بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
(4)
دروس في أصول العقائد
الاستدلال بـقوله تعالى: (لا تعلمون شيئاً)
استدل بعض الإسلاميين بالآية الشريفة (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).([1]) على أن الإنسان يولد خالي الذهن من كل معرفة وان مبتدأ كل المعارف، حتى العقلية منها، هو الحواس فقط.
مناقشة استدلال الحسيين بالآية الشريفة
ولكن هذا الاستدلال غير صحيح؛ فإن الإنسان يولد ومعه خمسة أنواع من المعارف:
العلوم الحضورية
أولاً: العلوم الحضورية، كعلمه بذاته وقواه وأحاسيسه ومتخيلاته، فإنه يعلم بها بحضورها بذاتها لديه لا بواسطة الحواس ولا بواسطة صورة منطبعة في ذهنه ـ على المشهور لدى الحكماء.([2])
العلوم الفطرية
ثانياً: العلوم الفطرية كعلمه بأن له خالقاً ورازقاً، وتدل على ذلك الآيات والروايات أيضاً، كقوله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها) والظاهر أن المراد هو أن الدين هو فطرة الله والفطرة الخِلقة فتدل الآية على أن الدين – وأصله الإيمان بالله الواحد – أمر خلق الله الناس عليه وفطرهم عليهم من غير اكتساب فهو موجود معهم منذ خلقهم حتى قبل الولادة فكأن (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) هي في مقام التعليل لـ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)، وهذا هو الظاهر من معنى الآية، عكس ما ذكره بعض المفسرين.
وسيأتي مزيد كلام عن هذه الآية الكريمة وبعض الآيات الأخرى لاحقاً بإذن الله تعالى.
العلوم العقلية
ثالثاً: العلوم العقلية، أي المستقلات العقلية، كاستحالة الدور أو التناقض فإن الإنسان يدرك ذلك بعقله لا باكتسابٍ، وكذلك إدراك حسن الإحسان وقبح الظلم؛ ألا ترى أن الطفل الرضيع ينكمش مما يضر به أو من كل ما يؤلمه ويزعجه ويهش ويبش للإحسان إليه كأمه التي تحنو عليه وترضعه؟ إنه يدرك حسن الإحسان بذاته لا باكتساب عبر الحواس أو غيرها وإلا لوجب القول بأن الطفل لا يدرك حسن العدل والإحسان إلا لو علموه ذلك؟
ويدل على كذب هذه المقولة أنهم لو حاولوا تعليمه حسن الظلم عليه أو على غيره فإنه – عادة – لا يقبل ذلك، ويرفضه بوجدانه وضميره، إلا لو مسخوه وقاموا بغسيل دماغ كامل له، وذلك بنفسه دليل واضح على وجود معرفة سابقة في ذهنه وقد حاولوا محوها وإحلال غيرها محلها!
المحسوسات بالحواس الباطنة
رابعاً: بعض المحسوسات بالحواس الباطنة، كالحب والخوف وشبههما فإن من الواضح أن الطفل بعد الولادة بل الجنين في الرحم، يخاف ويفرح ويحزن ويحب الطعام والأمّ وشبه ذلك وإن كان ذلك بشكل بسيط ساذج، فهل علمه أحد ذلك؟ وهل لم يعرف ذلك إلا بعد ما ولد فنقلت إليه الحواس صوراً ثم بدأ يتأمل ويفكر فأدرك الفرح والحزن والخوف؟
المحسوسات بالحواس الظاهرة
خامساً: بعض المحسوسات بالحواس الظاهرة (الخمسة) فإنه يحس بالبرد والحر والملمس الخشن والناعم، من غير تعليم من أحد، كما يسمع بعض الأصوات فينزعج من بعضها ويسر للبعض الآخر لا بتعليم من أحد ولا في مرتبة متأخرة عن الولادة والإحساس فالتأمل فالإدراك!
بل لقد أثبت العلم الحديث أن الجنين في رحم أمه يمتلك الإحساس والشعور والإدراك وأنه قد يفرح بفرح أمه ويحزن بحزنها ويتألم بتألمها أو بأنواع الضغط الوارد عليها أو عليه أو بتدخينها وإن ذلك كله يؤثر في صحته النفسية وسلامته العقلية بالإيجاب أو السلب.
والحاصل: أنه لا شك في أن هذه العلوم الخمسة يولد الإنسان وهي معه وهو عالم بها وعارف، بدرجة وأخرى منذ ولوج الروح في الجنين!
معنى (لا تعلمون شيئاً)
والمراد بالآية الشريفة – حسب المستظهر – هو (لا تعلمون شيئاً من العلوم الاكتسابية) وليس المقصود: لا تعلمون شيئاً من العلوم الحضورية والفطرية والعقلية وبعض الحسية، فالمراد هو: إن خصوص ما يحصل عليه الإنسان بالاكتساب([3]) فإنه لا يعلمه عند خروجه من بطن أمه، فالنفي إضافي وليس مطلقاً، وذلك للدليل العقلي والعلمي والحسي والوجداني القاطع على علمه بتلك الأمور الخمسة السابقة ولتصريح القرآن الكريم بعلمه ببعض تلك الخمسة في آيات عديدة سبقت إحداها وسيأتي غيرها بإذن الله تعالى.
وقال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: ( "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم" منعماً عليكم بذلك وأنت "لا تعلمون شيئاً" من منافعكم ومضاركم).
وهذا هو موجز بعض النقاش مع الإسلاميين وقد ظهرت به بعض وجوه المناقشة مع غير الإسلاميين من الفلاسفة الذين لا يؤمنون بالله تعالى، وستأتي أجوبة أخرى عليهم مثل بداهة علم الإنسان بالمعقولات الثانية المركبة (المنطقية) والمعقولات الثانية البسيطة (الفلسفية) دون اكتساب ودون استناد إلى الحواس أبداً بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
.................................................
اضف تعليق