تحتل التنمية الريفية اهمية كبيرة في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وذلك لما لها من دور كبير في ترصين وتعزيز قوة الاقتصاد عبر الاستثمار العقلاني للموارد المتاحة في الريف، الذي ينعكس على تقليل البطالة وتوفير الغذاء والتقليل من التبعية، ولها دور في تحقيق التوازن في التوزيع السكاني جغرافياً وبيئياً، الذي ينجم عنه تقليل الهجرة، والتخفيف من الضغط على الموارد والخدمات المقدمة الى الافراد في المدينة، الذي يحصل في حال زيادة الهجرة الى المدينة، وتساهم ايضاً في الحد من تلوث البيئة عبر زيادة مساحة الاراضي الخضراء من ناحية وانخفاض الطلب على النقل والمواصلات والمصانع التي تعتبر اساس التلوث في الماء والهواء والتربة.
ان الحد من التوزيع السكاني المشوه الذي يحصل بسبب التركز السكاني في مناطق دون اخرى وذلك بفعل عامل التحضر، يتطلب من الدولة تبني سياسات زراعية تجعل من تنمية الريف في اولويات اهدافها ولتكون عامل جذب وتوطين لقوة العمل المهاجرة وعامل تصحيح لتشوه قطاعي يتمثل بتضخم القطاعات غير السلعية. كما ان الاهتمام بالتنمية الريفية ووضعها ضمن الاولويات ستؤدي الى حل الكثير من المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد والمجتمع كالبطالة وعجز الموازنة العامة وعجز ميزان المدفوعات والهجرة والامن والبيئة وغيرها.
بالإضافة الى السياسات الزراعية التي يمكن ان تتخذها الدولة لتشجيع التنمية الريفية، ينبغي الاهتمام بالجوانب الاتية التي تُعد اساس التنمية الريفية والتي تشجع على توطين سكان الريف وعدم هجرتهم الى المدينة من ناحية وربما حصول الهجرة العكسية -الهجرة من المدينة الى الريف- وتقليل التركز السكاني من ناحية اخرى، وبالتالي يمكن ان نحصل على نوع من التوازن في التوزيع السكاني.
ان الاهتمام بالتنمية الريفية يتم من خلال الاهتمام بعدة جوانب من اهمها: الجانب الاقتصادي والتعليمي والصحي والتكنولوجي والخدمي والاسكاني والمصرفي، هذا الاهتمام يؤدي الى حل مسألة التركز السكاني بالإضافة الى حل الكثير من المشاكل الاجتماعية والاختلالات الاقتصادية.
الجانب الاقتصادي: اي الاهتمام بجانبي العرض، وذلك من خلال ايجاد ما يحفز سكان الريف على الاهتمام بالإنتاج الزراعي بفرعيه النباتي والحيواني، وتوفير مقومات ذلك الانتاج كالمياه والآلات والمكائن والابنية والاسمدة والبذور المحسنة، والعمل على ايجاد افضل السبل للدعاية والاعلام التي تروج ما ينتجه المزارعين داخلياً وخارجياً، لزيادة الطلب على المنتجات الزراعية، وهذا ما يشجع سكان الريف على التوطن للحصول على المزيد من الارباح، بل ان اهالي المدينة ربما سيلتحقون في ركب الانتاج الزراعي نتيجة توفر فرص العمل والارباح التي يحصلون عليها في حال قيامهم بالإنتاج. إذ ان المدينة تعاني من شحة فرص العمل وانخفاض اجور العامل بسبب زيادة عرض الايدي العاملة نتيجة التركز السكاني.
الجانب التعليمي: احد اسباب تخلف المناطق الريفية هو انخفاض المستوى التعليمي، إذ اجريت العديد من الدراسات الاقتصادية التي تشير الى وجود علاقة قوية وسببية ما بين التعليم والنمو الاقتصادي، فانخفاض المستوى التعليمي يؤدي الى انخفاض النمو الاقتصادي والعكس صحيح، اذ معروف ان التعليم وتنمية مهارات الافراد يؤدي الى زيادة الانتاجية، ويقلل من مستويات البطالة والحصول على الدخول، فالاهتمام بالمستوى التعليمي بكافة مراحله وخصوصاً التعليم المهني الزراعي في الريف، يجعل الافراد اكثر انتاجاً، والحصول على ما يحصل عليه الافراد في المدينة من المستوى التعليمي وكذلك الوظائف فتقل فكرة الافراد في الهجرة الى المدينة.
الجانب الصحي: ان زيادة الاهتمام بالجانب الصحي يزيد من قوة وقابلية الافراد في الريف على اداء العمل فكرياً وعضلياً، من خلال زيادة الوعي لدى سكان الارياف بالأمراض وخصوصاً المعدية، والاهم هو توعيتهم بالوقاية من الاصابة بالأمراض، من خلال اقامة الندوات والحوارات التي توضح مدى خطورة واثار الامراض وخصوصا المستعصية، مع توفير المستشفيات والمراكز الصحية والادوية وغيرها.
الجانب التكنولوجي: تعرف التكنولوجيا بأنها (ذلك الجهد المنظم والذي يهدف إلى استخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب أداء العمليات الإنتاجية)، وتعني في المجال الزراعي كل ما يتعلق بتطبيق أو استخدام العلم في تطوير مدخلات الإنتاج الزراعي، كالآلات الزراعية وطرائق استعمالها وكذلك المبيدات والبذور والأسمدة وأنظمة الري والبحث العلمي و....الخ. حيث ان ادخال التكنولوجيا الحديثة في الزراعة واستعمال محاصيل ذي انتاجية عالية واستصلاح التربة واقامة شبكة من المبازل المغطاة والمفتوحة وربط المؤسسات العلمية مع المؤسسات الزراعية ومع الفلاح ستزيد من المعرفة الزراعية لديه وبالتالي ستعمل على زيادة الانتاج وزيادة المبيعات والارباح ومن ثم زيادة دخل الفرد في الريف.
الجانب الخدمي: (النقل، الماء، الكهرباء، الاتصالات)، يعد توفير البنى التحتية احد مقومات التنمية الريفية التي تساعد على التوطن وتزيد من رغبة الافراد في زراعة اراضيهم دون ان يعانوا من المشاكل التي يعانوا منها في المدن كالتلوث والضوضاء وغيرها. لكن في حال عدم توفرها فان اغلب الاسر ستهاجر الى المدينة للتنعم بهذه الخدمات، وهذا يزيد من التركز السكاني الذي يتطلب المزيد من الانفاق على تلك البنى لمواجهة الزيادة الحاصلة الناجمة عن الزيادة السكانية.
الجانب الاسكاني: توفير الاسكان الريفية بشكل كمي ونوعي وتوفير القرى العصرية والاعتناء بها مع توفير مستلزمات الحياة فيها كما مذكورة في الجوانب السابقة، ستقلل من نزوح وهجرة سكان الريف الى المدن بل ان توفير الاسكان في الريف سيشجع الذين نزحوا نحو المدن الى العودة الى الريف وهذا ما يعني انخفاض عدد السكان في المدن والتخفيف من الضغط على الخدمات المقدمة والمقننة على اساس عدد سكان المدن.
الجانب المصرفي: يمارس الجهاز المصرفي دوراً كبيراً في تمويل التنمية وخصوصاً التنمية الريفية وتيسير الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتسييرها في المناطق الريفية من خلال ما يوفره من الاموال للمنتجين وسكان الريف لتمويل ما يحتاجونه من اموال لتمويل حاجاتهم الاستهلاكية وخصوصاً الاستثمارية كالآلات والمكائن الزراعية وتشييد الابنية والحقول لتربية كافة الحيوانات …إلخ.
تشير خطة التنمية الوطنية 2010-2014 الى ان التنمية الريفية في العراق تواجه تحديات كبيرة بسبب الاداء المتواضع للقطاع الزراعي في مجال الانتاجية وتوليد الوظائف، وكذلك الاسكان غير الملائم والبنى التحتية الضعيفة في الريف. لذلك تسعى الخطة الى تقليل الفوارق والحواجز ما بين المناطق الحضرية والريفية من ناحية توفير البنى التحتية، الخدمات الاجتماعية، ومجالات توليد الوظائف الجديدة، مما يدعم احتواء الهجرة من الريف الى المدينة والتي تتسبب في ضغوط سلبية على الخدمات والبنى التحتية الموجودة وخاصة في الحواضر الكبرى، إلا انها لم تستطيع تحقيق ذلك.
إذ لازال العراق يعاني من تفاوت كبير في توزيع السكان بيئياً (الحضر، الريف)- لو لم يعاني من تفاوت لم تم تناوله في خطة 2013-2017- حيث ترتفع نسبة السكان في الحضر لتصل في عام 2009 ما يقارب 69% من اجمالي السكان كما اشارت اليه خطة التنمية الوطنية 2013-2017، وتبين ايضاً ارتفاع هذه النسبة الى 69.4% عام 2013 وتتوقع ارتفاعها الى 70.3% عام 2017، في حين لم تشكل نسبة سكان الريف سوى 31% عام 2009 وتنخفض الى 30.6% عام 2013 وتتوقع انخفاضها الى 29.7% عام 2017. ويعزى ذلك التفاوت على عدة عوامل من بينها الهجرة الداخلية والتغيير في نمط الحراك السكاني متأثرة بفقدان الامن وظاهرة التهجير القسري والتباين في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي ناهيك عن غياب سياسات متخصصة تهتم بتنمية الريف.
وجدير بالذكر، كما ان العراق يعاني تفاوت كبير في توزيع السكان بيئياً، يعاني ايضاً من تباين مماثل لتوزيع السكان مكانياً وهيمنة مركز سكاني واحد هو العاصمة بغداد على المنظومة الحضرية، مسبباً اثاراً اقتصادية واجتماعية ذات ابعاد سلبية، حيث توضح خطة التنمية الوطنية 2013-2017 ان سكان محافظة بغداد لسنة 2012 يشكلون 21.2% من سكان العراق بينما لا تشكل مساحتها سوى 1% من مساحة العراق، كما يعيش حوالي خمس سكان العراق في المحافظات الثلاث بغداد، البصرة، نينوى. في المقابل هناك ثلاث محافظات تشكل نصف مساحة العراق الا ان نصيبها من السكان حوالي 11% فقط وهي الانبار والمثنى والنجف.
لا يزال العراق يعاني من استمرار التحديات التي تواجهه في مجال السكان وتوزيعهم مكانياً وبيئياً، وعلى رأس تلك التحديات استمرار ارتفاع معدلات النمو السكاني الى ما يقارب 3% وانفصامه عن مستويات التنمية، وهذا ما يفاقم ويزيد من حدة النمط الاستهلاكي في الاقتصاد والمجتمع والاستثمار غير العقلاني للموارد، بالإضافة الى ان استمرار ظاهرة الهجرة من الريف وتركزها في عدد محدود من المدن وخصوصاً العاصمة بغداد وتأتي مراكز المحافظات على حدها، ستولد ضغوطاً اقتصادية واجتماعية بيئية ونقصاً في الخدمات في هذه المناطق من ناحية ومن ناحية اخرى ستفقد المناطق المهاجر منها ولا سيما المناطق الريفية من مواردها البشرية المنتجة مما يحد من دورها التنموي مالم توضع الحلول المناسبة لها والاهتمام بالجوانب المذكورة اعلاه، التي تمثل اساس التنمية الريفية.
ومن اجل مواجهة تلك التحديات والحد من التركز السكاني ينبغي تفعيل الجوانب التي تم ذكرها سابقاً لتشجيع السكان وخصوصاً الذين هاجروا من الريف على اقل تقدير، الى مناطقهم، تلك الجوانب يمكن تفعيلها من خلال تفعيل سياسات التنمية المكانية باتجاه المناطق الاقل نمواً للحد من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي مع المناطق الاكثر تطوراً، وتبني استراتيجية شاملة للتنمية الريفية جاذبة للاستثمارات باعتبار الريف من اكثر المناطق فقراً في البلاد، واعادة توزيع قوة العمل جغرافياً وقطاعياً لتحقيق التوازن التنموي والجغرافي للسكان وخاصة الحضري والريفي.
اضف تعليق