9- تقييم منهج (التاريخية)
(التاريخية منهج يقوم على مبدأ أساس: إننا لا نستطيع أن نحكم على الأفكار والحوادث، إلا بالنسبة للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، لا بالنسبة لقيمتها الذاتية وحدها، لأننا إذا نظرنا إليها من الناحية الذاتية فقط، ربما وجدناها خاطئة، ولكننا إذا نسبناها إلى الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه وجدناها طبيعية وضرورية).(1)
وقد ذهب البعض الى تطبيق (التاريخية) على الإسلام[2] وعلى القرآن الكريم، بمعنى أن (الدراسة التاريخية) ـ حسب المنهجية العلمية الحالية التي توصل إليها الغرب ـ على القرآن، هي الحكم في تحديد معانيه وتحديد أسباب تشريع الحكم، والعوامل الاجتماعية والثقافية والنفسية التي كونت تلك النصوص أو كانت وراء تقنين تلك القوانين، أو وضع تلك القيم وصياغة تلك الأفكار والرؤى.
وبعبارة أخرى: إن تطبيق (الدراسة التاريخية) على القرآن يعني: أن نخرج بنتيجة أن تشريعات القرآن في كيفية الصلاة والصوم والحج، وفي الخمس والزكاة، وفي شروط النكاح والطلاق، والبيع والشراء والرهن والوقف وفي كيفية تحديد الإرث والقصاص، وغير ذلك، هذه كلها في الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه، قد تكون صحيحة، لكنها في وسط تاريخي آخر، كما في زماننا، قد تكون خاطئة، بل بالنسبة لقيمتها الذاتية قد تكون خاطئة أيضاً، بل إن مساحة (التاريخية) لتمتد حتى في النصوص التي تتحدث عن الميتافيزيقيا والأمور الغيبية(3)، وعن الله وصفاته والمعاد وغيرها!
المناقشة
من الواضح أن هذا التحليل يعاني من مشاكل عديدة، منها مشاكل مصداقية وصغروية ومنها عامة وكبروية؛ إذ نقول:
أولاً: من الناحية المصداقية نجد: أن (الدراسة التاريخية) لو فرض أنها صحيحة، فإنها يمكن لها أن تحكم على نصوص البشر العاجز المحدود(4)، لكنها لا ترقى إلى النصوص والتشريعات الصادرة من الإله المحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، وبخصائص البشر الثابتة والمتغيرة، وبكافة ما يصلحه ويفسده.
وبعبارة أخرى: ما هو مادي وتاريخي يخضع لتقلبات المادة وتحولات التاريخ، أما ما ليس بمادي أو تاريخي، فإنه محصّن أمام تيارات التاريخ وتقلباته، إنه فوق التاريخ، كما أن العلوم الرياضية فوق التاريخ، تماماً.
ثانياً: من الناحية الكبروية (5) نجد: أن مما لا شك أن كثيراً من (النصوص) و(القواعد) و(التشريعات) و(الأفكار) تحمل قيمة ذاتية، وتسمو على الزمان والمكان، ولا تخضع لعوامل التغيير، أي أنها فوق (التاريخية).
وذلك ككافة النصوص الاخلاقية المفتاحية، وكافة التشريعات الناشئة عن (المستقلات العقلية)(6) وككثير من النصوص والقواعد الكلامية، وكالكثير من الأصول والأحكام والقواعد المنطقية.(7)
وذلك مثل:
(قيمة كل امرء ما يحسن)(8) ـ نص أخلاقي اجتماعي.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(9) ـ تشريع اجتماعي ـ سياسي ـ اقتصادي.
(يستحيل المعلول بلا علة أو الترجح بلا مرجح) ـ نص فلسفي: كلامي.
(الأشكال الأربعة إنتاجها قطعي لو لم يكن خلل في مادة القضية): نص منطقي.
(لكل فعل رد فعل يعاكسه في الإتجاه وقد يساويه في القوة): نص طبيعي ـ اجتماعي.
(كلما ارتفع الطلب وقل العرض، زادت القيمة، مع ثبات سائر العوامل): نص وقاعدة اقتصادية.
بل نقول:
إذا كانت هذه القواعد وأضرابها ـ وهي بالمئات بل بالألوف ـ أقوى من الزمن وأسمى من الظروف، ومن الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه وكانت فوق زمكانية، فمن أدراك (والخطاب لغير المسلم) لعل سائر القواعد كذلك؟ (أي كافة القواعد التي جاء بها القرآن والتي قد لا يؤمن غير المسلم بأنها وحي، ولكن ليس له النفي إذ غاية الأمر عدم العلم؛ إذ من الواضح أن (غير المسلم إذا كان موضوعياً أن يقول: لا أعلم أنه وحي أم لا، لا أنني أعلم أنه ليس بوحي؛ إن القاعدة المسلمة تقول: (كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه قائم البرهان).
ثالثاً: إن القاعدة الكلية، لا يصح تعليلها بأسباب فردية وجزئية صغروية، ولا يصح إثباتها بالاحتمال و(أننا لا نستطيع أن نحكم...) قضية كلية؛ لمكان النفي المطلق ثم الحصر المطلق و(ربما وجدناها خاطئة) قضية احتمالية ثم هي جزئية، فكيف تؤسس قاعدة شاملة على أسس احتمالية وشخصية أحيانية!
وبعبارة أخرى: الدليل أخص من المدعى، وكان اللازم ـ رعاية للدقة العلمية ـ أن يقال: (إننا لا نستطيع أن نحكم على "بعض" الأفكار والحوادث..) ويقال ("ربما" وجدناها طبيعية وضرورية).
(التاريخية) هي إحدى الصور الأربع فقط
والتحقيق أن الصور أربعة:
الصورة الأولى: هي المذكورة في هذا النص[10].
الصورة الثانية: (إن عدداً من الحوادث، قد يكون بالعكس، أي صحيحاً في حد ذاته لكنه خطأ إذا نسبناه للوسط التاريخي الذي ظهر فيه) وذلك مثل: (التقية)(11) التي هي مبدأ صحيح في حد ذاته، لكنه قد يكون خطأ في ظرف معين، وذلك كما لو اقتضى الوضع والأمر، الثورة ضد الطاغوت والنظم الحكومية والاجتماعية الفاسدة (ثورة الإمام الحسين عليه سلام الله، كأجلى مثال)، لكنه مع ذلك تمسك بالتقية.
الصورة الثالثة: إن عدداً من الحوادث والأفكار، قد يكون خطأ في حد ذاته، كما هو خطأ إذا نسبناه إلى الوسط التاريخي الذي تجلى فيه، وذلك كقاعدة (أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدّقك الناس) أو (أقتل الأبرياء ثم أقتل، وعذّب الأحرار ثم عذّب، وصادر الأموال ثم صادر، حتى تسيطر على الحكم).
وكحادثة تعذيب فرعون للأحرار، ودق الأوتاد في أرجلهم وأيديهم وصدورهم حتى الموت.... إذ الظلم والتعذيب خطأ كمبدأ وفي حد ذاته، كما هو خطأ منسوباً لأي ظرف تاريخي تحقق فيه.
الصورة الرابعة: وقد تكون مجموعة من الأفكار والحوادث، صحيحة في كلا البعدين: في حد ذاتها، وبما هي منسوبة للوسط التاريخي الذي ظهرت فيه.
وذلك كقاعدة حسن العدل والإحسان، وككل حادثة تعامل القائمون عليها فيها بالعدل والإنصاف لا بالظلم والاجحاف.
اضف تعليق