خالقية الذهن للمقولات الأربع على فرض قبولنا بها، لا تجدي نفعاً لإثبات صحتها ويقينيتها؛ إذ خالقية الذهن لشيء لا تعد سبباً كافياً لكي نعدّه حقيقة ومرآة للواقع، وإلا لكانت الأوهام أيضاً حقيقة، نعم هي حقيقة بمعنى وجودها في الذهن، كوجود الأكاذيب فيه، لكن لا بمعنى...
إن خلاصة تفريق كانط بين (الطبيعيات) وبين (موضوع الفلسفة الأولى)، هو أن في (الطبيعيات) تصل إلى الذهن (مواد العلم) عبر الحواس (ومواده في رأيه هي ظواهره وآثاره لا ذاته)، ثم العقل يركبها مع موضوعاته (من كمية وكيفية ونسبة وجهة) وهذه بدورها يقينية، فتنتج يقيناً أيضاً.(1)
أما (موضوع الفلسفة الأولى) فإن شيئاً منها لا يصل إلى الذهن عبر الحواس، فكيف نتيقن بها ونحكم عليها؟ أي (العلم لا يصل لحقائق الذوات؛ لأن الذهن لا ينال ما هو فوق الحس، والعقل لا منفذ له لنيل العلم إلا الحواس).(2)
ولا يخفى أن كانط في بعض كلماته اعتبر موضوع الفلسفة الأولى، يشمل أموراً ثلاثة هي (العلم بالنفس Psychologie والعلم بالعالم أو الخارج Cosmologie والعلم بالخالق Theologie).(3)
لكن ظواهر كلماته الأخرى تحصر موضوع الفلسفة الأولى بـ(أن الفلسفة الأولى هي العلم بالمجردات).(4)
وقال (موضوعات الفلسفة الأولى لا هي ذهنية قد خلقها العقل، ولا هي تجربية، فلأنها ليست تجربية فلا مجال لـ(الأحكام البعدية) فيها، ولأنها ليست ذهنية، فلا مجال لـ(الأحكام القبلية) فيها فهي غير قابلة للاعتماد)(5)، ومن هذا التصريح يظهر أنه يرى (الأحكام القبلية) منحصرة في إطار الذهن وقضاياه.
نقد النص السابق
وهذا النص يعاني من إشكالات عديدة:
الوجه الأول:
إن برهانه الذي أقامه للوصول إلى (يقينية الطبيعيات) غير تام، فإنه استنتج يقينية العلوم الطبيعية من ضم مقدمتين هما:
1- مواد العلم الطبيعي يقينية.
2- أن الكمية والكيفية والنسبة والجهة التي يركب الذهن منها مواد العلم، هي أيضاً يقينية لكونها ذهنية (قد خلقها العقل).
لكن مكمن الخلل والنقص ههنا هو:
إن هاتين المقدمتين حتى لو فرض صحتهما، لا تنتجان يقيناً؛ وذلك لأنه لابد من ضم مقدمة ثالثة، قد غفل عنها كانط، وبدون هذه المقدمة لا تنتج المقدمتان إلا احتمالاً.
توضيحه: إن العلاقة والترابط بين (مواد المسألة) و(صورها) هو أمر ثالث، لابد من كونه يقينياً، لتنتج القضية يقيناً.
فمثلاً في (الكمية) لا يكفي وجود المفهوم الكلي للكمية في الذهن، بل لابد من إثبات (علقة) هذا المفهوم بالجزئيات المادية الواردة عبر الحواس إلى الذهن، وثبوته لها.
وهكذا نجد في المثال الذي ذكره ـ على حسب هامش (سير حكمت در اروبا) (كل الناس يموتون) أو أي مثال آخر:
أ: إن ما ورد للذهن هو ظواهر الموت الطبيعية لهذا الفرد الميت وذاك، وهكذا.
ب: إنه يوجد في الذهن مفهوم (الكلية)، وهذا غاية ما ذكره كانط، لكن هل ينتج ذلك (كل الناس يموتون)؟ كلا، إذ أننا لم نشاهد كل الناس الأموات في الحاضر (فكيف بالماضي والمستقبل).. فمن أين (التعميم)؟ أي من أين (كل الناس يموتون)، والحال أننا شاهدنا (بعض الناس يموتون)؟ هذه هي الحلقة المفقودة التي غفل عنها كانط هنا وتصور أن المقدمتين اللتين ذكرهما تكفيان للإيصال إلى اليقين.
وقد تطرقنا في موضع آخر إلى أن الحلقة المفقودة هي (كشف الملاك والمناط) أو (الاستقراء المعلل) وهو أمر عقلي؛ إذ الاستقراء مهما توسع وامتد وتكاثرت مصاديقه، لا ينتج يقيناً مادام غير معلل، إلا أن يكون مستغرقاً لكل المصاديق، وهذا لعله أندر من النادر وأشذ من الشاذ في كل العلوم.
وكما في (الكلية) كذلك في الإيجاب والسلب؛ إذ ما الذي جعل (الإيجاب) هو (الرابط) في هذه القضية بين المحمول والموضوع، لا السلب؟ إنه الأمر الثالث(6) وهكذا.
الوجه الثاني:
إن (مواد العلم) لا تصل بالضرورة إلى الذهن صحيحة وسليمة دائماً بل كثيراً ما تصل إلى الذهن مشوهة أو ناقصة أو خاطئة تماماً، ولذا نجد كثرة الأخطاء في العلوم الطبيعية، ولذا فإن العلوم الطبيعية على عكس ما ذكره كانط، ليست يقينية، وقد فصّلنا هذه النقطة في مكان آخر.
الوجه الثالث:
المناقشة في كون هذه المقولات الأربعة (قبلية) وأنها لا ترد من الخارج إلى الذهن، وقد أوضحنا ذلك في موضع آخر.
الوجه الرابع:
إن خالقية الذهن للمقولات الأربع على فرض قبولنا بها، لا تجدي نفعاً لإثبات صحتها ويقينيتها؛ إذ خالقية الذهن لشيء لا تعد سبباً كافياً لكي نعدّه حقيقة ومرآة للواقع، وإلا لكانت الأوهام أيضاً حقيقة، نعم هي حقيقة بمعنى وجودها في الذهن، كوجود الأكاذيب فيه، لكن لا بمعنى المطابقة للواقع.
وبعبارة أخرى: ما الفرق بينها وبين (الأوهام) وكذا (الأحلام) من حيث (الصحة) و(الخطأ) أو (الصدق) و(الكذب)؟ لأن (الأوهام) و(الأحلام) أيضاً مخلوقة للذهن أيضاً، فهل هي صادقة ويقينية؟ ودعوى كون (المغروسية في الذهن) من دون المطابقة للواقع، مقياساً للصحة والخطأ، خاطئة ولا تنفع في التفريق بينهما من هذه الجهة (أي بالقول بأن الأوهام خطأ لعدم مطابقتها للواقع، والعلية والرياضيات، صح لمطابقتها؛ إذ من أين المطابقة، وهي المقصود الأصلي في العلوم؟) بل على هذا للذهن أن يعكس، فيجعل ما ليس علة، علة، وبالعكس ـ كما أوضحناه في مكان آخر.
وتحقيق الأمر: إنك عندما تقول: النار علة للحرارة، ماذا تقصد بذلك، هل تقصد:
أ: (النار الذهنية علة للحرارة الذهنية)؟
ب: أو تقصد (النار الذهنية علة للحرارة الخارجية).
ج: أو (النار الخارجية علة للحرارة الذهنية)، وهذه الفروض كلها باطلة(7)، لم يقصدها بالطبع.
د: أو مقصوده (النار الخارجية، علة ذهنية، للحرارة الخارجية) وهذا غير معقول أيضاً؛ إذ كيف يكون (الطرفان) في عالم و(الرابط بينهما) في عالم آخر؟ خاصة إذا لاحظنا أن العلية رابط جوهري أن أنها تربط ذات المعلول بذات العلة، لا مجرد ربط لظاهر المعلول بالعلة، هذا. إضافة إلى بداهة ووجدانية أن النار الخارجية ليست علة ذهنية للحرارة الخارجية بل هي علة واقعية خارجية، أي العلية والمعلولية متحققان في نفس العالم الذي تحققت فيه العلة والمعلول؛ فلا مناص من أن يقول.
هـ: (النار الخارجية، علة خارجية، للحرارة الخارجية) وهو المطلوب، إذ وصلنا ببرهان السبر والتقسيم إلى أن (العلية) خارجية، لا ذهنية محضة.
وعلى ذلك يكون الصدق والكذب، بلحاظ مطابقة ما حصل في أذهاننا من تصور العلية والمعلولية، مع الخارج، فإن طابق فصحيح وإلا فخطأ، وليس ملاك الصدق والكذب خالقية الذهن وعدمه وإلا لكانت (الأحلام) و(الأوهام) أيضاً كلها صحيحة، وللزم أن نبني كل العلوم الطبيعية على الأحلام والأوهام والتخيلات، وهذا ما لا يقول به عاقل.
كما ظهر بذلك أن (العلية) ليست مخلوقة للذهن، بل هي منكشفة له، وهي حقيقة خارجية بمعنى وجودها بوجود منشأ انتزاعها.
وعلى هذا تتساوى (موضوعات الفلسفة الأولى)(8)، مع الطبيعيات، في أن ملاك صدقها، مطابقتها للخارج(9)، وإن كانت أعراض الطبيعيات تصل إلى الذهن عبر الحواس، دون المجردات ودون الانتزاعيات كالعلية(10) وأشباهها، إذ لا يشكل هذا فرقاً، كما أنه لم يشكل فرقاً للطبيعيات عن الرياضيات، وعلى هذا فكل من الطبيعيات والرياضيات وموضوعات الفلسفة الأولى (أي المجردات، أو الأعم منها) وكذا صور القضايا أي المقولات عنده كأمثال العلية والمعلولية، والإمكان والوجوب) كلها يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة، كما يمكن أن تكون علماً موصلاً للقطع واليقين.
الوجه الخامس:
المناقشة في قوله بأن موضوع الفلسفة الأولى، لا يصل إلى الذهن عبر الحواس، كبروياً؛ بأن (الوصول إلى الحواس) ليس هو المقياس الوحيد لـ(العلم واليقين)، بل هنالك مقاييس أخرى، منها الحواس الباطنة، ومنها إدراك الشيء بالتجربة العقلية أو الشهود العقلي، ومنها غير ذلك، وقد فصلنا هذا الوجه في موضع آخر.
الوجه السادس:
المناقشة في اطلاق قوله إن موضوع الفلسفة الأولى (النفس، العالم الخارجي، الخالق) لا يصل أي شيء منها إلى العقل عبر الحواس؛ إذ أولاً: (الوصول) الموجب لليقين، أعم من وصول الشيء بذاته أو وصوله بآثاره.
وثانياً: إن النفس والخارج، يصلان إلى الذهن، عبر الحواس، ولو في الجملة(11).
الوجه السابع:
إن (كانت) فصل بين مجموعة المعقولات الأولية الفلسفية(12) ـ فإلتزم بأنها ترد إلى الذهن عبر الحواس ـ وبين مجموعة المعقولات الثانوية(13) ـ فإلتزم بأنها مرتبطة بعالم الذهن ـ وهي من صناعته وإختراعه وتأليفه(14)، وأن العلم والمعرفة نتاج امتزاج هاتين المجموعتين، أي من خلال تركيب الذهن ما وصل إليه من الخارج، مع مخترعاته الذهنية البدوية، وعلى هذا يبرز اعتراض آخر هو:
إذا كانت هنالك مجموعتان، فكيف يقوم الذهن بعملية دمج وتركيب هاتين المجموعتين المختلفتين بالذات تمام الاختلاف؟ وما هو (اللاصق) بينهما؟ أي ما هو الجسر بين العالمين (عالم المفاهيم الذهنية الصِرفة المخلوقة للذهن، وعالم المفاهيم الحسية الداخلة إلى الذهن)؟ إنه لم يوضح ذلك، ولا تنحل عقدة (المعرفة) بدون حل هذه المعضلة.
الوجه الثامن:
كما أن مما يؤخذ عليه: (كيف يمكن أن يكون الشيء الذي أتى به الذهن من عنده، ملاكاً للمعرفة، مع عدم وجود أية علاقة بينه وبين الخارج؟ والذي له إرتباط بالخارج هو مادة المعرفة فقط، لا المعرفة التي هي حاصل التركيب بين مادة المعرفة وصورة المعرفة، والحال أنه يعتبر في المعرفة نوعُ وحدةٍ بينها وبين الخارج، فإن لم يكن هناك وحدة بينهما، فلا يمكن أن تكون معرفة)(15)، وهذا وجه آخر غير ما ذكرناه سابقاً، نعم كلامه اللاحق يشير إلى وجه سابق، وهو:
(وإذا كانت هذه المعاني، أي المعقولات الثانية المنطقية(16)، أموراً مستقلة لا ارتباط بينها وبين المعقولات الأولى أبداً، كما يقول كانط؛ إذ يعتبرها أموراً قبلية موجودة في الذهن مسبقاً، فلن نستطيع الاعتماد عليها لكشف عالم الخارج)(17)، اللهم إلا أن يقول بأنها (مرائي) للخارج و(كواشف عنه) لكن المشكلة أنه لا يقول به، بل لو قال به، لما صح؛ إذ مع انكار كون (الاتصاف) في الخارج، كيف يكون المخترع الذهني المحض، مرآة للخارج؟ وقد سبق بيانه.
وقد ظهر بما سبق بطلان قول كانت: أن المعاني والصور الموجودة بالفطرة عند الذهن، والتي ليست هي مكتسبة من الخارج؛ (ليس لها أي إرتباط بالخارج).(18)
أين موطن المعقولات الثانية الفلسفية؟
تنبيه:
إن المعقولات الثانية الفلسفية، كما سبق، موجودة في الخارج بوجود منشأ إنتزاعها، فإن (علية) الحرارة الموجودة في الحديد، لتمدده، حقيقة خارجية، وليست العلية ذهنية محضة، فكما أن الحديد موجود في الخارج، وكما أن الحرارة والتمدد موجودان بالخارج، كذلك علية الحرارة لتمدد الحديد، موجودة بالخارج، لكن الفرق أن العلية ليست موجودة بوجود مستقل عن الحرارة منضمة إليها، ولا بوجود زائد عليها محمول عليها، كالبياض على الجسم الأبيض، ولا هي جزء منها (أي ليست العلية جزء من الحرارة) بأن يكون للحرارة جزءان: أحدهما العلية والآخر غيرها) بل هي منتزعة منها، أي موجودة بنفس وجودها، فوجود حرارة الحديد، هو بنفسه وجود للعليّة للتمدد. لأن العلة هي نفس الحرارة، والعلية قائمة بها.
وبذلك يظهر: أنها لأنها ليست موجودة في مقابل وجودات الأشياء، لا مفارقة، ولا منضمة، ولا جزءاً؛ لذلك فإنها ليست قابلة للإدراك الحسي؛ لأن الإدراك الحسي يتعلق بما هو جزء العالم، لا بما ينتزع عنه؛ بل هذه تقبل الإدراك العقلي فقط، ألا تلاحظون: (الوحدة) و(الكثرة) و(الشيئية)؟ فهل (الكثرة) هي شيء منظم لذات (الكثير)؟ إذن للزم أن لا يكون في ذاته كثيراً بل واحداً، هذا خلف، وتناقض. وهل (الكثرة) جزء (الكثير)؟ إذن للزم أن يكون الجزء الآخر غير كثير، وهذا الجزء فقط كثيراً، هذا خلف أيضاً.
وكذا (الوحدة)، فهل وحدة الشيء، هي أمر منضم إلى الشيء الواحد؟ إذن للزم أن لا يكون الشيء في جوهره واحداً، وكذا لو كانت وحدة الشيء جزء الشيء؛ للزم أن لا يكون جزؤه الآخر واحداً وأن لا تكون الوحدة صفة لجزءه الآخر، إذ الجزء لا يكون صفة لجزء آخر؛ بل للزم أيضاً أن لا يكون المجموع أحداً بل مركباً.
ويوضحه أيضاً مثال (الزوجية) و(الفردية) و(الفوقية) و(التحتية)(19) أيضاً، فتدبر.
خاتمة
وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.(النجف الأشرف-مرتضى الحسيني الشيرازي-1432 هجري قمري)
اضف تعليق