q

كيف يمكن للكائن الانساني التصرف بحرية اذا كان الخلق الديني هو الذي يقرر طبيعته؟ هذا الكتاب(1) بطابعه الابتكاري يعرض دليلا نصيا لا يمكن انكاره بأن عمانوئيل كانط كان منهمكا بهذه المشكلة الثيولوجية التقليدية طوال تاريخه العملي.

فصول الكتاب العشرة تعرض رؤية شمولية مفصلة لجميع الأعمال المكتوبة لكانط متناولة نطاقا كاملا لأعماله المنشورة وغير المنشورة. وبعد مقدمة عامة تُبرز خصوصية الكتاب –اي، تركيزه المتواصل على الكيفية التي حل بها كانط اللاانسجام الظاهر بين الفعل الديني والحرية الانسانية– تطرح الفصول 2 الى 4 مختلف مظاهر خلفيات المشكلة السابقة للنقد. الفصول 5-7 تركز على الحل الذي طرحه كانط من خلال اكتشافه للمثالية القبلية المفاهيمية transcendental idealism، اما الفصول من 8-10 توضح وترسم مختلف الاستدلالات الثيولوجية طبقا للموقف الكانطي. الصفحات الختامية (229-244) تضع كل الدراسة في سياق النزعة السائدة الاخيرة في تفسير فلسفة كانط الدينية: مع ان الكتاب يجسد بوضوح نزعة المفسرين المحدثين في رؤية كانط كمساهم بارز للثيولوجية المسيحية، لكن الكتاب يثير مشكلة لأي كانطي يرغب بالمحافظة على الموقف الارثودكسي من التفاعل الديني الانساني.

محتويات الكتاب

1- مقدمة

2- الخلق

3- هل الله حر؟

4- المشكلة

5- الحل

6- اللاانسجام

7- العقيدة

8- خلق مملكة الغايات

9- الحدوث التزامني

10- الميراث

ان المشكلة الثيولوجية التي قام المؤلف كريستوفر انسول بتسليط الضوء عليها طوال هذا الكتاب هي ان الارثودكسية المسيحية تتبنّى تفسيرا تزامنيا concurrence للانسجام بين الفعل الديني والحرية الانسانية(2)، بينما يبدو من فلسفة كانط النقدية انها تدافع عن التفسير المحافظ (فصول9-10). التفسير المحافظ، احيانا مرتبط برؤية خلق الله للكون مع بقاءه جزءاً منه (ص63، 202)، هذا التفسير يصف الفعل الديني الذي يتبنى اساسا خلق الاشياء في ذاتها noumenal(3) والمحافظة على استمراريتها ولكن بدون التدخل في التفاعلات اليومية بين الكائنات المخلوقة. الاطروحة التقليدية تفضل فهما اكثر صلابة، بموجبه ينسجم الفعل الديني مع السلسلة السببية التي ينخرط بها الكائن البشري، كلا الوظيفتين تشكلان شريكين في سبب واحد. تبنّي كانط للموقف المحافظ، حسبما يرى انسول، يوضح سبب اعتقاده في، "سيكون من التناقض القول ان الله هو خالق الظهور"CPrR 5:102. – وهو المقطع المقتبس تكرارا طوال هذا الكتاب.

كانط المحافظ يعتقد ان جعل الكائن البشري الخالق الوحيد للظهور appearances (كما تتطلبه المثالية المفاهيمية) هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على الحرية الانسانية بينما يؤكد في نفس الوقت ان الكائن الانساني (كذوات في ذاتها) خُلق بواسطة الله. لكن انسول يخشى من ان معظم الثيولوجيين المسيحيين، كونهم من انصار تزامنية الخلق، سيعتبرون هذا الحل اسوأ من المشكلة التي يسعى لحلها.

ومع ان كانط في مرحلته النقدية الناضجة ادخل تغييرا مميزا على رؤيته للانسان والحرية، لكن موقفه من طبيعة الحرية الدينية بقي ثابتا لا يتغير طوال عمله: خلافا للكائن الانساني، الله ليس حرا للعمل بطريقة اخرى لأن كانط لا يعتقد ان الطبيعة الدينية هي خارجية للرغبة الدينية. الحرية الدينية تتطلب من الله خلق عالم مطابق لأسمى خير اخلاقي. هذا ببساطة ما يعنيه ان تكون كائنا مقدسا لأن طبيعة الله (او فهم الله، كما يصفه كانط وانسول احيانا) هو اساس كل الإمكانية، لأنه طبقا لكانط، تنفيذ رغبة الله المقدسة في خلق العالم هي بالضرورة مقيدة بخيارات تؤدي ليكون العالم المخلوق خيرا. التغيرات التي حصلت مع اكتشاف المثالية القبلية هو انه في كتابات كانط ما قبل النقد يستطيع الله ان يختار بحرية كيفية التفاعل بين الاشياء، بينما المثالية القبلية تجعلنا السبب الوحيد للتفاعلات الظاهرية.

نقاش انسول عن رؤية كانط للحرية الدينية (فصل3) له حصيلة هامة:"مقدرتنا لعمل او لا عمل خيار هي ليست نفس مقدار القدرة على الفشل". يبدو ان رؤية كانط للخيرية الانسانية محددة ضروريا بالفضيلة لأن الحرية الانسانية تفشل في تقليد ارادة الله بواسطة القانون الاخلاقي.

المشكلة الرئيسية التي يواجهها كانط (والتي يطرح لها الحل بنمط ثيولوجي) هي اننا على خلاف الله، يمكننا ان نتأثر "بأسباب غريبة" alien causes. انسول يصف كانط وهو ينتقل من الرؤية ما قبل النقد (الثيولوجية التقليدية) بان الله هو بيننا واننا، كما هو الله، نستطيع التصرف بحرية بدون ان نكون قادرين على اختيار خيار آخر، الى الرؤية النقدية (الشائكة ثيولوجيا) بان الله هو "سبب غريب" واننا يجب ان نكون قادرين على اختيار خيار آخر لكي نتصرف بحرية. ورغم ان انسول يقدم القليل من الدليل فهو لا يقنعنا بان كانط اعتبر الله سببا غريبا، لكنه من الواضح اعتبر ادّعاءات الانسان حول رغبة الله كامثلة لعناصر تحفيز خارجية. مع هذا التعديل البسيط، تصبح رؤية انسول اكثر عمقا: كانط يصر بان الله ليس خالقا للظهور لأن الظهور هو مصدر الاسباب الخارجية التي تقيد الخيار الواعي للانسان في البحث عن الفضيلة وتمنعه من المشاركة في المجد الالهي.

يعترف انسول بقراءة نصوص كانط انتقائيا باحثا فقط عن العبارات التي تناقش موقف كانط من هذه المشكلة الثيولوجية الخاصة. وهكذا، بعد ملاحظة ان نظرية كانط الناضجة في "الحرية العملية"ربما هي "اقل طموحا من الناحية الميتافيزيقية"من نظريته في "الحرية المفاهيمية"، هو يتجاهل الاولى بدون الاعتراف ان العملي لدى كانط دائما له السيادة على النظري. وبشكل عام، عيوب هذا الكتاب هي ثانوية.الأخطاء الطارئة تتضمن سقوط عرضي للجزء الاكبر من جملة واحدة(ص24)، الاسلوب احيانا مكرر بما يثير الاستياء، والنقاط الاساسية في الجدال تعتمد على مقالات غير منشورة رغم توفر الاعمال المنشورة حول المواضيع ذات الصلة. انسول احيانا يستعمل مصطلحات هامة بطريقة ليست كانطية، مثلما يسمي "الاشياء في ذاتها" صنفا (ص99، 116، 120).

هذه العيوب جرى موازنتها بقوة الفصول المركزية للكتاب: فصل 5 يؤسس الأهمية الاساسية التي منحها كانط للنقد اللاعادل لمذهب "تاثير الاشياء في ذاتها"، فصل 6 يبين كيف ان اللاتماسك الذي اصاب ادّعاء كانط لا يمكن تجنبه بطرق هامة اما فصل 7 يدافع عن جدية وتماسك ادعاء كانط في الايمان بالاله الحقيقي.طوال إعداد الدليل النصي غير القابل للطعن، يصف انسول كانط كمؤمن قوي في السببية الذاتية، التي لم يعتبرها ابدا مخالفة للحدود الحاسمة لمبدأ السببية للعالم الظاهري، وانما، "السببية الاولى في ذاتها" هي حل مبدع تقدمه المثالية المفاهيمية لمشكلة استمرارية الحرية الانسانية مع التأكيد في نفس الوقت على الخلق الديني. درجة اللاتماسك التي تميز مفسري نظرية كانط يجب القبول بها كتطبيق جذاب لثيولوجية كانط في وصف الله. اذا كان الامر هكذا، الا يبدو ان هذا الحل بمنع الله من التدخل المباشر في خلق الظهور هو نسبيا مجرد تضحية صغيرة؟

لا يعتقد انسول بذلك، معتبرا في ذلك الكثير من التضحية. في الفصل التاسع خاصة (ص 215) يجادل الكاتب، رغم ان كانط يدافع ظاهريا عن نوع من الحدوث التزامني الديني، هو يسمح به فقط في عالم الاشياء بذاتها، وليس لظاهرها (بما فيها الافعال الاخلاقية التي تحدث في نفس الوقت) – وهذا لا يكفي للثيولوجيا المسيحية التقليدية.

ولكن كما يبدو من قراءة المقاطع الملائمة، كانط لم ينكر تزامن الحدوث الطبيعي، جداله كان باستمرار معمقا وواسعا. عندما نفسر العالم (وانفسنا) من زاوية نظرية، معتبرين الله خالقا للظهور سوف نرتكب خطأ التصنيف. انسول صادق في قوله ان "كانط يصر على اننا يجب ان نعتبر انفسنا مخلوقين فقط فيما يتعلق بوجودنا كذوات، ولكن كظهور نحن يجب ان لا نعتبر انفسنا مخلوقين"(ص173). وبينما تزامن الحدوث الكانطي يسمح لله لإكمال الفعل الذي يتخذه الانسان، فان المظهر الانساني للفعل "يجب ان لا يُمس من جانب الفعل الديني، اذا اريد للفعل الانساني ان يكون له قيمة اخلاقية"(ص217). هذا سبّب الاستياء لانسول لأنه لا يقدّر الطبيعة الفكرية لرؤية كانط: من الزاوية النظرية نحن ايضا يجب ان لانعتبر انفسنا (او الظهور) ليس خلقا دينيا، جهلنا النظري بالمفاهيمي القبلي يمنعنا من التأكيد الدوغمائي على اي موقف. ذلك ان الخلق الديني حين لا يمارس دورا ضروريا في معرفتنا التجريبية او في تفكيرنا السببي ذلك لا يمنعه من لعب دور منظم -- وهي الإمكانية التي لا يستكشفها انسول بما يكفي.

استنتاج

يكافح كانط بقوة مع مشكلة كيفية تصوّر خلق الله في اطار علاقتها مع حرية الانسان. هو يؤمن بفكرة ان الحرية الانسانية يتم حمايتها فقط حين ينسحب الله من العالم المخلوق. الدعامتان الرئيسيتان لفلسفة كانط الناضجة (المثالية المفاهيمية والحرية) تميزتا وتحفزتا بحاجة كانط الى ايجاد حل لمشكلته الثيولوجية. الرؤية الثيولوجية للقرون الوسطى وفترة الحداثة المبكرة تتصور الفعل الديني بشكل مختلف عن فعل اي مخلوق. عندما يتصرف المخلوق، يكون الله هو السبب المباشر لهذا الفعل، ولكن بدون التقليل من حرية المخلوق. كانط يناقش بوضوح ويرفض هذا التفسير للفعل الديني والبشري. هذا الرفض له انعكاس هام في فلسفة كانط الموسعة وفي توضيح الادعاءات الغامضة في فلسفته النقدية. الكاتب انسول يعرض دراسة رصينة ومقنعة في تاريخ الافكار متناولا نطاقا واسعا من كتابات كانط من عام 1749 حتى بداية عام 1800، العديد من هذه النصوص لم تنل اهتماما في دراسة كانط الى اليوم. انسول يضع افكار كانط في علاقة مع المواقف التاريخية والتقليدية الهائلة ويسلط الضوء على هذه المواقف بالانخراط الوثيق والمباشر بالنقاشات الاخيرة في الفلسفة التحليلية والثيولوجيا المنهجية. كانط كان صادقا وثابتا عند تعامله مع هذه المشكلة الصعبة في العلاقة الدينية الانسانية.

هذه الدراسة لكفاح كانط وميراثه الثيولوجي تمتد الى قلب المشكلة في تناول تأكيدات التقاليد المسيحية الحديثة حول حرية الانسان. وبهذا فان الكتاب يلقي الضوء على واحدة من اهم الاتجاهات في الفلسفة والثيولوجيا الحديثة.

* Philosophy in Review (February 2016)

...............................
الهوامش
(1) كتاب كانط وخلق الحرية: مشكلة ثيولوجية للكاتب Christopher J. Insole، صدر عام 2013 عن مطبوعات جامعة اكسفورد.

2- فكرة الحدوث المتزامن تعني ان كل من الله والمخلوق يساهمان سببيا في التأثير او النتيجة. صحيح ان الله هو السبب في وجود الاشياء من لحظة الى اخرى، لكن هناك سببية اخرى secondary causality لها تأثيرها في الوجود. طبقا لهذه النظرية، التأثير يحصل بفعل كل من الله والسبب المخلوق، اي ان الله والاشياء الموجودة بما لديهما من قوة سببية يشكلان اسباب مباشرة في عملية الخلق.
3- طبقا لكانط، من الضروري التمييز بين ما يبدو لنا من الظواهر وبين الاشياء في ذاتها. الظاهرة phenomena هي الظهور او ما نراه و نحسه من الاشياء والتي تشكل تجربتنا، اما الاشياء في ذاتها noumena فهي تشكل الحقيقة. جميع احكامنا القبلية التركيبية تنطبق فقط على العالم الظاهري وليس على الاشياء في ذاتها.(فقط في هذا المستوى من التجربة يكون لدينا المبرر لفرض مفاهيمنا اثناء معرفتنا بالاشياء). وبما ان الاشياء في ذاتها هي بحكم التعريف مستقلة تماما عن تجربتنا بها، لذا سنكون جاهلين تماما بعالم هذه الاشياء.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق