(3)
دروس في أصول العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
الأصل التاسع: حيث سبق أن لكل قوة من القوى، مجالاً ونطاقاً خاصاً ولها في ذلك المجال حدّ معين، فإن تجاوز ذلك المجال أو الحد سواء بنحو الإفراط أم بنحو التفريط هو منشأ أساسي للأخطاء؛ فإن تضخيم دور العقل خطأ كما أن تحجيم دوره خطأ، وكذلك الحس والفطرة وغيرها.
وهناك ضوابط وشروط ومقدمات لضمان الإصابة في كل قوة من تلك القوى، ومع الإخلال بواحد منها لا تكون النتيجة إلا الخطأ والضلال.
دوائر الفطرة والعقل والشهود
كما أن لبعض القوى مساحات أوسع ولبعضها مساحات أضيق:
فدائرة الفطريات محدودة جداً وقد تعدّ على الأصابع.
ودائرة العقليات أوسع وقد تبلغ العشرات.([1])
ودائرة الكشف والشهود محدودة جداً جداً ولها ضوابط عسيرة جداً يندر تحققها، ويندر أن يُدرِك مدعي الكشف والشهود أنه متوهم ومشبّه له؛ إذ لم تتحقق فيه الشروط والضوابط وهو يخالها قد تحققت، على أنه لو فرض أنه كشف له حقاً فإنه لا يصح للآخرين عقلاً تصديقه إلا ببيّنة ودليل، والأنبياء هم الذين يمتلكون دليل الاعجاز والأوصياء يسندهم النص الإلهي الصريح، فما عداهما لا دليل ضابطي مرجعي للحكم على صحته، وسيأتي تفصيل ذلك.
وبعد هذه المقدمات التمهيدية، لا بد هنا أن ندرس كل قوى أو طريقة من الطرق السابقة لنكتشف حد الاعتدال منها ونشير إلى الآراء المتناقضة حولها بين إفراط وتفريط([2]) فلنبدأ أولاً بالحس.
بحوث عن القوى الإدراكية: (الحواس الخمسة)
اختلف العلماء والمفكرون في (الحواس) وادراكاتها ومدركاتها في جهات عديدة متنوعة ولكننا سوف نقتصر على ما يرتبط بصميم مباحث العقائد فقط:
الحسيّون: الحواس هي المرجع لكافة المعارف
فقد ذهب (الحسيون) إلى أنه لا توجد معرفة وراء الحواس، بمعنى أن كل المعارف تنتهي إلى الحواس وأن العقل لا يمتلك أية معلومات أو مدركات في نفسه وفي مرحلة سابقة على ما تنقله إليه الحواس.
وقد تزعم الحسيين قديماً ابيقور([3]) حيث نقل عنه أنه قال بأن الأصل في كل معرفة هو الحس والمشاهدة والدلائل المحسوسة([4]).
كما تزعمهم في العصر الحديث جون لوك([5]) الذي صرح في مؤلفه الرئيسي (مقال في الفهم الإنساني) بأن العالم الخارجي الموجود موضوعياً هو مصدر المعرفة، وتسمى نظريته في المعرفة (التجريبية المادية) كما رفض افكار ديكارت عن (الافكار الفطرية) وسيأتي كلامه لاحقاً بشكل أكثر تفصيلاً ودقة.
استدلال بعض العلماء على المذهب الحسي([6])
وقد استدل بعض الإسلاميين على صحة هذه النظرية بقوله:
(إن ما ذكروه من أن الإنسان يولد خالي الذهن عن كل معرفة، أمر مسلم أقرّت به الفلاسفة جميعاً([7])، وصرّح به الذكر الحكيم كما تقدم. وإليه يشير قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية).
ومن المسلم أيضاً أن الحس هو الينبوع الأساسي للتصورات والتصديقات البديهية والنظرية وأنّ من حرم لوناً من ألوان الحس، لا يستطيع أن يتصور المعاني الكلية ذات العلاقة بذلك الحس الخاص، ومن فقد جميع حواسه، عجز عن إدراك أبسط المعارف وتصورها)([8]).
مناقشة بعض الإسلاميين الحسيين:
لقد استدل هذا العالم الباحث – كما وجدنا – ببعض الآيات والروايات([9]) ولنبدأ بمناقشته ثم ننتقل إلى مناقشة الحسيين الماديين عقلياً وعلمياً.
أما الرواية وهي: ((وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ))([10]) فإن الجواب عنها واضح، فإن الحدث هو الشاب وليس الطفل الذي ولد للتو من رحم أمه، قال في مجمع البحرين: (قال في المصباح: ويقال للفتى الشباب حديث السن فإذا حذف السن قلت حَدَث بفتحتين وجمعه أحداث) ثم قال (ومنه حديث فاطمة عليها السلام: فوجدت عنده احداثاً)، أي شباباً وفي بعض النسخ حُداثاً أي جماعة يتكلمون).
فالرواية أجنبية عن المدعى تماماً إذ صريحها أنه (كالأرض الخالية) وليس (أرضاً خالية)!
والمراد بها أن الحدث لم تتراكم عليه الضلالات والجهالات ولم تهجم عليه الأفكار المنحرفة والمسيّسة ولم تحاصره فتغطي عقله، فهو أقرب للهداية والإرشاد من ذلك الذي شاخ على ضلالات وجهالات وأخطاء وانحرافات!!.
وليس المقصود أن الحدث أي الشاب لا توجد في ذهنه أية معرفة على الإطلاق ثم يحصل على المعارف عن طريق الحواس فإن ذلك بديهي البطلان، يكذبه البرهان والوجدان!
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
اضف تعليق