في وجوبه من جهة مقدميته الموصلة، إذ عندنا (مقدمة موصلة)، و(مقدمة غير موصلة)، ولكن هذا الاعتبار عادةً يكون بنحو المقدمة الموصلة بإذن الله سبحانه وتعالى.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما المفتاح
وهنا نقتطف من كلامه (عليه السلام) باقات عطرة، حيث يقول: (فَبَدَأَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْـمُنْكَرِ فَرِيضَةً مِنْهُ).
ونتوقف عند كلمة (فَبَدَأَ) قليلاً، فماذا يريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يلفتنا إليه، عندما يستخدم هذه المفردة وما تلاها من مدخولها؟.
إنه يريد أن يقول: إن الأمر بالمعروف هو (المفتاح)، وهو (عمود الخيمة)، وهو (بمنزلة القلب)، فإذا توقف القلب عن العمل، توقف وانهار البدن بأجمعه.
فكذلك الحال بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، فإذا تعطل فسيتعرض المجتمع كله للتصدّع والدمار، كما هو الحال في عمود الخيمة عندما ينكسر أو يتحطم، فمن المؤكد أن تنهار عندئذٍ الخيمة، بل إنه (عليه السلام) يصرح بذلك بقوله: (لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا إِذَا أُدِّيَتْ وَأُقِيمَتِ اسْتَقَامَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، هَيِّنُهَا وَصَعْبُهَا).
(فَبَدَأَ) فهذه هي نقطة البداية في صلاح المجتمع، كما أن المفتاح لفساد المجتمع في الاتجاه المقابل، هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من هنا يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (فَبَدَأَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْـمُنْكَرِ)، أي في الآية الشريفة: (وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(6)، فإنه تعالى بدأ بـ (يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ) ثم قال (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).
وهذا يدلّنا على أن طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) أيضاً، مرهونة بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا سادت الفريضتان فإن الناس سيطيعون الله ورسوله، والعكس بالعكس، فإذا ساد الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف فلن يطيع الله ورسوله غالب الناس، ولن يلتزموا بالصلاة ولا الزكاة.
بل إنه كلما تراجع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت السيادة للجريمة والفساد المالي والخُلقي، كما تسود عندئذٍ الدكتاتورية والإرهاب والاستبداد.
لماذا الفساد المالي الكبير؟
وهنا نشير إلى إحصائيتين هامتين جداً عن بلد إسلامي وعربي، فحسب إحصاء رسمي:
بلغت حالات الرشوة والاختلاسات، وعمليات الغش والاحتيال، في الجهاز الحكومي وحده، وفي سنة واحدة فقط (365) ألف عملية احتيال وغش ورشوة واختلاس.
وهذا هو مقدار ما تمكنوا من مراقبته وإحصائه، وما خفي أعظم، والسبب الأساس في ذلك هو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه البلاد الإسلامية لم تقُم لهما قائمة.
والمراقب للوضع العام في عالم اليوم، يلمس بوضوح أنه لا وجود للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى العوائل، أم على مستوى التنظيمات والمجتمعات والنقابات والأحزاب والحكومة أيضاً، بل إن من يريد الاعتراض فإنه يتعرض للكبت والقمع والملاحقة والمطاردة.
لماذا استمر الاحتلال الإسرائيلي؟
والمثال الآخر فلسطين المحتلة، منذ عام 1967م وحتى الآن، بلغ عدد الذين أودعوا السجن من أهالي فلسطين المحتلة، على يد الكيان الصهيوني الغاصب والظالم ما نسبته 25% من الشعب الفلسطيني، فأي حكومة ظالمة مثل هذه الحكومة.
وهذا دليل على أن تراجع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى العالم الإسلامي، فسح المجال للصهاينة لكي يصولوا ويجولوا ويفعلوا ما يشاءوا، ولو أن المسلمين وقفوا بوجه الصهاينة بأجمعهم وقفة رجل واحد، لما كنت تجد لدولة إسرائيل عيناً ولا أثراً أبداً.
3: مقارنة بين الصلاة والأمر بالمعروف في حياة الناس
الحقيقة الثالثة: نستلهمها من كلمة (فَرِيضَةً مِنْهُ).
يأتي تأكيد الإمام الحسين (عليه السلام) على مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنه فريضة؛ لأن مجتمعاتنا عادةً تضع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الهامش، وتعده أمراً ثانوياً.
فإنه إذا لم يؤدِ شخص صلاة الفريضة، فسترى وجدانه يؤنبه، وتراه يعاتب نفسه، كما يعاتبه أهله إذا علموا بذلك. ولكنه إذا مرّ يوم ولم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر، فإنه لا يكترث، ولا يلومه أحد، بل لعله لا يعتبره أصلاً جزءاً من واجباته، بينما الآيات صريحة في هذا المجال: (وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ)(7).
وهنالك العديد من الآيات الآمرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن المشكلة في تهميش الناس في حياتهم العملية لها، وعدم أخذها على محمل الواجب والوظيفة بالأساس، في حين أنها واجبة كما الصلاة، وكما أن تارك الخمس والحج والزكاة يكون عاصياً.
كذلك إذا رأى الانسان معصية أو جريمة أو حالات استبداد وكتب للحريات، أو هتكاً لحرمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما حصل مع الروضة العسكرية في سامراء المشرّفة، أو مع البقيع الغرقد في المدينة المنورة، فإنه سوف يكون عاصياً وآثماً، إذا لم يأمر بالمعروف دائماً، ويأمر بالحرية وبالشورى وبالأخوة والوحدة الإسلامية وبالعدل والإحسان، وإذا لم يأمر بالمودة للقربى، امتثالاً للآية الكريمة: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْـمَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)(8).
وبذلك يتضح لنا سر من أسرار قول الإمام الحسين (عليه السلام): (فَبَدَأَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْـمُنْكَرِ فَرِيضَةً مِنْهُ).
كيفية استنباط الوجوب من الآية؟
هنا نطرح سؤالاً ظريفاً: ما هو الوجه في استنباط الإمام الحسين (عليه السلام)، كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة من هذه الآية القرآنية الكريمة؟.
الآية لم تذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، وليس فيها صيغة الأمر كما في آيات أخرى، مثل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(9).
فمن أين استنبط الإمام الوجوب؟!.
علماً أن الوجوب هو على القاعدة، لكن من هذه الآية كيف؟!.
يمكن أن يقال: إن الوجوب يستنبط من عدة جهات، وسنستعرض الآن جهتين:
1: لتعليق الحكم على الوصف
الجهة الأولى: هناك قاعدة تقول: (تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية)، بمعنى أنك إذا قلت: (أكرم العالم)، فالحكم هو أكرم، والعالم وصف لشخصٍ.
أي الشخص الموصوف بالعالمية وبالعلم، فعلقت الحكم وهو (أكرم) على الوصف وهو العالم، وهذا مشعر بالعلية. أي أن سبب إكرامه هو كونه عالماً.
إذن (أكرم العالم)، جرى فيه تعليق للحكم على الوصف وهو مشعر بالعلّية، أي مشعِرٌ بعلية الوصف الذي هو (العلم)، لهذا الحكم الذي هو (الإكرام)، أو إذا قلت: أكرم الكريم، أو إذا قلت: احترم أبناء رسول الله؛ فلأنهم أبناء رسول الله، فعليك أن تحترمهم.
ونظير هذا يمكن ملاحظته في الآية القرآنية الكريمة: (وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ)(10)، و(يأمرون) حكم وقد علّق على وصف وهو (المعروف): (يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ).
وإذا كان المعروف واجباً كان الأمر به واجباً، وإذا كان مستحباً كان الأمر به مستحباً. إن وصف كونه معروفاً واجباً مشعر بعلِّية هذا الوصف للحكم، وهو وجوب الأمر به.
وهناك وجه آخر محتمل، وهو أن (يَأْمُرُونَ) تُعد صفة للمؤمنين، أي أن المؤمن هو من يأمر بالمعروف فهو خبر نحوياً، لكنه صفة واعقياً، فإن (الْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ) مبتدأ، و(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) خبر، و(يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ) خبر بعد خبر.
إذن (الْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ... يَأْمُرُونَ) بمعنى أن هذه هي صفتهم، فإذا كانت هذه الصفة للمؤمنين، فإنه قد يُستظهر: إنه لو جُردت هذه الصفة منهم، أي جُرد هذا الخبر من هذا المبتدأ وهو (المؤمن)، فلو لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر أبداً، فهو ليس بمؤمن.
نعم ها هنا نوعان وقسمان، إذ: تارة المبتدأ والخبر، يكون حالهما بحيث إنه لو سُلب الخبر من المبتدأ، فإن درجات من صفة المبتدأ تسلب، وتارة أصل الصفة ستسلب عن المبتدأ. وذلك ما يعرف من مناسبات الحكم بالموضوع وغيرها.
مثلاً تارة تقول: (المؤمن يقر بوحدانية الله)، فهذا يعني أنك لو سلبت عن هذا الشخص الإقرار بوحدانية الله فهو ليس بمؤمن، إنما المؤمن هو المقر بوحدانية الله، فلو انتفى الخبر، أو لو انتفى المسند، انتفى المسند إليه.
وهذا يصدق على الآية:
(وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ)(11).
فإذا انتفى الأمر بالمعروف من حياة الشخص بقول مطلق، فلن يكون الإنسان مؤمناً، بمعنى أن أصل الإيمان سيكون معدوماً، وهذا دليل الوجوب؛ لان ما يتحقق به أصل الإيمان، يكون واجباً بلا ريب، فتأمل.
نعم، درجات الإيمان اللاحقة، مستحبة ومندوبة، لكن الدرجة الأولى، أو القاعدة الأرضية الصلبة الحقيقية، أو المرتبة الأولى من الإيمان فهي واجبة، فلو انتفت فإن الإنسان سيكون آثماً وليس بمؤمن، ولو من باب كاشفية الإهمال المطلق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن عدم إيمانه واقعاً. كما لو انتفى الإقرار بالله تعالى وبرسله الكرام، فإنه ينتفي إيمان الإنسان من الأصل ومن الجذور، فتأمل.
فإذن ليس من الصحيح أن ينكر الإنسان تلك الأسس الأولية التي هي الإقرار بالله، ووحدانيته، وعدله، وما أشبه.
وتارةً تقول: (المؤمن هو المتواضع)، فإنه حينئذٍ إذا انتفى التواضع انتفت درجة من درجات الإيمان.
2: للسياق
الوجه الثاني: هو أن السياق دليل أيضاً.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ)(12)، ولنفترض أننا لا نعلم أن الأمر والنهي واجب أم مستحب، فعندما ننظر إلى سياق الآية: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(13)، فإننا نجد هذه الثلاث واجبة، وقد جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياقها فهو واجب أيضاً.
والحديث طويل، نكتفي بهذه الإشارات.
الحقيقة الرابعة: الفرق بين الأداء والإقامة
يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (فَبَدَأَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْـمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْـمُنْكَرِ فَرِيضَةً مِنْهُ؛ لِعِلْمِهِ ـ أي لعلم الله ـ بِأَنَّهَا إِذَا أُدِّيَتْ وَأُقِيمَتِ اسْتَقَامَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، هَيِّنُهَا وَصَعْبُهَا)(14).
فإذا أُدِّي وأُقِيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أُدِّيت الفرائض كلها. وهنا توجد إضاءة دقيقة وهي أن (أُقِيم) لها معنى أعمق وأوسع من (أدى)؛ لأن (أدى) فعل يتعلق بالشخص نفسه، فهو كالفعل اللازم.
فأن تؤدي الشيء: بمعنى أن تفعله أنت وتتصدى له، فتؤدي الصلاة، أي تصليها. بينما (أقم) يتعلق بعلاقة المرء بغيره، فهو كالفعل المتعدي، فأن تقيم الصلاة، يعني أن تنشر الصلاة في المجتمع، وتشيع هذه الثقافة، وتلك القيم وهذه الفريضة.
وقد تحدثنا فيما مضى بالتفصيل عن كلمة (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، وذكرنا هناك وجوهاً أخرى لمعنى (أَقَمْتَ الصَّلَاةَ) فلا حاجة للإعادة.
إذن (لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا إِذَا أُدِّيَتْ وَأُقِيمَتِ اسْتَقَامَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، هَيِّنُهَا وَصَعْبُهَا)، تفيد أمرين:
1: أن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، فتكون حينئذٍ قد (أديت).
2: أن تحاول تشجيع الآخرين أيضاً على أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وتجعلهم مثلك روّاداً في هذا المضمار، فتكون حينئذٍ قد (أقمت).
فإذن يجب أن (يُؤدى) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن (يُقام) أيضاً. الإمام يقول: (إِذَا أُدِّيَتْ وَأُقِيمَتِ اسْتَقَامَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، هَيِّنُهَا وَصَعْبُهَا)، حتى التوحيد وهو فريضة من أصول الدين، وحتى (الجهاد) وهو صعب مستصعب جداً، كما هو معلوم مفتاحه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فأن تأمر الناس بالإيمان مثلاً، أو أن ترشدهم إلى الاعتقاد بأن الله عادل، فهو أمرٌ بالمعروف، وإذا لم يأمر المؤمن الناس بذلك، ولم يرشدهم بالطرق العلمية وبالاستدلال وبالشواهد والأدلة، فهو آثم.
إحصائية حول أثرياء العالم
وهنا أذكر لكم مثالاً؛ لكي نعرف كيف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو أُقِيما، فسيستقيم المجتمع كله.
هنالك مؤسسة معروفة باسم "ميرلنش العالمية"، هذه المؤسسة قامت بإحصاء أثرياء العالم، فذكرت في تقريرها:
(أن أثرياء العالم يملكون من الثروة ما يعادل (200ر37) ترليون دولار، أي سبعة وثلاثين تريليون ومأتي مليار دولار).
وهو رقم خيالي حقاً، بينما نجد حسب بعض الإحصاءات الرسمية في المقابل، أن هناك 3 مليارات فقير في العالم. أ ليس هذا الإجحاف وسوء توزيع الثروة منكراً! لعلمنا أن أكثر الثروات نشأت من الاحتكار والخداع والغش، وبيع المحرمات كالخمر والربا والقمار وغيرها.
كما قدرت هذه المؤسسة عدد أثرياء العالم، الذين يملكون هذه الثروات بـ (000ر500ر9) تسعة ملايين وخمسمائة ألف إنسان فقط!
وهذا كله نتيجة أن الأمر بالمعروف اقتصادياً، والنهي عن المنكر الاقتصادي غير سائد في المجتمع. ولذا تجد الأثرياء يزدادون ثراءً فيما الفقراء يزدادون فقراً.
بينما إذا كان الأمر بالمعروف سائداً في البعد الاقتصادي، وكان الناس يؤدون الزكاة والخمس، ويلتزمون بالإحسان والإنفاق وغير ذلك بأجمعهم، لم يكن حال المجتمع كما هو عليه اليوم، ولم يكن للاحتكار وجود، ولم تكن تلك المضاربات التي تحدث في سوق الأسهم التي تدمّر حياة مئات الآلاف من العوائل، أو تعرضهم للفقر المفاجئ.
الرئيس الامريكي يرفض قانوناً لتعويض ضحايا صدام
ولنستعرض مثالاً آخر، الآن في العراق هناك مطلب شعبي وعقلائي ووجداني وديني، وهو أنه ينبغي على الحكومة أن تعوض ضحايا الشهداء، الذين قتلهم النظام البعثي الصدامي الظالم.
وهؤلاء ينبغي أن يعوضوا من أموال النفط العراقي الذي يعود للشعب نفسه، وفي هذه السنة فإن ميزانية الحكومة العراقية بلغت (58) ترليون دينار، أي ما يعادل تقريباً (50) مليار دولار وهو رقم هائل، وقد تصل هذه التعويضات إلى (10) مليارات فقط، أو اقل أو اكثر بقليل.
وهذه الأموال هي ملك للشعب العراقي، لكن نجد أن الرئيس الامريكي جورج بوش، يأتي ويتدخل ويرفض سنّ هكذا قانون في العراق، بحجة غير عقلية ولا عقلائية، معلّلاً بأن هذا يضر باقتصادنا وبالتبادل التجاري!
لاحظوا نصّ عبارته ـ وذلك من الغريب حقاً ـ: (سيهدد ودائع عراقية بمليارات الدولارات في لحظات حرجة من جهود إعمار هذا البلد)، وليذهب الفقراء وضحايا صدام(15)، وهم عادة من الفقراء إلى الجحيم! (ولأنه سيقوض السياسة الخارجية والمصالح التجارية لأمريكا).
حقاً إنها مهزلة، والمؤلم في الأمر أن بعض من في الحكومة العراقية أيضاً، كان موقفهم الرسمي مؤيداً لهذا الموقف الباطل المنكر الفاضح.
وهكذا تنقل الصحافة: (نقض بوش قانوناً يسمح لضحايا صدام بالمطالبة بتعويضات؛ بدعوى أنه سيكلف العراق المليارات).
إقامة الدين
هنالك رواية أخرى عن الإمام الحسين (عليه السلام)، ربما نفصل الحديث عنها لاحقاً، حيث يتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من الواجب أخذ الصدقات من حلها ومواضعها، ووضعها في محلّها ومستحقيها، لكن هل تجدون ذلك في المجتمع؟!.
وهل تؤخذ الصدقات من مواضعها وتوضع في حقها؟!.
الجواب على ذلك:
كلا، وألف كلا.
يقول الإمام (عليه السلام):
إذا أُقِيمَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أُقِيمَ الدين ـ وقد مضى نص كلامه ـ وذلك يعني:
أُقِيمَ الدين بأجمعه، وأُقِيمَ الوجدان، وأُقِيمَ الضمير، وأُقِيمَ المجتمع السليم أيضاً، وإذا لم يقاما انهدم الدين، وانهدم المجتمع، وتحطم وتآكل.
فعلينا جميعا أن نلتزم بأمر الله سبحانه وتعالى، وبإرشاد الإمام الحسين (عليه السلام)، في ضرورة إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى العالم كله.
هذه الأيام هي أيام شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي ضحى بالغالي والنفيس وبكل ما يملك؛ لإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، وفي سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبأروع ما تكون التضحية، وبأصعب ما يكون الجهاد والأمر والنهي.
يقول السيد الشريف الرضي(16) (رحمه الله):
ميّت تبكــي لـه فاطـمة
وأبوها وعلـي ذو الـعلى
فما أعظمه من شهيد! وما أعظمه من قتيل! وما أعظمه ثار لله رب العالمين.
اضف تعليق