اقتصاد - تنمية

دور الأمن المجتمعي في التنمية عند الامام علي (ع)

مبادئ التنمية ومقوّماتها في نصوص الإمام (ع)-القسم الثاني

استفاضة الأمن في البلاد شرط أساسي في التنمية الاقتصادية والبيئية والبشرية، على حد سواء، واستفاضة الأمن هو المعبّر عنه في المصطلح الاقتصادي بتوفير المناخ الآمن، بل استفاضة الأمن أعمق معنى وأغزر دلالةً. رعاية الطبقات المسحوقة بتوفير السلع الأساسية لها من المسكن والمطعم والمركب والملبس، وتوفير الخدمات من الأمن والحماية...

يمكننا استكشاف أهم مبادئ ومنطلقات ومقوّمات وغايات التنمية من مجمل كلمات الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر، وذلك ضمن الواحد والثلاثين مادةً وبنداً التالية، وقد تم عرض أربعة عشر بندا في المقال السابق، ومايلي بقية البنود:

توفير الأمن في البلاد

15 ـ (توفير الأمن) الاجتماعي والشخصي، أما على مستوى الحكومات فيقول (عليه السلام): (فَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ أَعْيُنِ الْوُلَاةِ اسْتَفَاضَةُ الْأَمْنِ فِي الْبِلَادِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الْأَجْنَادِ)(75)، والرائع تعبيره (عليه السلام) بـ(اسْتَفَاضَةُ الْأَمْنِ) الذي يعني أن المطلوب ليس تحقيق الأمن فقط، بل أن يزداد حتى يفيض على كل شخص وكل شيء! وقد صرح علماء اللغة بـ: (فاض الخير إذا شاع وكثر) و(فاض السيل يفيض فيضاً إذا كثر وسال من شفا الوادي) و(استفاض الحديث شاع في الناس وانتشر)(76). (واستفاضة الأمن) يرمز إلى استتبابه واستحكامه وعمومه وشموله لكل مسلم وكافر وبرّ وفاجر، في كل الحالات والأزمنة.

وغير خفي أن استفاضة الأمن في البلاد شرط أساسي في التنمية الاقتصادية والبيئية والبشرية، على حد سواء، واستفاضة الأمن هو المعبّر عنه في المصطلح الاقتصادي بتوفير المناخ الآمن، بل استفاضة الأمن أعمق معنى وأغزر دلالةً.

وأما على مستوى الأفراد فإننا نجده (عليه السلام) يقول: (مَنْ آمَنَ خائفاً مِنْ مَخوفَةٍ، آمَنَهُ اللّهُ سُبْحانَهُ مِنْ عِقابِهِ‏)(77)، و(مَخوفَةٍ) أي ما يخاف منه الإنسان، وما يخاف منه الناس قد يكون حاكماً جائراً، وقد يكون عدواً ظالماً، وقد يكون سيلاً جارفاً، وقد يكون وباءً قاتلاً، وقد يكون تضخماً جامحاً، وقد يكون بطالة أو فقراً أو دَيناً أو غير ذلك.

وقوله (عليه السلام): (خائفاً) وإن كان نكرة في سياق الإثبات، إلا أنه كالنكرة في سياق النفي، يفيد العموم حسبما اختاره بعض الأصوليين(78)، على أن مناسبات الحكم والموضوع تقتضي ذلك، كما يؤيده الاعتبار حتى إن لم نقل بتلك المقالة.

وعن الأمن الشخصي والمجتمعي يقول (عليه السلام): (رَفاهِيَّةُ العَيشِ فِى الأمنِ)(79) وهي جملة خبرية لكنها ملزومة أو لازمة أو ملازمة لجملة إنشائية، بمعنى الدعوة والحض على توفير الأمن لضمان رفاهية العيش، وبعبارة أخرى قوله (عليه السلام): (رَفاهِيَّةُ العَيشِ فِى الأمنِ) يفيد بدلالة الإشارة(80) مطلوبية ذلك ومحبوبيته والأمر به.

ويقول (عليه السلام): (شَرُّ البِلادِ بَلَدٌ لا أمنَ فيهِ ولا خِصبَ)(81)، وبهذه الرواية ونظائرها يرسم (عليه السلام) لنا، مؤشراً من مؤشرات (التنمية) والذي يمكن أن يقاس به مدى تقدم البلد على مستوى التنمية، كما يمنحنا مقياسين نقيس بهما أداء الحكومات ونجاحها أو فشلها.

إحقاق الحقوق وحفظ الحرمات

16 ـ 17: إحقاق الحقوق الاقتصادية وحفظ حرمات الشخصيات الاعتبارية الـمُنتِجة، كطريق للتنمية الاقتصادية المستدامة، إذ يقول (عليه السلام) مثلاً عن التجار والصناعيين: (فَاحْفَظْ حُرْمَتَهُمْ، وَآمِنْ سُبُلَهُمْ، وَخُذْ لَهُمْ بِحُقُوقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا يُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُحْذَرُ غَائِلَتُهُ، أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَيْهِمْ أَجْمَعُهَا لِلْأَمْنِ وَأَجْمَعُهَا لِلسُّلْطَانِ، فَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ)(82).

وقال (عليه السلام): (مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ)(83)، و(الحق) الذي يقابله (الحكم) كما يقابل (الملك) هو من مصاديق (الحق) الذي يقابل الباطل، فليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما لا وجه ظاهراً لدعوى الانصراف.

وقال (عليه السلام): (أَعْدَلُ الْخَلْقِ أَقْضَاهُمْ بِالْحَقِّ)(84)، ويؤيد عموم هذا الحديث وسابقه للحق بالمعنى السابق، مناسبات الحكم والموضوع، فتدبر.

وقال (عليه السلام): (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً فَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ)(85)، و: (جَعلَ اللّهُ سبحانَهُ حُقوقَ عِبادِهِ مُقَدِّمَةً لحُقوقِهِ [عَلَى حُقُوقِهِ‏]، فمَن قامَ بحُقوقِ عِبادِ اللّهِ كانَ ذلكَ مُؤَدّيا إلى القِيامِ بحُقوقِ اللّهِ)(86).

الاهتمام بالصحة

18 ـ الاهتمام بالصحة النفسية والجسمية والعقلية؛ يقول (عليه السلام): (الصِّحَّةُ بِضَاعَةٌ)(87)، والبضاعة هي القطعة من المال والسلعة(88)، وبذلك يكشف (عليه السلام)، ولو بالتلميح، عن الوجه الاقتصادي للصحة، فكما أن البضاعة تشترى وربما، على حسب نوعها، بأغلى الأثمان، فكذلك الصحة، بل إنه، فوق ذلك، يصرح بأن: (الصِّحَّةُ أفضَلُ النِّعَمِ)(89)، و: (صِحّةُ الأجسامِ مِن أهنَأِ الأقسامِ)(90)، و: (أَلَا وَإِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ الْمَالِ، وَأَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ الْمَالِ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ)(91)، وهي إشارة إلى كلتا جنبتي الجهات الموضوعية والمعيارية.

وللصحة مديات واسعة ونطاق عريض، فإن (الصحة: حالة تمتع الفرد بكامل عافيته البدنية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية)(92).

وحيث إن الصحة من أهم (الحاجات) التي ينبغي أن (تُشبع)، لذا يتحمل مسؤوليتها الشخص نفسه وأسرته والمجتمع والحكومة أيضاً، بل إن صحة الرعية وآحاد الناس، فيما توقف إنجازه على تدخل الحكومة، يعد من حقوق الناس العرفية على الحكومة الإسلامية، وقد قال (عليه السلام): (وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ)(93)، وقال (عليه السلام): (وَلَا تَبْطُلُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ)(94)، وقال (عليه السلام): (وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ مُسْلِمٍ)(95)، و: (لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)(96).

و(ما توقف إنجازه على تدخل الحكومة) يراد به كلما لا يمكن للناس عادة القيام به، كالإنفاق الكبير على الأبحاث العلمية وعلى تطوير الأجهزة والمعدات التي لا تتحملها ميزانية الشركات(97).

كما أن صحة الناس العامة تكشف عن مدى قوة أداء الحكومات واستقامتها من عدمها. ولذلك فـ (إن شعار (الصحة للجميع) أصبح شعاراً ترفعه العديد من المؤتمرات الصحية العالمية، وأضحت الصحة حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، كما صارت هدفاً اجتماعياً عالمياً)(98).

رعاية الطبقات المسحوقة

19 ـ رعاية بالطبقات المحرومة ومنحها حقوقها بأجمعها، وحفظها وصيانتها وتوفير مستلزمات العيش الكريم لها، وهو مبدأ ومقوّم للتنمية البشرية والاقتصادية والشاملة، إذ يقول (عليه السلام): (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَذَوِي الْبُؤْسِ وَالْزَمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، فَاحْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهَا، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى، وَكُلًّا قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ فَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ نَظَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ الصَّغِيرِ لِإِحْكَامِكَ الْكَبِيرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَوَاضَعْ لِلَّهِ يَرْفَعْكَ اللَّهُ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلضُّعَفَاءِ)(99).

فهذه حقوق لهم فرضها الله تعالى على الولاة، وليست إحساناً أو تفضّلاً أو أمراً مستحباً يمكن للحكام والمسؤولين التملص منه.

الآثار الاقتصادية والاجتماعية لرعاية الفقراء

وصفوة القول: إن من أهم أسس التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة، رعاية الطبقات المسحوقة بتوفير السلع الأساسية لها من المسكن والمطعم والمركب والملبس، وتوفير الخدمات من الأمن والحماية والرعاية الصحية وفرصة الزواج وتكوين الأسرة والعمل إن استطاعوا، وذلك كله يشكّل أهم مكوّن من مكوّنات التنمية، وأهم أهدافها الجوهرية، كما صرح به علماء التنمية على ما نقلنا نصوص عباراتهم فيما سبق.

ثمرات اقتصادية واجتماعية لرعاية المستضعفين

وفيما يلي إشارة إلى بعض الثمرات الاقتصادية والاجتماعية لرعاية الطبقة المستضعفة والتي منها نكتشف دور رعايتها الأساسي في التنمية بمختلف أنواعها، فإن توفير السلع والخدمات للطبقة المحرومة، والاهتمام بها: بصحتها وتعليمها.. الخ:

زيادة الطلب والتشغيل والخبرات والأمن

أولاً: يرفع نسبة الطلب الإجمالي على جميع السلع والخدمات، والذي يحرك الاقتصاد ويخرجه من الركود والكساد، بل ويسبب ازدهاره نتيجة زيادة العرض حينئذٍ والذي يعني، بدوره، زيادة الطلب على السلع الأساسية، وبذلك يدخل الاقتصاد في دورة حميدة من النشاط والحركة.

ثانياً: ويزيد من نسبة التشغيل والعمالة.

ثالثاً: يرفد سوق العمل بالخبرات والكفاءات والأيادي العاملة الذين يَقدمون من هذه الطبقة إثر رعايتها وتطويرها، ويزيد، تبعاً لذلك، من ثروة الأمم.

رابعاً: إضافة إلى ذلك فإن رعاية الطبقة المسحوقة، عامل أساس في الحدّ من الجريمة وخفض الإدمان وتقليص مساحات الاقتصاد الأسود واقتصاد الجريمة (كالسرقات والتهريب وتزوير العملة) وفي إيجاد سدّ منيع أمام الحركات الإرهابية وعصابات الجريمة الذين تتخذهم جيشاً احتياطياً تلجأ إليه لدى الحاجة بل وعلى طول الخط.

ومن البديهي أن الحركات المتطرفة والإرهابية والإدمان والجريمة والاقتصاد الأسود و... معوّقات أساسية للتنمية الاقتصادية، إذ تخفض الإنتاجية والنمو وإجمالي الناتج المحلي وبصافي الرفاهية الاقتصادية العام أضراراً بالغةً.

خامساً: إنّ حفظ حقوق الطبقة المسحوقة يسهم إضافة إلى استتباب الأمن، في استحكام السلم الأهلي وتماسك المجتمع، ويؤثر على إيجاد درجات من الرضا بالحكومة ومحبوبيتها والتي تسهم، بدورها، في استقرار الأمن والسلام، ومن ثمَّ تقوم بتوفير الأرضية الصلبة للتنمية الاقتصادية.

خفض الفاصل الطبقي

سادساً: خفض الفاصل الطبقي بين الناس عبر خفض نسبة الفقر ومدّ مظلة رعاية شاملة ترفرف على أدنى الطبقات الاجتماعية وأكثرها فقراً فضلاً عن عامة الفقراء. وبذلك نخطو خطوات كبيرة نحو العدالة الاجتماعية وتحقيق صافي الرفاهية، محققين نوعاً من (التوازن) في توزيع الثروة الذي يعد من أركان التنمية الاقتصادية المتواصلة والمستدامة، وذلك هو ما ورد في النص السابق وفي نصوص أخرى كالنص الآتي وكبعض النصوص السابقة.

ولقد دلت التجارب والإحصاءات على أن (النمو) من غير أن تقترن به (بتنمية شاملة سليمة) ومن غير الاهتمام بتوفير السلع والخدمات بمختلف أنواعها للفقراء، يزيد بشكل كبير من الفاصل الطبقي بين الفقراء والأغنياء، فإن (أحد الآثار المُحتملة للنمو الاقتصادي هي الزيادة في عدم المساواة في الدخل، ووفقاً لما ذكره (Barro and Sala-I-Matren, 2004) كان هناك زيادة في تشتت توزيع الدخل في عدد من الدول في الفترة ما بين 1970 إلى 2000 م، وهي الفترة التي لوحظ فيها زيادة في النمو الاقتصادي كما ذُكر سابقًا، حيث استشهدوا بأمثلة مثل الصين وبعض الدول الكبرى التي اختبرت ارتفاعاً في عدم المساواة في الدخل.

كما لاحظ (Weil, 2013) أنه على مدى 188 سنة من عام 1820 إلى عام 2008 م اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكلٍ واضح، وفي عام 1820م أشار (Weil) أن دخل الفرد الواحد من الطبقة الغنية كان يساوي ثلاثة أضعاف دخل فرد من الطبقة الفقيرة، أما في 2008م فإن معدل دخل الفرد الواحد ارتفع إلى سبعة عشر إلى واحد، حيث توضح تجربة جنوب إفريقيا ذلك على مستوى الدولة أيضاً.

وكما لاحظ (Acemoglu, 2009) أنه بالاعتماد على البيانات المتاحة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى انهيار نظام الفصل العنصري، كان هناك زيادة واضحة في الناتج الإجمالي المحلي للفرد الواحد في جنوب إفريقيا، ومع ذلك انخفضت الأجور الحقيقية للأفارقة السود والذين يشكلون غالبية السكان في إفريقيا الجنوبية، ولذلك فإن مثل هذه التجربة تعتبر أحد الأسباب التي تحدو ببعض أقسام المجتمع لدعم المؤسسات والسياسات التي لا تشجع النمو)(100).

والتفاوت الطبقي المجحف، يضر بالإنسان والاقتصاد وبكافة مناحي الحياة، ذلك أنه، وكما سبق، يدفع باتجاه تحوّل كثير من المحرومين نحو الاقتصاد الأسود واقتصاد الجريمة، كما يُفقِد شرائح واسعة جداً المقدرة على الوصول إلى التعليم الجيد والعلاج الجيد والذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الإنتاج والإنتاجية، وإلى تكريس التخلف وزيادة حالة الاضطراب الاجتماعي وإضعاف أسس السلم المجتمعي وذلك هو ما يعبّر عنه علماء التنمية بـ(دائرة الفقر المغلقة)(101).

قضاء الحوائج، من دون حِجاب وحواجز

20 ـ 21: قضاء حوائج الناس، عامة الناس، والانفتاح عليهم من دون وضع حواجز وحِجاب وحُجَّاب، والتواضع، مع ذلك، لذوي الحاجات منهم، واتخاذ ذلك استراتيجية أساسية في الحكم، وهو منطلق ومقوّم، قال (عليه السلام): (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ "وَذِهْنَكَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ، ثُمَّ تَأْذَنُ لَهُمْ عَلَيْكَ"(102)، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً تَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ(103).

وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ. "تَخْفِضُ لَهُمْ فِي مَجْلِسِكَ ذَلِكَ جَنَاحَكَ، وَتَلِينُ لَهُمْ كَنَفَكَ فِي مُرَاجَعَتِكِ وَوَجْهَكَ"(104)، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتَعٍ.

ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْكَ الضَّيْقَ وَالْأَنَفَ، يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ أَهْلِ طَاعَتِهِ. وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ. "وَتَوَاضَعْ هُنَاكَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ"(105))(106).

وهذا النص صريح في ضرورة التواصل المباشر بين الحاكم والناس، فلا يكفي للحاكم أن يعيّن مسؤولين للتواصل، أو يتواصل معهم عبر الكتاب والرسائل، ومنه يستنبط أنه لا يكفي فقط أن يرتبط بالناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، بل لا بد له من (أن يجلس لهم مجلساً عاماً...) بل وأن (يفرغ شخصه وذهنه لهم)، فلا يكون موزَّع الاهتمام، مشغولاً بالتفكير في قضايا أخرى مهما كانت مهمة، ولعل من الأسباب في أمره (عليه السلام) بالتواصل المباشر مع الناس هو أن ذلك أقرب للتواضع، كما أنه يكسر الحاجز النفسي بين الحكام والمحكومين، ويخرجهم عن دائرة الانعزال في برج عاجي خاص، وأن المسؤول سيتعرف على خصوصيات في السائل، وبالعكس، من الحديث المباشر وجهاً لوجهٍ، مما لا يمكن لوسائل التواصل ـ عادةً ـ أن تنهض به.

ولذلك نجده (عليه السلام) يكتب (عليه السلام) رسالة إلى عامله على مكة المكرمة جاء فيها: (وَلَا يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إلاَّ لِسَانُكَ، وَلاَ حَاجِبٌ إِلَّا وَجْهُكَ)(107).

كما جاء في عهده إلى مالك الأشتر عامله على مصر: (وَأَمَّا بَعْدَ هَذَا؛ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتَجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ. وَالِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتُجِبُوا دُونَهُ، فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ. وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ. "فَتَحَصَّنْ مِنَ الإدْخَالِ فِي الـحُقُوقِ بِلِينِ الحِجَابِ")(108).

إلى ذلك فإنه (عليه السلام) نهى عن الاحتجاب عن ذوي الحوائج أو تأخير قضائها بدء ورودها، إذ يقول: (وَلَا تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا، فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ بَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا)(109).

الشفّافية

22ـ الشفّافية في التعامل مع الناس وفي مواجهة نقدهم واحتجاجهم أو اعتراضاتهم، واتخاذها منهجاً راسخاً عاماً دائماً، إذ يقول (عليه السلام) عن الشفافية في التعامل مع الناس والحوار المباشر معهم دون قيود وحدود وحواجز:

(وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ، وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِأَصْحَارِكَ، فَإِنَّ تِلْكَ رِيَاضَةٌ مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَرِفْقٌ مِنْكَ بِرَعِيَّتِكَ، وَإِعْذَارٌ تَبْلُغُ فِيهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فِي خَفْضٍ وَإِجْمَالٍ)(110) وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في موضع آخر.

والإنتاج والشفافية منطلقان ومقوّمان من أهم مقومات التنمية البشرية والاقتصادية والشاملة، وذلك لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم كلما كانت أقوى وأمتن وأسلم وأسلس، أمكن لكلا الطرفين السير بالتنمية الاقتصادية والبشرية بخطى واثقة مطمئنة، ذلك أن الانفتاح يعني أن لا يضع الحاكم أمام الناس سدوداً من لوائح تنظيمية ضاغطة أو بيروقراطية مقيتة، والشفافية تحول دون أن يتذمر الناس من الحاكم ومن تحينهم الفرص للإطاحة به أو إضعاف حكمه، ومع توفر هذين العاملين فإنه يستبعد أن يقرّر الحكام والمسؤولون سياسةً ماليةً توسعيةً أو تضييقيةً أو سياسةً نقديةً توسعيةً أو تضييقيةً إلا إذا كانت في صالح الناس، ويثمر ذلك عدم تخطي الناس قرارات الحكومة الاقتصادية وغيرها، حيث أحبوها واعتبروها جزءاً منهم وعرفوا فيها الصدق والنزاهة والجماهيرية، وبذلك يستتب الأمن وتستقر الحكومة وتزدهر البلاد.

الصلح كأصل عام

23ـ اتخــاذ الصلح منهجاً وأصلاً وفي العلاقة مـع الأعداء، إذ يؤسس الإمام (عليه السلام) للقاعدة العامة في التعامل معهم وأنها هي الصلح، وهو منطلق ومقوّم للاستقرار والتنمية، قال (عليه السلام): (وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)(111)، ومن الواضح أن الصلح مع الأعداء خاصة مع دول الجوار يعد من أهم شروط التنمية الشاملة، بل وحتى النمو، كقاعدة عامة.

وقد وضع الإمام (عليه السلام) اليد على ثمرات ثلاثة لإقرار الصلح:

1 ـ أمن البلاد، وهو الشرط الأساس لكل أنواع التنمية.

2 ـ راحة بال المسؤولين من أخطار مهاجمة العدو، وهو شرط أساسي لقيادة التنمية.

3 ـ دعة الجنود أي الراحة والسكينة وخفض العيش أي سعته، وهو ما يتناغم مع مقاصد الشريعة، قال تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ)(112)، و: ( فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ)(113).

الالتزام بالمواثيق

24ـ الالتزام بالعهود والمواثيق، سواء على مستوى السياسة الخارجية أم غيرها، فإن المبدأ الأساس هو الالتزام بالعهود والمواثيق بكل قوة، وعدم نقضها مهما كانت الدواعي والأسباب، قال (عليه السلام): (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ،

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ، فَلَا إِدْغَالَ وَلَا مُدَالَسَةَ وَلَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ، وَلَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ لَا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلَا آخِرَتَكَ)(114).

والالتزام بالعهود والمواثيق مقوّم أساسي لاستقرار البلاد وتوفير بيئة آمنة للنمو والتنمية، على المستوى المحلي والدولي والداخلي والخارجي، وذلك لأن رأس المال والصناعة والتجارة وغيرها لا يمكن أن تنمو كما ينبغي في ظروف غير مستقرة أو متزلزلة.

التورع عن سفك الدماء

25 ـ الاحتياط في الدماء بأشد أنواع الاحتياط وإلى أبعد الحدود، وهو مبدأ ومقوّم أساسي في التنمية البشرية والاقتصادية معاً، قال (عليه السلام): (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا.

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ.

"فَإِيّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِسَخَطِ اللّهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ قَد جَعَلَ لِوَلِيِّ مَن قُتِلَ مَظلوماً سُلطاناً؛ قالَ اللّهُ: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـنًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا)"(115))(116).

وذلك لأن الدماء، إضافة إلى استجلابها غضب الله تعالى وهو الحاكم القهار الكبير المتعال، تعمّق التخندقات، وتهتف بالانتقام، وتمتلك طاقة ذاتية على استدعاء الثارات وتنامي الأحقاد، والتي إن تمّت السيطرة عليها كي لا تنفجر على المدى القريب فإنها ستنفجر على المدى المتوسط أو البعيد، والاستقراء يدل على أن سفك الدماء كان أحد أهم عوامل سقوط الأعم الأغلب من الملوك والأباطرة والحكام والأمراء، أو قصر أعمارهم أو أعمار حكوماتهم.

ولقد برزت في العصر الحديث الكوربوقراطيات والشركات العابرة للقارات، إضافة إلى الدول الاستعمارية، كإحدى أهم الجهات التي لا تتورع من سفك الدماء للوصول إلى أهدافها التي يعد من أهمها الحصول على مصادر الطاقة والثروات الطبيعية وعلى الأسواق الجديدة والتي قادت انقلابات عسكرية كثيرة طوال القرنين الماضيين(117).

تجنّب الامتنان وخُلف الوعد

26 ـ 27: تجنب الامتنان على الناس بما حققه الحاكم والمسؤولون من إنجازات، وذلك إضافة إلى الامتناع عن خُلف الوعود (الانتخابية وغيرها)، وهو مقوّم في التنمية البشرية والاقتصادية، قال (عليه السلام): (وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ. فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ. وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ. وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ. "وَقَدْ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(118)) (119)، وذلك لأن الإحسان يوجب تحبيب القلوب، ولكن المنّ والتبجح بالعطاء يوجب الكراهية أو على أقل التقادير، يوجد حاجزاً نفسياً بين الحاكم والرعية، وقد قال (عليه السلام): (الْمَنُّ يُفْسِدُ الصَّنِيعَةَ)(120)، و: (الْمَنُّ يُنَكِّدُ الْإِحْسَانَ)(121)، بل وفوق ذلك: (إيّاكم والمَنّ؛ فإنّه مَهْدَمةٌ للصَّنيعة، مُنبِهةٌ للضَّغينة)(122)، وعن الآثار الأخروية للـمِنّة يقول (عليه السلام): (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلا مَنّانٌ)(123).

أما التزيد وتضخيم الإنجازات والمبالغة فيها فإنها تخسر الحكام روعة الإنجازات وجمالها ونورها وتألقها، وإذا اختلط الباطل بالحق شوّهه وذهب بنوره.

هل خلف الوعد مكروه أو حرام؟

وأما خُلف الوعد فإن ظاهر كلامه (عليه السلام) خاصة بقرينة استشهاده بالآية الكريمة واعتباره خُلف الحاكم وعوده مما يوجب المقت عند الله تعالى، هو كون خُلفه للوعد صغرىً ومصداقاً للآية الكريمة وأنّ خُلف الوعد محرم.

لا يقال: المشهور ارتأى كراهته؟

إذ يقال: لعل كلامهم غير ناظر إلى خُلف الحكام والمسؤولين وعودهم أو منصرف عنه، بل الظاهر ذلك(124)، والحاصل: أنّ خُلف الحكام والمسؤولين لوعودهم محرم، ككافة من دخل مع الناس أو مع طرف ما في عقد اجتماعي. كما ويمكن، بوجه آخر، أن ندخل وعد الحاكم في العهد، والوفاء بالعهد واجب، وإجمال تحقيق الأمر ـ على ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) ـ أنه (وقد استدلّ على حرمة مخالفة الوعد على وجه الإطلاق بالأخبار الكثيرة الدالّة على وجوب الوفاء به(125).

أقول: الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة جدّاً، وكلّها ظاهرة في وجوب الوفاء بالوعد، وحرمة مخالفته، ولم نجد منها ما يكون ظاهراً في الاستحباب. ولكن خلف الوعد حيث كان تعمّ به البلوى جميع الطبقات في جميع الأزمان، فلو كان حراماً لاشتهر بين الفقهاء كاشتهار سائر المحرّمات بينهم، مع ما عرفت من كثرة الروايات في ذلك، وكونها بمرأى منهم ومسمع، ومع ذلك كلّه فقد أفتوا باستحباب الوفاء به وكراهة مخالفته، حتّى المحدّثين منهم كصاحبي الوسائل(126) والمستدرك(127) وغيرهما مع جمودهم ـ عادة ـ على ظهور الروايات، وذلك يدلّنا على أنّهم اطّلعوا في هذه الروايات على قرينة الاستحباب، فأعرضوا عن ظاهرها.

ولكنّا قد حقّقنا في علم الاُصول(128) أنّ إعراض المشهور عن العمل بالرواية الصحيحة لا يوجب وهنها، كما أنّ عملهم بالرواية الضعيفة لا يوجب اعتبارها، إلاّ إذا رجع إعراضهم إلى تضعيف الرواية، ورجع عملهم إلى توثيقها. إذن فلا وجه لرفع اليد عن ظهور الروايات المذكورة على كثرتها، وحملها على الاستحباب)(129).

وقد يقال: لكن إجماع الفقهاء حتى الأخباريين منهم على عدم الوجوب يكفي قرينة على العدم، بل سيرة المتشرعة على ذلك.

أقول: وأنت ترى (أن الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة جداً وكلها ظاهرة في وجوب الوفاء بالوعد وحرمة مخالفته) كما مرّ عن مصباح الفقاهة، إلا أن الذي سبّب الحملَ على الكراهة هو السيرة والإعراض، وهما خاصان بالوعود المعهودة، أي وعود الناس بعضهم لبعض، ولا تشمل وعود الحكام لشعوبهم أبداً، فإن السيرة دليل لبّي والإعراض مورده وعود الناس، على أن كلامه (عليه السلام) في عهده للاشتر خاص بوعود الحاكم لغيره أو مخصص، فتدبر.

الحكمة والحزم

28ـ التحلي بالحكمة والحزم في التعاطي مع مستجدات الأحداث وإدارة السياسة المالية والنقدية مثلاً. قال (عليه السلام): (وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ. فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ)(130)، ومن الأمثلة الاقتصادية لذلك: خفض قيمة العملة بمجرد ظهور أدنى بوادر التضخم(131)، إذ مع أدنى تأخير فإن مفعول خفضها الذي يراد به زيادة الصادرات الذي يستتبع زيادة النمو والسيطرة على التضخم يتناقص(132).

ترك الاستئثار

29- تجنب الاستئثار بحقوق الناس، إذ يقول (عليه السلام): (وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ، مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ؛ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ. وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ، "وَيَبْرُزُ الجَبَّارُ بِعَظَمَتِهِ" وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ)(133).

و(مَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ) يعني الأراضي والمعادن والثروات الطبيعية حيث إنّ الناس فيها شَرْعٌ سواء، وكذلك فرص العمل فإن الناس فيها سواء بما فيها المناقصات وشبهها، والغريب أنّ سيرة الحكام والملوك والرؤساء جرت على الاستئثار بها بأجمعها أو بقسط وافر منها(134)، وهذا الاستئثار يعد أحد أهم معوقات التنمية، حيث ينقل إدارة الاقتصاد والإنتاج من الكفاءات إلى الولاءات، ومن المنافسة التامة والعادلة إلى المنافسة غير التامة وغير العادلة والاحتكار.

السيطرة على القوتين الغضبية والشهوية

30 ـ 31 ـ السيطرة على القوتين الغضبية والشهوية، وذلك على مستوى التجار والمستثمرين وعامة الناس، وعلى مستوى الحكام والمسؤولين، فإنّ أحد أهم مقومات التنمية الاقتصادية والإدارية والسياسية وغيرها (كل في موقعه) هو: سيطرة كل مسؤول في أي موقع كان على قوته الغضبية، في تعامله مع المنافسين، سواء من الأحزاب الأخرى المنافسة، أم من داخل أجنحة حزبه، وكذلك مع الشركاء ومع الموظفين ومع العملاء ومع المراجعين وحتى مع الأعداء.

كما أن أحد أهم مقومات التنمية السيطرة على القوة الشهوية وعدم التعامل مع الآخرين على أساس الحب أو البغض أو الشهوات والرغبات بل بحسب الكفاءات، وذلك حتى مع قطع النظر عن البعد الأخلاقي، حيث إن القوتين الغضبية والشهوية تعدّان من أهم الأسباب التي تنسف الشراكات وتخفض الإنتاجية، بما تستدعيه من توتر بين أرباب العمل والعمال والشركات وبما تنتج من ردود فعل عكسية، حيث تتعاضد القرارات الشهوية الانفعالية أو الغاضبة مع ردود أفعالها المعاكسة على هدم الإنجازات بعد تخريب المناخ الآمن الذي يعدّ الشرط الضروري لازدهار الاقتصاد والتنمية، قال (عليه السلام): (امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ؛ وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ. "وَارْفَعْ بَصَرَكَ إلى السَّمَاءِ عِندَمَا يَحْضُرُكَ مِنْهُ شَيءٌ" حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ. وَلَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّك‏)(135).

وبذلك يعطينا الإمام (عليه السلام) مقياساً واضحاً للمسؤول المؤهل الصالح للحكم الرشيد، وأنه هو ذلك الذي يتميّز بالحلم والحكمة والعقلانية، ويتجنب الارتجالية في اتخاذ القرارات والعنف والسطوة، وهي شروط أساسية في عملية التنمية البشرية والاقتصادية وغيرها.

* مقتبس من كتاب (التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي عليه السلام) المجلد الثاني، لمؤلفه: السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

........................................

للاطلاع على القسم الأول من الموضوع:

https://annabaa.org/arabic/development/40931

 (75) نعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام، دار المعارف ـ مصر: ج1 ص357.

(76) يراجع لسان العرب ومجمع البحرين وغيرهما.

(77) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص450.

(78) يراجع (الأصول) للسيد محمد الحسيني الشيرازي، مبحث المطلق والنكرة.

(79) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص447.

(80) مضى تفسيرها في هامش سابق.

(81) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص447.

(82) تحف العقول: ص140 عهده (عليه السلام) إلى الأشتر...، بحار الأنوار: ج74 ص256 ب10 عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الأشتر...

(83) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي: ج4 ص388.

(84) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص69.

(85) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية: ج8 ص352.

(86) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص480.

(87) قطب الدين الرواندي، الدعوات، مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام): ص113.

(88) راجع: مجمع البحرين والمنجد.

(89) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص483.

(90) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص483.

(91) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي: ص203.

(92) مصطلحات العلوم الاجتماعية، أحمد زكي بدوي: ص19.

(93) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(94) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية: ج7 ص198.

(95) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية: ج7 ص302.

(96) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام): ج1 ص315.

(97) أوضحنا ذلك في الفصل الأخير من الكتاب (قطاع المعرفة والتعليم).

(98) يراجع: برنامج العمل العام الثامن، منظمة الصحة العالمية: ص25.

(99) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(100) www.ukessays.com/essays/economics/positive-and-negative-impacts-of-economic-growth-economics-essay.php.

(101) يراجع هذا الكتاب.

(102) ورد في تحف العقول: ص100. وفي دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(103) (رَفعك) ورد في تحف العقول: ص100. وفي دعائم الإسلام: ج1 ص366.

(104) ورد في تحف العقول: ص100. ودعائم الإسلام: ج1 ص366.

(105) ورد في غرر الحكم: ج2 ص586 الحديث 70. وفي تحف العقول: ص100، باختلاف يسير.

(106) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(107) نهج البلاغة: الكتاب 67.

(108) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(109) نهج البلاغة: الكتاب 67.

(110) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(111) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(112) سورة الأنبياء: 107.

(113) سورة آل عمران: 159.

(114) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(115) ورد في تحف العقول: ص103.

(116) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(117) يراجع كتاب (الاغتيال الاقتصادي للأمم).

(118) سورة الصف: 3.

(119) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(120) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص389.

(121) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص389.

(122) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مكتبة المرعشي: ج20 ص323.

(123) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي: ص390.

(124) قال بعض العلماء: (قد يقال: إن الوعود الانتخابية هي التي تكون مؤثرة في منح الناس أصواتهم / وعليه فبخلف الوعد (عمداً أو لعدم القدرة) يسقط الحاكم لأن الأصوات ترتفع عنه / أي صعد بأصوات مقيدة ومع زوال القيد تزول الأصوات فتأمل، وهذا بخلاف الوعد الشخصي الذي لا يأخذ مقابله شيء فهذا هو المكروه، فتأمل).

(125) ففي الكافي: ج2 363 ح1، والوافي: ج5 ص924 ح6، والوسائل: ج12 ص165 أبواب أحكام العشرة ب109 ح3، عن هشام بن سالم قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: عِدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) إلخ ـ سورة الصف: 2 ـ، وهي حسنة بإبراهيم بن هاشم. والمقت: الغضب.

 وعن شعيب العقرقوفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد» وهي حسنة بإبراهيم.

 وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصدر المذكور من الوسائل والمستدرك: ج8 ص458 أبواب أحكام العشرة ب92، ج9 ص39 ب105. والوسائل: ج12 ص203 أبواب أحكام العشرة ب122 ح6 وغيره.

(126) الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج12 ص164 أبواب أحكام العشرة ب109.

(127) المحدث النوري، مستدرك الوسائل: ج8 ص458 أبواب أحكام العشرة ب92.

(128) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول: ج2 (موسوعة الإمام الخوئي 47): ص235 ـ 236، 279 ـ 280.

(129) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة في المعاملات، المكاسب المحرمة: ج1 ص393، وراجع تتمة كلامه أيضاً.

(130) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(131) وذلك في البلاد التي تعتمد على التصدير وتنخفض فيها نسبة الاستيراد، وإلا زاد خفض العملة الطين بلة، إذ يزداد التضخم مع خفض قيمة العملة نظراً لارتفاع قيمة المستوردات حينئذٍ.

(132) لأن الغلاء يغذي نفسه بنفسه، إذ أن من طبعه الاستمرار والبقاء ومن الصعب جداً إرجاع البضائع المتضخمة إلى أسعارها السابقة.

(133) نهج البلاغة: الكتاب 53.

(134) للتفصيل يراجع هذا الكتاب عنوان (الصورة المقابلة في الحكومات العباسية) و(تحصيل الثروات وتولية المناصب بالرشوة) و(بيع المحافظات لمن يدفع أكثر) و...

(135) نهج البلاغة: الكتاب 53.

اضف تعليق