يمنحنا الإمام (عليه السلام) الصورة الكاملة ويحدّد، بوضوح ودقة، أسس التعامل مع التجار والصناعيين وأطره العامة، فكما تصدى للدفاع عن حقوق التجار والصناعيين، تصدى كذلك للدفاع عن حقوق المستهلكين أيضاً، وبنفس القوة والوضوح، لم يكتفِ بتحديد المحظور وما لا يسمح به (وهو الاحتكار) والتأشير عليه، بل إنه وفوق ذلك...
التجارة والصناعة كركنين من أهم أركان عملية التنمية الاقتصادية، لا يصح فيهما الاحتفال بالإيجابيات الظاهرة فقط، بل يجب أن تحاط بهما أسوار تمنع من أن تتسرب عبرها الآفات أو أن تستحكم فيهما السلبيات، وحينئذٍ يكونان المقوّم للتنمية الاقتصادية والمستدامة.
وبوجه آخر: التجار والمستثمرون وإن كانوا يتميزون بتلك المواصفات الأربع التي تعتبر دعائم أساسية في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية، لكنهم في المقابل، قد يتصف كثير منهم بمواصفات تشكل خطورة على مسيرة التنمية الاقتصادية وعلى ازدهار الاقتصاد، وذلك هو الذي نبّه (عليه السلام) عليه وأشار إليه بقوله: (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ، فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ، وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ، مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ)(1).
وبذلك يمنحنا الإمام (عليه السلام) الصورة الكاملة ويحدّد، بوضوح ودقة، أسس التعامل مع التجار والصناعيين وأطره العامة، فكما تصدى الإمام (عليه السلام) للدفاع عن حقوق التجار والصناعيين، تصدى كذلك للدفاع عن حقوق المستهلكين أيضاً، وبنفس القوة والوضوح، إذ يقول (عليه السلام): (فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ...)(2)، ثم لم يقتصر (عليه السلام) على المنع القانوني، بل شفعه بالضمانة الإجرائية أيضاً: (فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ...)(3).
وكما نرى فإن الإمام (عليه السلام) لم يكتفِ بتحديد المحظور وما لا يسمح به (وهو الاحتكار) والتأشير عليه، بل إنه وفوق ذلك، وفي وثيقةٍ تعد من أهم الوثائق الاقتصادية التاريخية، حدّد القواعد القانونية والأخلاقية للتبادل والتجارة التي يراد لها أن تكون إنسانية إلى جوار كونها اقتصادية، مسهمةً في عملية التنمية بأنواعها، فقال: (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ).
تحليل فقه (بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ...)
ويمكننا أن نستنبط من هذا النص مجموعة من أهم الحقائق:
مقياسان للمعاملات: العدالة والسماحة
الحقيقة الأولى: إن هنالك مقياسين ومحورين يجب أن تدور عليها المعاملات على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي، وهما (مقياس العدل) و(مقياس السماحة grace)، وليس المدار على مقياس العدل فقط، فإن (السماحة) مقوم من أهم مقومات (التنمية الاقتصادية والبشرية والمستدامة)، لأن التنمية بأنواعها تتجذّر أكثر فأكثر، وتتمدّد أكثر فأكثر، ويتضاعف مفعولها أكثر فأكثر إذا انضمت السماحة إلى العدالة كنهج عام في التعاملات المحلية والدولية.
و(السماحة) تعني التساهل والسهولة في التعامل، أي من دون أن تستبطن المعاملات ضيقاً أو تضييقاً أو حرجاً، وفي الحديث: (خِيَارُكُمْ سُمَحَاؤُكُمْ)(4)، وفي خبرٍ آخر: (اسمح يُسمح لك)(5)، أي سهّل يُسهل عليك. وفي الخبر: (السماح رباح)(6)، والمستظهر أنّ السرّ في كونها رباحاً هو ان المسامحة في المعاملة تُكسب المزيد من العملاء، وتربح صاحبها بحسب معادلة وفورات الحجم أكثر فأكثر. وفي الحديث: (السَّمَاحَةُ الْبَذْلُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ)(7)، وفي مجمع البحرين: يقال فلان سمح الكفين أي كريم(8)(9).
(والسماح يجد طريقه إلى الأرباح على مستوى الاقتصاد الكلي أيضاً، على مستوى خفض / إلغاء القيود التنظيمية حسب المبدأ الكلاسيكي المعروف (دعه يمرّ دعه يعمل)، لكن بفارق أن (السماح) إنما هو ضمن الحدود، وليس بدون قيود أبداً على الأنشطة الاقتصادية، كما كان الحال في العصر التجاري (الميركانتللي)، فإن (الحرية في النظم الاقتصادية الرأسمالية هي حرية ينبغي أن لا تكون مقيدة بأي قيد حتى تتيح للفرد بذل أقصى جهد من أجل الحصول على أكبر دخل أو عائد أو نفع ممكن له نتيجة ما يقوم من نشاط، وبدون أن تتدخل أي جهة كانت في ممارسته لحريته هذه، وهو ما يعني عدم تدخل الدولة في ذلك)(10).
كما أن السماح يجد طريقه إلى الأرباح على مستوى الاستيراد والتصدير بين الدول، (فإن مختلف الدول تجنح إلى الاستيراد من / أو التصدير إلى الدول التي تتعامل معها بسماح وتساهل، ما أمكنها إلى ذلك سبيلاً، وبذلك تحصل كافة الدول على (الميزة النسبية) وإن لم تكن لها (الميزة المطلقة)، كما أنه كلما اتسعت دائرة التجارة الخارجية ازداد تقسيم العمل وارتفعت إنتاجيته، فانخفضت التكاليف وازدادت الأرباح، كما ذهب إلى كل ذلك آدم سميث، وبذلك فإنه يكون من أهم مقومات التنمية الاقتصادية)(11).
ومن المعروف أن الواجب هو العدالة فقط، وأما السماحة فهي نوع من الإحسان، والإحسان على المشهور مستحب، ولكن يمكن الالتزام بوجوب السماحة في الجملة في المعاملات، وذلك استناداً إلى أحد وجهين(12):
الأول: إن مقدمة الواجب واجبة وذلك فيما إذا توقفت التنمية الاقتصادية، على مستوى الاقتصاد الكلي، عليها وذلك فيما افترض كونه واجباً منها(13).
الثاني: إن الإحسان واجب في الجملة؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(14)، إذ وقع الإحسان متعلقاً لمادة الأمر، وقوله تعالى: (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(15)، إذ صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، وكما سبق في الكتاب السابق فإن بعض الفقهاء كالسيد الأستاذ الوالد (قدس سره) يرى وجوب الإحسان في الجملة، لوقوعه متعلَّقاً للأمر في الآية الشريفة كما سبق، ولكونه مأموراً به في قوله (عليه السلام): (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً...)، وظاهر الأمر الوجوب، والإرشاد كالاستحباب، كلاهما خلاف الظاهر، ولغير ذلك، واحترزنا بـ (في الجملة) عما علم كونه إحساناً مستحباً، وعليه: يبقى المشكوك والمجهول بدواً تحت دائرة وجوب الإحسان.
محدد القيمة التبادلية: التكلفة والمنفعة
الحقيقة الثانية: ويستبطن قوله (عليه السلام): (وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ)، الإشارة إلى بعض مكوّنات القيمة التبادلية(16)، حيث ارتأى بعض علماء الاقتصاد أن التكلفة cost أي (تكلفة الإنتاج) هي المحدد للقيمة التبادلية، وارتأى بعض آخر أن المنفعة utility أي (المنفعة الاستعمالية) هي المحدد للقيمة التبادلية، ونظرية تكاليف الإنتاج، كموجِد للقيمة، تنحاز إلى جانب البائع، وأما نظرية (المنفعة) كمحدد للسعر فإنها تنحاز إلى جانب المشتري، إلا أن الإمام (عليه السلام) اعتبر لكليهما الحق، إذ بنى معادلة (الأسعار) التي ترمز للقيمة التبادلية(17) على مراعاة كلا الطرفين، إذ اعتبر مراعاة أحد الطرفين دون الآخر إجحافاً بالآخر، ومن هنا فإن القيمة التبادلية تعتمد على التوازن بين تكاليف الإنتاج ومنافع وأهداف الباعة من جهة، وبين رغبات المشترين ومنافعهم من جهة أخرى، فلاحظ الدقة في قوله (عليه السلام): (وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ) فـ (الأسعار) التي تعدّ التجسيد الظاهر للقيمة التبادلية، يجب أن لا تكون مجحفة بالفريقين، وذلك عندما تبلغ نقطة التوازن في تقاطع العرض والطلب بين البائع والمشتري في أجواء المنافسة الكاملة، فتدبر(18).
أنواع الاحتكار
الحقيقة الثالثة: إن الاحتكار على قسمين:
احتكار السلع
الأول: احتكار السلع بمعنى عدم بيعها، أو مطلق عدم عرضها(19)، لفترة من الزمن كي يضطر الناس إلى شرائها بأسعار أكبر، وهذا هو الاحتكار المعروف على امتداد الأزمان، وهو الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام) بقوله: (وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ)، ولكنّ الظاهر أن له مفهوماً أعم وأوسع من الاحتكار كما سيظهر.
احتكار المنافع
الثاني: احتكار المنافع، وهو الذي صرّح به بقوله (عليه السلام): (احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ).
وذلك يستدعي بعض الإيضاح، فإن احتكار المنافع على قسمين: احتكار (الخدمات) وهي منافع وليست سلعاً، وذلك كخدمة الطبابة والتمريض والهندسة والتعليم والتدريس والمحاماة ورعاية الأطفال وغير ذلك، واحتكار آخر غير مباشر إذ أن التجار قد يخفضون العرض ويحتكرون السلع ليبيعوها غالياً، فهذا هو الاحتكار المباشر، وقد يتواطؤون على إخراج منافسيهم من السوق عبر معادلة معاكسة، وهي زيادة العرض، إذ أنهم قد لا يحتكرون السلع بل قد يعرضونها للبيع بوفرة وبأسعار أرخص كثيراً من أسعار السوق (فليس ذلك إذاً احتكاراً للسلع) ولكن قد يشكّل ذلك طريقاً للاحتكار غير المباشر للمنافع، وذلك فيما إذا كان الهدف تحطيم المنافسين الضعفاء الذين لا يتحملون انخفاض الأسعار عن حد التكلفة فيضطرون للخروج من السوق، وذلك يعني أن تلك القلة سعت لاحتكار المنافع، أي كي لا يصل النفع والربح إلى غيرهم من التجار، وإن كان الطريق إلى ذلك على العكس تماماً من احتكار السلع، وذلك هو ما تقوم به، أحياناً، الكارتلات Cartels والتراستات Trusts.
إغراق الأسواق
والكارتلات: اتحاد منتجين وتنظيم يتكون من شركات مستقلة تنتج منتجات متماثلة وتعمل مجتمعة على تقييد المخرجات ورفع الأسعار(20)، ومن أجل ذلك قد تخفض الأسعار لفترة من الزمن لتخرج المنافسين لتصفو لها الأسواق فيمكنها أن تتحكم فيها كيفما تشاء. أما التراستات، فهي فيما إذا اندمجت تلك الشركات.
وعلى أية حال، فإنه (وفقاً لتعليمات الاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارية (الغات) فإننا نتكلم عن الإغراق حينما تُعرض بضائع دولة ما دون "قيمتها العادية" في سوق دولة أخرى. وتحدد "القيمة العادية" عادة بالسعر المحلي للسلعة مُعَدَّلاً بتكاليف النقل. إذ يمكن القول بوجود تفريق أسعار مكاني في حالة الإغراق. وإذا لم تكن هذه السلعة مطروحة في السوق المحلية يمكن مقارنة أسعار السلع المشابهة في السوق المحلية أو تؤخذ معدلات تكاليف الإنتاج الوسطية والحدية بعين الاعتبار لتحديد "القيمة العادية" لهذه السلعة.
كثيراً ما يكون هدف إجراءات عملية الإغراق هو السيطرة على سوق أجنبية؛ إذ المطلوب الطغيان على صناعات البلد المصدر. وحينما يتم الوصول إلى الوضع المطلوب في السوق تأخذ الأسعار بالارتفاع)(21).
وعلى أية حال، فإن (احتكار المنافع) ظاهر في احتكار الخدمات، ويشمل زيادة العرض وأي شيء آخر يؤول إلى احتكار المنافع، أي يشمل المعنى الاسم مصدري، وأما احتكار السلع فهو أن يحبسها في المخازن ولا يعرضها للبيع بغية أن ترتفع أسعارها فيبيعها بربح أكبر.. فهذا(22) ونظائره هو الذي يشمله قوله (عليه السلام): (تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ) أي إنه مشمول له.
وبعبارة أخرى: لو لم نرتضِ اندراج ما سبق في الاحتكار فإنه مندرج بوضوح في: (تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ).
والظاهر أنه (عليه السلام) مهّد لمعادلتي احتكار المنافع والتحكم في البيوع، بالإشارة إلى صفتين قبيحتين في كثير من التجار، وهما كما قال (عليه السلام): (وَاعْلَمْ، مَعَ ذَلِكَ، أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَشُحّاً قَبِيحاً)، ثم قال مباشرة: (وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ).
ولعل المراد أنّ (الضيق الفاحش في أنفسهم) هو الدافع (لاحتكار المنافع)، حيث تضيق نفسه عن أن يجد لها منافساً وعن أن يربح غيره، وأن (الشحّ القبيح في أنفسهم) هو الباعث على التحكم في البياعات، والشحّ أشد البخل، إذ لا ترضى نفسه بأن تخرج البضاعة من يده إلا بأن يعوضها بأضعاف سعرها وهو الاحتكار(23)، وذلك استناداً إلى ما ربما يظهر من السياق وما يشابه اللف والنشر المرتب، ولعل كليهما متفرع على كليهما، كما لعل الأخيرين متفرعان على الأخير، ولعلها أربعة مطالب، إذ الأولان نفسيان، والأخيران خارجيان، وأوسط الاحتمالات الأربعة هو الأظهر، فتدبر.
احتكار المنافع في البحث الفقهي
الحقيقة الرابعة: إن الاحتكار المعروف المطروح في الفقه هو احتكار السلع والبضائع بأن يحبسها في المخازن مثلاً ولا يعرضها للبيع، حتى ترتفع أسعارها عن المعدل الطبيعي العام، ويعرف المعدل الطبيعي إما بمقارنته بالبضائع المشابهة أو بالبلدان المناظرة أو بقياسه إلى وضعه في عموم الأزمنة السابقة (أو تؤخذ معدلات تكاليف الإنتاج الوسطية والحدية بعين الاعتبار لتحديد "القيمة العادية" لهذه السلعة)(24) كما سبق.
وأما احتكار المنافع، بمعنى احتكار الخدمات فليس مطروحاً في الفقه، عادةً، وأما احتكار المنافع بالمعنى الآنف غير المباشر بأن يخطط ليستفرد بالسوق بإخراج المنافسين عبر خفض أسعار بضائعه هو، فليس مطروحاً في الفقه أبداً فيما يبدو، ومن الجدير البحث عنه أيضاً خاصة مع وجود نص للإمام (عليه السلام) يشمل ظاهراً هذا المعنى، وأيضاً مع وجود تعليله (عليه السلام): (وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ)، وعلى أي، فإن من كلامه (عليه السلام) تستفاد حرمة كلا النوعين من الاحتكار مع ملاحظة الاضرار، نعم قد يناقش بعدم صدق الاحتكار عليه عرفاً، وغاية الأمر أنه مقدمة له. ولكن سبق عدم توقف الحرمة على صدق عنوان الاحتكار، بل يكفي صدق العنوان الذي ذكره (عليه السلام): (تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ) مطلقاً، أو مع تحقق العلة: (بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ)، فتأمل.
ومن المفيد أن ننقل هنا كلام المحقق الخوئي (قدس سره) قال: (فقوله (عليه السلام) "فأمنع من الاحتكار" يرجع إلى المنع عن احتكار المنافع وإيجاد الشركات الانحصارية، وتعليله بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع الاحتكار يحتمل وجهين:
1 ـ أنه أخذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنع عن الاحتكار المطلق، بحيث يشمل احتكار المنافع واحتكار الأطعمة، فَنَقَلَه عنه دليلاً على ما أمر به من المنع عن احتكار المنافع.
2 ـ أنه ذكر منع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن احتكار الأطعمة، تنظيراً وبياناً لحكمة التشريع، مع أنه لا يحكم ولا يقول إلا ما علّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله))(25).
وبعبارة أخرى: إما أن يقال بأنّ الاحتكار مطلق يشمل الأقسام الثلاثة(26)، وذلك لصدقه بالحمل الشائع الصناعي عليها جميعاً(27)، وأنّ الانصراف، لو كان، إلى احتكار السلع بدويٌّ ناشئ من عدم / ندرة وجود القسم الآخر أي احتكار المنافع، في تلك الأزمنة، أو قِلّته النسبية، أي بالنسبة إلى احتكار السلع والبضائع، وليس ناشئاً من كثرة استعمال اللفظ في بعض معانيه بحيث أوجد له وِجهةً حتى صار كالموضوع له بالوضع التعيّني.
وأما أن يقال: بأن الاحتكار في الحديث النبوي يراد به احتكار السلع، والإمام (عليه السلام) عمّم الحرمة إلى احتكار المنافع.
وقد يناقش ذلك بأن ملاكات الأحكام ليست بأيدينا، فلا يصح التعميم استناداً إلى اكتشاف الملاك، وذلك لأنه قد يزاحمه ملاك أقوى ولا نعلم به، أو قد يكون هناك مانع من تأثير الملاك الأول.
والجواب: بأن ذلك فينا صحيح صادق، لا في الإمام (عليه السلام)، لأن ملاكات الأحكام ليست بأيدينا لكنها في أيديهم (عليهم السلام) كيف وهو باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ على أن (لَا ضَرَرَ) عِلّة منصوصة لقوله (عليه السلام): (وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ)، وقد قال (صلى الله عليه وآله): (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)(28).
هل يجوز للحكومة التسعير؟
ثم قال المحقق الخوئي (قدس سره): (وقد تبيّن ممّا ذكرنا أن الحقَّ في مسألة حق تسعير الحاكم وعدمه، هو التفصيل بين ما إذا كان وضع السوق طبيعياً عادياً منزَّهاً عن مداخلة أرباب رؤوس الأموال وأطماعهم فلا يجوز للحاكم تسعير الطعام أو المتاع الذي أجبر مالكه على عرضه للبيع ويرجع في السعر إلى طبع السوق الـمُلهَم من طبع العرضة والتقاضا(29)، وأمّا إذا كان السوق تحت نفوذ أرباب رؤوس المال ومطامعهم وحملوا عليه الانحصارات الرأسمالية أو ما بحكمها فلا بدَّ للحاكم من تعيين السعر العادل، كما قال (عليه السلام): (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ)(30)) انتهى.
ولكن قد يناقش بأن بعض الروايات مطلقة شاملة حتى للصورة الثانية(31)، بل لعلها واردة مورد هذه الصورة، إذ تفيد بأن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) رَفَضَ أن يسَعّر بل إنه (صلى الله عليه وآله) اقتصر على أمر المحتكرين بإخراج حَكرتهم إلى الأسواق بحيث يراها الناس فقط، وقال: (إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ)(32)، والعبرة بعموم قوله (صلى الله عليه وآله) للصورتين.
والظاهر أن هذا يشكّل الحلّ الوافي من غير حاجة إلى التسعير، إذ أن مجرد إخراج المحتكرين كافة بضائعهم إلى الأسواق وعرضها للبيع بحيث تراها الأبصار، كفيل بخفض الأسعار حسب قانون العرض والطلب، فلا حاجة إلى تسعير الحاكم، وأما كلام الأمير (عليه السلام) فليس صريحاً في تسعير الحاكم، بل ولا ظاهراً فيه، فإنه صرّح بـ (فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ)، ولم يقل بعد ذلك (وسعّر عليهم) بل إنما ذكر الضابطة الشرعية العامة وهي (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ)، فهذا التغيير في اللحن من (فَامْنَعْ...) الظاهر في فعل الحاكم، إلى (وَلْيَكُنِ...) الظاهر في إعطاء القاعدة والقانون والحكم الكلي، ظاهر في أن المنع من الاحتكار وظيفة الحاكم، وأما البيع بموازين عدل فهو الحكم الشرعي الكلي والمخاطب به والمأمور به هو المكلف، أي إنه وظيفة المحكوم، أي كافة الباعة، فلاحظ مرة أخرى الجملتين وقارن بينهما: (فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ، وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ) ولم يقل (وسعّر عليهم) أو (وأفرض عليهم أن يكون البيع بيعاً سمحاً)، ويؤكد ذلك أنه (عليه السلام) ذكر أن يكون البيع سمحاً ولا شك أنه لا يجوز للحكومة أن تفرض على التجار البيع بسماحة وسهولة، وإن قلنا بوجوب ذلك في الجملة عليهم(33) كما سبق، فهذا مؤيد لكون الخطاب في هذه الفقرة (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ...) هو للباعة لا للحكام، وأما الحكام فمسؤوليتهم منع الاحتكار فقط، فتدبر وتأمل والله العالم.
اضف تعليق