لكي يكون البحث أكثر عمقاً ودقة وثراء، يجب علينا أن نسأل عن المعنى المقصود بالنسبية، وأن نقوم بدراسة المعاني كلها وتحليلها ونقدها.
فإن المعاني المحتملة أو المقصودة، أو النظريات النسبية متعددة، نذكر أهمها، كما سنشير الى عدد من الاعتراضات والنقوض والنقد الوارد على بعضها فقط في هذا الفصل، وقد ذكرنا سابقا اربع معاني محتملة وهي:
1- عدم الإحاطة بكل الحقائق
2- الإصابة في بعض الجوانب
3- الصحة في زمان دون آخر
4- صوابية الآراء المتعاكسة
5- لا يوجد معيار موضوعي، لتمييز الحق من الباطل
وفيما يلي المعنى السادس:
لغة نسبية
المعنى السادس من معاني النسبية: أن يراد إن (اللغة) الحاملة للمعاني، والمحتضنة لها، والمختزنة لها، هي (لغة نسبية)، أي غير قادرة على إراءة الحقيقة كما هي، وهي لا تصلح مرآة حاكية ـ حكاية دقيقة حقيقية عن الواقع ـ!
أو يقال: اللغة هي مزيج، من الحكاية ومن التأثّر؛ فهي مرآة للواقع، لكنها في الوقت ذاته، مرآة لمن يستخدمها (مؤلفاً أو قارئاً)، أي أنها مرآة تنعكس فيها خصوصيات من يفكر بها، أو ينطق، أو يقرأ أو يكتب، فهي مرآة مزدوجة إذن.
وبعبارة أخرى: (اللغة) هي المختزنة للمعاني والحقائق، وهي عاجزة عن أن تعكس الحقائق، كما هي، بل لا تعكس إلا صورة مشوَّهة، أو ناقصة عن الحقيقة، أو في أفضل الفروض: صورة قريبة منها، وبعبارة أخرى: اللغة (وسيط) غير أمين في نقل الأفكار، كما أنه ليس بأمين في المرآتية للواقع.
(اللغة) قادرة وليست قاصرة
وهناك حزمة من الاعتراضات ترد على هذا المعنى:
أ ـ إن كان الكلام في (الإمكان الذاتي) فلا ريب أنه:
1: من الممكن عقلاً وجود (معيار موضوعي) للتمييز بين الحق والباطل والصحيح من الخطأ كما سبق.
2: كما يمكن عقلاً وجود (دالٍّ) يكشف بكل دقة عن المدلول وعن الواقع الخارجي، أو عن ما يدور في الذهن، فإنه ليس ذلك بـ(محال ذاتاً).
ب ـ وإن كان الكلام في (الإمكان الوقوعي) فكذلك؛ إذ (لا يستلزم) ذلك محالاً.
ج ـ وإن كان الكلام في (القدرة) فلا شك في أن (القادر) على خلق عالم التكوين المدهش، قادر على أن يخلق (عالم التدوين) بحيث يكون مرآة صافية عاكسة (لعالم التكوين)(1)، كما هو هو.
وليس بمهم في هذا المبحث تحقيق الحال في واضع اللغة وأنه الله تعالى، أم شخص واحد مثل يعرب بن قحطان، أو مجموعة من الحكماء على امتداد الزمن، كما لا يهم الآن تحقيق علاقة اللفظ بالمعنى وأنها ذاتية أم غيرها، إذ يكفينا في هذه المرحلة الإذعان بقدرة الله تعالى من غير فرق بين كلتا صورتي:
أن يخلق الله تلك الكلمات أو اللغة ثم يقذفها في أذهان عباده، بالإلهام أو غيره، أو أن (يمنح) الناس، القدرة على ابتكار تلك الكلمات، وخلقها(2)، قال تعالى: (تَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(3) فإن كل خالق، فإنه مستمد قدرته وعلمه وغيرهما، من الله تعالى.
د ـ بل إن العقل البشري ـ بإذن الله تعالى ـ قادر على ذلك ـ في الجملة، ألا ترى أن الإنسان (يضع) لمخترعاته، أسماء ومصطلحات، تعكس المسميات بصوابية وصحة ودقة، وتكشف عنها دون ريب، وذلك مثل أسامي (الطائرة، أو السيارة، أو المجمّدة، أو المدفأة، أو الكمبيوتر أو التراكتور) وكذلك يضع لأفكاره ونظرياته ومكتشفاته العلمية أسماء مثل (الاستجابة الشرطية) أو (المادية الجدلية) أو (المعقول الثاني المنطقي) أو (الأصل المثبت) أو (الموجهات المركبة) أو (الحال والتمييز) أو (النيوليبرالية) أو غير ذلك. وأن الذي يستخدم هذه الأسماء، في المحاورات العلمية والعرفية، لو استخدمها في غير الموضوع له، كان مخطئاً.
نعم، غاية الأمر أن يقال: إن هذه الأسماء وجود لفظي إجمالي(4) لتلك المسميات، ولا تحكي عن دقائقها وخصائصها حكاية تفصيلية، وهذا صحيح، لكن أين هو من كون اللغة تعكس الحقائق مشوّهة أو حتى ناقصة (أي تعكس جانباً دون آخر)؟ نعم إنها لا تعكس التفاصيل، وهذا غير معادلة الصواب والخطأ، ومعادلة أن (النسبية) تعني صحة كل الآراء المتناقضة التي تتجسد في الكلمات والمصطلحات، أو صحتها في زمن دون آخر.
بل نقول: إن (التفاصيل) أيضاً يمكن للغة أن تعكسها؛ إذ أننا لا نقول إن الكلمة الواحدة هي التي تعطيك المعرفة التفصيلية بل نقول: إن (الكلمات) قد تعطي معرفة إجمالية، أي معرفة مضغوطة، وقد تعطي ولو بانضمام كلمات أخرى إليها، معرفة تفصيلية، فـ(المخ) مثلاً، وجود إجمالي في عالم الإثبات، لذلك الجزء الكائن في (الجمجمة) من رأس الإنسان، ثم توجد كلمات أخرى تنزل للتفاصيل كـ(المخيخ) و(الفص الأمامي). ثم تفاصيل أخرى تعكسها كلمات أكثر دقة وتفصيلاً، مثل (العَصَبونات) و(النواقل العصبية) وغيرها، وكذلك الحال في (الاستجابة الشرطية) أو (الأصل المثبت) أو غيرها.
هـ ـ كما أن أدل دليل على إمكان الشيء وقوعه؛ إذ لا ريب في وجود ألفاظ كثيرة تعكس الحقيقة كما هي، وذلك في (المعقولات الأولى) و(المعقولات الثانية المنطقية) و(المعقولات الثانية الفلسفية)، بل قد يقال: إن كل الألفاظ الحقيقة هي كذلك، نعم (المجازات) ليست كذلك، فتأمل.
وـ ومع التشكيك في التعميم، نقول إنه قد نلتزم بوجود ألفاظ، أو (رموز وعلامات) تعكس (بطون) الحقائق، وشتى أبعادها، بحيث تتجلى الحقيقة، بتمام شؤونها وخصائصها، في (عالم الألفاظ) وليس للمنكر أن ينكر لمجرد أنه لا يعرف ولم يلحظ وجود هكذا كلمات؛ إذ :
أولاً: إن القاعدة تقول: (كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان، حتى يذودك عنه قائم البرهان) ـ كما أشار إليها أبو علي بن سينا وغيره ـ.
ثانياً: إن البرهان قائم على وجود هكذا ألفاظ أو رموز، عند المؤمن بالله وغيره، أما عند المسلم فالأمر واضح سهل؛ فإن القرآن الكريم هو كما وصفه تعالى: (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(5)، وأما المعصومون سلام الله عليهم فـ(أوتينا الحكمة وفصل الخطاب) (6) و: (فإن لكلامنا حقيقة وعليه نوراً).(7) ولكن كيف يمكن تصوير ذلك؟ هذا ما أشرنا إليه في (مباحث الأصول ـ القطع) وذكرنا له وجوهاً عديدة.(8)
وأما عند غير المسلم وغير الملتزم بأي دين ومذهب، فإنه يكفيه (نُظُم الترميز) ونظام (الصفر وواحد) المبني عليه (الحاسوب)، حيث يختزن هذان الرمزان، مليارات بل ترليونات الألفاظ في الشبكة العنكبوتية وغير ذلك، وليس هذا موضع بحث ذلك فلنتركه لمظانه(9) هذا.
وقد أكملنا جوانب من البحث عن اللغة في فصل آخر، فليراجع.
اضف تعليق