في عالم الأدب، هناك أصوات قليلة قادرة على نقل تفاصيل الواقع بأسلوب يلامس الروح ويفجر الأسئلة الكبيرة حول الزمن، القدر، والاختيارات الشخصية. واحدة من تلك الأصوات المميزة هي الكاتبة روسم عبد السادة جبر، التي نجحت في روايتها "العودة بالزمن" في رسم صورة معقدة للمجتمع العراقي بعد عام 2003...

في عالم الأدب، هناك أصوات قليلة قادرة على نقل تفاصيل الواقع بأسلوب يلامس الروح ويفجر الأسئلة الكبيرة حول الزمن، القدر، والاختيارات الشخصية. واحدة من تلك الأصوات المميزة هي الكاتبة روسم عبد السادة جبر، التي نجحت في روايتها "العودة بالزمن" في رسم صورة معقدة للمجتمع العراقي بعد عام 2003، وتحديدًا التحديات التي تواجه النساء في هذا السياق المضطرب. من خلال حديثنا معها اليوم، سنغوص في أعماق الإلهام الذي دفعها لكتابة هذه الرواية، ونكتشف كيف تنسج شخصياتها في مواجهة الحرب، السلام، والظروف القاسية. هذا الحوار ليس مجرد حديث عن رواية، بل هو رحلة فكرية وفلسفية حول ما يعنيه أن نكون إنسانًا في عالم يتغير بسرعة، وكيف يمكن للخيال أن يعكس الواقع.

ما الذي ألهمكِ لكتابة رواية "العودة بالزمن"؟

الإلهام وراء كتابة رواية العودة بالزمن جاء من النقاشات اليومية التي نخوضها، خصوصًا بين النساء في المجتمع العراقي. هذا المجتمع الذي درسه علي الوردي وكتب عنه كثيرًا. أردت تسليط الضوء على تجربة النساء العراقيات عبر قصص امرأتين تعيشان قبل 2003 وخلال الحرب وبعدها. الرواية تستعرض الصعوبات التي تواجهها النساء في حياتهن اليومية، والتي قد تبدو عادية للبعض، لكنها تؤثر عليهن بشكل كبير.

ركزت على التحديات التي تواجه النساء في التعليم، العمل، والتطور، وكيف يتم دفن العديد من المواهب الفنية، الأدبية، والعلمية بسبب القيود الاجتماعية. أردت إيصال رسالة مفادها أن للمرأة الحق في الاختيار، سواء اختارت أن تكون ربة بيت أو أن تسعى للعمل والتطور. المرأة قادرة على أن تكون أمًا، عاملة، ومربية أجيال في آنٍ واحد لأنها خُلقت قوية ومنتجة. هذه الأفكار ألهمتني لكتابة الرواية لتسليط الضوء على هذا الجانب المهم.

هل كانت هناك شخصية أو حدث في الرواية مستوحى من تجربتكِ الشخصية أو من أشخاص تعرفينهم؟

لا توجد شخصية في الرواية منسوخة من الواقع بنسبة 100% لأنها ليست مستوحاة من قصة واقعية بالكامل. لكن بما أن الرواية تتناول فترة 2003 في العراق وما بعدها، في البصرة تحديدًا، قد أكون استلهمت بعض الحوارات أو الأحداث من أشخاص عرفتهم أو سمعت عنهم.

أؤمن أن الكاتب يضع جزءًا من روحه ومشاعره في شخصياته وحواراته، وهذا ما يجعل كل شخصية تحمل صفات قد تكون مستمدة من أشخاص مررت بهم في حياتي. على سبيل المثال، هناك محاورة في الرواية استلهمتها من حديث دار بيني وبين فتاة مراهقة تحت العشرين. هذا الحوار، الذي تناول الفرق بين الذكر والأنثى في المجتمع، أعجبني كثيرًا، لدرجة أنني خصصت له صفحة كاملة في الرواية.

أردت من خلال هذا الموقف تسليط الضوء على قضية اجتماعية أزلية: منح الثقة الكاملة للولد وتقييدها للبنت. ومع أن الجيل الجديد قد بدأ يتغير، إلا أننا بحاجة إلى تغيير إيجابي جوهري يحترم مكانة الرجل والمرأة وحقوقهما وواجباتهما.

لماذا اخترتِ البصرة كمسرح لأحداث الرواية؟

اخترت مدينة البصرة كمسرح لأحداث الرواية للأسباب التالية:

1. ارتباط الموضوع بالمكان: قررت أن أتطرق إلى مواضيع جوهرية وأحداث حقيقية حدثت بعد حرب 2003. لذلك، كان من الضروري أن أختار مكانًا عشته وأعرف طبيعته، وأكون قادرة على التعبير عن ظروفه الاجتماعية وبيئته بشكل واقعي.

2. طبيعة البصرة وثقافتها: البصرة مدينة تميل إلى التحفظ مقارنة ببغداد التي تُعد أكثر تحررًا. وبما أن الرواية تتناول مواضيع مجتمعية حساسة، خاصة فيما يخص النساء، شعرت أنني أحتاج إلى مكان أعرف تفاصيله عن قرب.

3. التعايش مع المدينة: بما أنني عشت في البصرة فترة من الزمن، فأنا أجدها المكان الأنسب للكتابة عن هذه المواضيع، خاصة أن البداية في الكتابة غالبًا ما تكون من مكان نألفه ونفهمه جيدًا.

4. حب خاص للبصرة: برأيي الشخصي، لا يوجد أجمل من البصرة كمكان أبدأ به روايتي، وأحدد تمركز الشخصيات فيه. كنت أتمنى لو خصصت المزيد من السطور للتغزل في وصف جمال مدينتنا البصرة.

 كيف أثر السياق التاريخي (ما بعد حرب 2003) على مسار الرواية وشخصياتها؟

السياق التاريخي بعد حرب 2003 كان له تأثير كبير على مسار الرواية وشخصياتها، حيث سلط الضوء على الأزمات النفسية والاجتماعية التي واجهتها الشخصيات، خاصة النساء. هذه التأثيرات لم تكن محصورة في الشارع العراقي فقط، بل امتدت إلى العلاقات الأسرية والإنسانية داخل محيط الأسرة، مما شكل جزءاً مهماً من تطور الشخصيات وتفاعلاتها مع الأحداث المحيطة بها.

 كيف تعكس الرواية التحديات الاجتماعية والسياسية في العراق من خلال حيوات البطلتين، والعلاقة بين الحلم والواقع في مجتمع مضطرب؟

الرواية تعكس التحديات الاجتماعية والسياسية في العراق من خلال حياة البطلتين، حيث تسعيان لتحقيق واقع أفضل رغم الصعوبات. العلاقة بين الحلم والواقع في الرواية توضح كيف أن الحلم يصبح أداة للهروب المؤقت من الظروف، ولكن الاضطراب الاجتماعي والسياسي يؤدي إلى تأجيل أو اختفاء بعض الأحلام.

ما الرسالة الأساسية التي أردتِ إيصالها من خلال الرواية، وما الرمزية التي تحملها فكرة العودة إلى الزمن في تحقيق هذه الرسالة؟

الرسالة الأساسية التي أرادت الرواية إيصالها:

الرسالة الأساسية في الرواية هي الصبر والقوة وعدم الاستسلام. كما تعكس الرواية فكرة أن المواجهة ليست دائمًا هي الحل، بل إن هناك بعض الأمور التي يجب أن تُترك كما هي عندما تأخذ مسارًا آخر. هذه الفكرة تبرز أهمية تقبل الظروف وعدم محاولة تغيير كل شيء.

الرمزية التي تحملها فكرة العودة بالزمن:

أما بالنسبة لرمزية العودة بالزمن، فهي تعكس رغبة متجذرة في داخل كل شخص لتغيير بعض الأحداث والاختيارات غير الصائبة. ومع ذلك، تطرح الرواية السؤال المهم: هل من الصائب تغيير ما اختاره لنا القدر وساقته لنا الظروف؟ هذه الرمزية ستكون محور تركيز الرواية، حيث تدور حول التساؤلات الفلسفية حول القدر والاختيارات الشخصية.

كيف ترين تطور شخصيات الرواية في ضوء تغير الظروف من الحرب إلى السلام؟

تتطور شخصيات الرواية بشكل ملحوظ في ضوء تغير الظروف من الحرب إلى السلام. الحرب، بما تحمله من موت وحزن وكآبة وضياع أحلام، تمنح الشخصيات "عمرًا فوق عمرهم" من خلال ما يواجهونه من تحديات وصعوبات. الحرب تؤثر على قوة الشخصيات وصبرهم، وتغير الواقع المحيط بهم بشكل جذري. بعض الأشخاص قد يستغلون هذه الفرص لتغيير واقعهم للأفضل حتى وإن كان على حساب الآخرين والمقربين.

من ناحية أخرى، الحرب تحول الغني إلى فقير والفقير إلى غني، كما أنها قد تصبح فرصة لمن يسعى لتغيير صفحة مظلمة في حياته وتحويلها إلى صفحة بيضاء. أما إذا نظرنا إلى التطور من زاوية معنوية، فإن الشخصيات في الرواية تختار السلام كمرحلة مؤقتة وسط الحرب، حيث توفر فرصة للجريح للشفاء وللطير ليُنبت ريشه من جديد.

كما تقول مريم في الرواية: "السلام كلمة ليست مرادفة للاستسلام، هي مرحلة مؤقتة تعطي للجريح وقتًا لكي تشفى جراحه وللطير لكي ينبت ريشه حتى يطير".

ما الفرق في طريقة مواجهة البطلتين للظروف الصعبة، وكيف أثر البيت والبيئة الأسرية على قرارتهما وتصرفاتهما؟

الفرق في طريقة مواجهة البطلتين للظروف الصعبة يكمن في شخصية كل منهما. مريم تتمتع بالقوة والوعي، حيث تتبع صوتها الداخلي وتعرف كيف تدفن مشاعرها وطموحاتها لتحقيق أهدافها. أما نور، فهي رومانسية وعاطفية، وأقصى أحلامها هو الحصول على أسرة صغيرة سعيدة ومستقرة، وأي تهديد لهذه الصورة يربكها ويجعلها غير قادرة على المواجهة.

أما تأثير البيئة الأسرية، فمريم ربما نشأت في بيئة ساعدتها على تطوير قوتها ووعيها، بينما نور تأثرت ببيئة شكلت لديها رغبة في الاستقرار الأسري.

هل تعتقدين أن الظروف الصعبة تصنع من الإنسان شخصًا أقوى دائمًا، أم أن الظروف الاجتماعية يمكن أن تقيد قدرة الفرد على الحلم؟

الظروف الصعبة تختلف من شخص لآخر في تأثيرها. قد تكون لها آثار إيجابية على البعض، لكنها ليست بالضرورة تصنع شخصًا أقوى دائمًا. قد تؤلمك هذه الظروف وتكسرك، وتقتل كل الأمل بداخلك، مما يجعلك تتخلى عن المحاولة. حتى عندما تحقق حلمك بعد معاناة، قد تفقد لذة الوصول إليه. أحيانًا، عندما تتأخر الأحلام في التحقق، يفقد الأمل بريقه ولونه.

ما دور الروتين والضغط الاجتماعي في تشكيل حياة البطلتين؟

الروتين بعد الحرب ليس مزعجًا بل ضروري لإعادة الحياة إلى مسارها الطبيعي، حيث يساعد البشر على استعادة نعمة الحياة اليومية بترتيبها. أما الضغط الاجتماعي فكان له تأثير كبير على حياة البطلتين، حيث اضطررتا للخضوع لقوانين المجتمع في تلك الفترة، مما أدى إلى تعطيل بعض الأحلام والطموحات وتغيير مسارات حياتهن. الحرب لعبت دورًا في تغيير مصائر الناس.

ماذا تقولين للقراء الذين قد يفكرون في العودة إلى الماضي لتغيير قراراتهم، وكيف يمكنهم تعلم التصالح مع الماضي من خلال روايتكِ؟

في داخل كل شخص رغبة في العودة لتغيير بعض القرارات، لكنني أؤمن بأن كل شيء في الحياة هو اختيار. عندما تختار بين قرارين، فأنت تعلم أن هناك مسارات متعددة تؤدي إلى نهايات معينة. لا نستطيع تغيير قرارات الماضي، لكن يمكننا التحكم في الحاضر والحد من تأثير تلك القرارات مع مرور الوقت. الماضي غير قابل للتغيير، لكن المستقبل دائمًا ينتظرنا.

ما أصعب جزء واجهته أثناء كتابة الرواية؟

أصعب جزء واجهته في كتابة الرواية كان تجسيد مشاعر الحزن والخيانة التي عاشتها الشخصية "نور"، وكذلك الفراغ والوحدة التي كانت تشعر بها رغم وجود الآخرين حولها. كما كان من الصعب التعبير عن مشاعر الفقد التي مرت بها الشخصية "مريم" بعد فقدان شخص عزيز.

ما العلاقة بين العودة بالزمن كفكرة روائية والفلسفة التي تحملينها عن الحياة، وكيف تعكس السعادة واختياراتنا الشخصية في الرواية هذه الفلسفة؟

فكرة العودة بالزمن كفكرة فلسفية قد تكون مرعبة، حيث قد تتوه الأرواح المتقبلة لواقعها واختياراتها وتؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في الأقدار. بدلاً من تغيير الماضي، يمكننا قلب الواقع لصالحنا، وهو ما فعلته الشخصيات في الرواية. الشخصيات خرجت من النمطية والمتعارف عليه، واتخذت اختيارات جديدة رغم اعتراض المحيط حولهما، مما يعكس الفلسفة التي تحملها الرواية عن الحياة والسعادة واختياراتنا الشخصية.

 ماذا يمثل الغلاف الفني للرواية وكيف ينسجم مع مضمونها؟

الغلاف الفني للرواية يمثل تجسيدًا بصريًا لمضمونها، حيث حرصت على اختياره بعناية. طلبت من الفنانة التشكيلية فرح اليوسف رسم غلاف بعد أن قدمت لها نبذة عن محتوى الرواية، وكانت النتيجة رسم تخيلي يعكس شكل الشخصيتين.

إذا أتيحت لكِ الفرصة للعودة إلى الماضي، هل ستغيرين شيئًا في حياتكِ؟

لا أحب أن ألتفت إلى الوراء أو أعود إلى الماضي، فأنا دائمًا أفضل التقدم والعيش في الحاضر. أما الباقي فهو بيد الله. لكن إذا أتيحت لي الفرصة، سأختار إعادة شخص عزيز فقدته في حياتي.

بعد أن أبحرنا في أفكار الكاتبة روسم عبد السادة جبر وعوالم روايتها "العودة بالزمن"، نكون قد استطعنا فهم عمق الرسالة التي تسعى إيصالها من خلال سرد قصة تتناول التحديات الاجتماعية والسياسية في العراق. لقد سلطت جبر الضوء على قضايا مؤثرة تتعلق بالمرأة، والتغيرات التاريخية التي مرت بها البلاد، وذلك بأسلوبٍ أدبي متقن وعاطفي. نأمل أن تواصل الكاتبة في رواياتها القادمة تقديم رؤى جديدة تساهم في الحوار الأدبي وتفتح أبوابًا لفهم أعمق لمجتمعنا ومآسيه وآماله.

اضف تعليق