في فجر كل يوم أسمع صراخا من فتى لم يتعدَّ 12 سنة من عمره، الصراخ موجع حقيقة، والأب يتعامل مع ابنه بخشونة وقسوة واضحة، والأمر الذي فوجئت به كثيرا أن الأم تفوق زوجها خشونة وقسوة على ابنها، هذا السلوك أمر نادر بين الأمهات، فالأم هي المحامي والمدافع القوي عن أبنائها ضد زوجها، وفي أسوأ الأحوال اذا لم تستطع الوقوف مع أولادها فإنها تتخذ موقف الصمت على مضض.
جاري الذي لا يبعد عن بيتي كثيرا، يبدأ يوميا مع الفجر بإجبار ابنه ذي الـ 12 عاما، على الخروج مبكرا الى العمل، وأي عمل؟؟، إنه عمل متعب وشاق بالنسبة لطفل في ها العمر، فهذا الصبي يذهب الى مركز المدينة ويقوم بتأجير عربة من الخشب يتم دفعها باليد ويعمل في تحميل المواد والخضر ونقلها مسافات قصيرة مقابل ثمن زهيد، وفي نهاية النهار يعود لعائلته ببعض النقود يضعها في يد أبيه ثم يلقي نفسه في الفراش من تعب النهار الشاق والطويل.
في أحد الأيام رأيت جاري وسألته عن أهمية مراعاة ابنه الصغير، وأن يكف عن ضربه أو توبيخه بكلمات حادة في كل صباح، وعليه أن يهتم بطفولته، لكنه اختلف معي وقال نحن تعلمنا من آبائنا أن نخرج للعمل مع الفجر وقال (أجبرني أبي أن أعمل منذ الفجر حتى نهاية النهار في مقهى يبدأ العمل من الصباح حتى الليل مقابل أجر يكاد لا يساوي شيئا.
وعندما سألته ماذا يستفيد ابنك من هذا الأسلوب؟ أجابني بثقة (حتى يصبح رجلا في وقت مبكر)، وهو يقصد أن يكون ابنه قادرا على تحمل المسؤولية مبكرا، ويتعلم على المصاعب ويتقن المهم ويحب العمل مبكرا ويحصل على أجور يومية، وهكذا عندما يفتح عينه على هذا الأسلوب سوف يكون قادرا على شق طريقه في الحياة بسهولة عندما يكبر ويصبح رجلا ذا عائلة.
ومع وجود شيء من الصحة في هذا التفكير، لكن ثمة قسوة ترافق مثل هذا الإجراء الأبوي مع ابنه، صحيح انه يتعلم على العمل وينهض مبكرا، لكن في هذا السلوك تجاوزا على الطفولة، كذلك صحيح أن العمل الشاق يساعد الانسان على مواجهة المصاعب، حيث يؤكد المختصون أن الشعوب والأفراد الذين يتعرضون للمحن والمصاعب أكثر من غيرهم، يحصل على نتائج جيدة لكنها غير مباشرة تنعكس على تحسين تعاملهم مع مفردات الحياة المتنوعة، ويصبح الفرد أكثر خبرة من غيره، كذلك ينعكس ذلك على أداء المجتمع كله باعتبار أن الفرد جزء من هذا المجتمع ومجموع حركة الأفراد تساوي النتيجة الكلية للنشاط الجمعي.
في الحقيقة هنالك تجارب تؤكد صواب رغبة الأب في تطوير قدرات ابنه، ولكن الخشونة لا تصح مع الفتيان، ثم أننا ينبغي أن لا نحرمهم من فرص التعليم التي تبدأ من عمر صغير في رياض الأطفال، وفي السنة السادسة من عمر الطفل يبدأ في رحلته الدراسية مع مرحلة الابتدائي، فإذا أجبر الأب ابنه على العمل في هذا العمر فإن ذلك يعني حرمانه من أهم مقوّم لتنمية الذات ونعني به التعليم المنتظم.
كيف يكون الإنسان ناجحا؟
عندما يواجه الإنسان مصاعب في حياته ويستطيع التعامل معها، ومواجهتها من خلال التفكير والتخطيط السليم فهذا أمر حسن بطبيعة الحال، ولكن قد تكون هناك نتائج سيئة في هذا المجال، لاسيما عندما تترك المصاعب والمحن آثارها على الإنسان وفق صورتين، الأولى تظهر فيها آثار جلية واضحة وملموسة في جسد الانسان نفسه، كأن يبدو ضعيفا او نحيلا او منهكا او ذا وجه عابس على الدوام وهكذا، أما الصورة الثانية فإنها تقدم لنا الانسان الممتحَن كشخص سريع التأثر او التعصب او الانهيار وهذه كلها ملامح مرئية وملموسة في التعامل المتبادَل فتشكل انطباعا مفهوما لظاهر الشخصية، لذلك يحتاج الفرد والمجتمع الى تنمية الطاقات والمهارات من خلال العمل والتدريب، ولكن ينبغي أن يتم ذلك وفق أسلوب علمي عملي مقبول وجيد في الوقت نفسه.
هناك رأي يرى أن الأمور الشاقة تسهم في صناعة فرد جيد، بمعنى أن مصاعب الحياة يمكن أن تصنع شخصية متمرسة قوية لها القدرة على مواجهة الاهوال مهما كانت تأثيراتها وتوابعها المادية او المعنوية، ولكن من جانب آخر قد يكون الإنسان المتعَب ذو شخصية مهزوزة كونه كان قد تعرض للمصاعب المتنوعة في حياته، خاصة عندما يكون الأسلوب الأبوي أو السلطوي بشكل عام مبالَغا به.
لذلك بقدر ما يحتاج الفرد والمجتمع الى إظهار قدراته ومواهبه، فإن ذلك ينبغي أن يتم بصورة صحيحة، فالشخص المترَف والمرفَّه لابد أن تكون شخصيته مبنية بطريقة جيدة، وقد يتراءى ذلك للآخرين من علائم الصحة الظاهرة في الجسد او ملامح الوجه، بل وهناك الكثير ممن يتعامل مع الناس وفقا لما يبدو عليه في ظاهره، وهذا النوع من الناس يمكن أن يتعامل مع الانسان المنهك على انه مهزوز وضعيف الشخصية، ولكن هذه النظرة ليست صائبة، وقد تكون على صائبة، ولكن على العموم تكون المواقف والحياة الشاقة في صالح الإنسان عندما يستطيع أن يواجهها بطريقة علمية مدروسة حتى لا تؤثر على بنائه النفسي.
ولابد من الاعتراف بأن الشخص الذي يواجه مصاعب في حياته غالبا ما يكون أكثر قدرة وقوة من الشخص الذي يجد كل شيء ممهّدا له، فعندما نتحرى عن مثل هذه الشخصيات التي تمرّنت على مواجهة المصاعب خصوصا في الميدان العملي، فإننا لابد أن نكتشف فيها مزايا وخصال لا يمكن للشخصية المرفهة أن تتمتع بها، وهذا هو الفرق الشاسع بين الإنسان المتنعم وبين الممتحَن بالمشقة التي تصبح عبارة عن تجارب تصب في صالحه بالنتيجة، على الرغم من انه قد يواجه مشكلات كبيرة تحرمه من مزايا وفرص كثيرة كالدراسة مثلا.
تحويل الصعوبات إلى نجاحات
هل يمكن أن تكون المشكلات عوامل مساعدة لإظهار طاقات الناس وتحريك مواهبهم؟، قد يكون القانون المعروف جوابا سليما عن هذا السؤال ونعني بالقانون (الحاجة أم الاختراع)، ولكن يبقى الأمر مرهونا بطبيعة الفرد والجماعة، فثمة من يحيل النكسات والمواجع الى عوامل تدفعه نحو النجاح، وبالتراكم وتضافر الطاقات تأخذ حالة البناء والاندفاع نحو التطور وتجاوز النكسات طابعا عاما يشمل الأفراد ومن ثم عموم الشعب، حيث يصبح هذا السلوك والتفكير نمطا عاما يؤطر كيفية حركة المجتمع، وكيفية مواجهته للمشكلات التي تظهر في نشاطاته المختلفة في المجالات كافة.
وهكذا يمكن بالفعل أن تتحول الصعوبات الى مساعد لمضاعفة قدرات الفرد والمجتمع، بمعنى ان الفرد القادر على تجاوز الصعاب هو الذي يشكل اللبنة المهمة لتحقيق الأسس الأولية للتغيير، ومن مجموع الافراد تتولد النزعة الجماعية للتغيير نحو الأفضل، وهذا يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن التجارب، لاسيما الشاقة منها تسهم في تطوير الفرد والمجتمع كله.
من هنا ينصح المتمرسون، وأصحاب التجارب الناجحة، بأهمية أن يكون الإنسان منظّما بصورة علمية عملية في مواجهته للمشكلات التي تعترض طريقه، وعند ذاك يكون مؤهلا للقيام بدور فاعل في الحياة، من خلال تنمية قدراته كفرد وقدرات المجتمع وتحريك المواهب وصقلها بصورة فاعلة، لنصل بالنتيجة الى فرد متميز ومجتمع يعي أهمية التنمية في حياته على نحو دائم.
اضف تعليق