نتساءل هل فعلا كانت الهجرة بمعدلات استثنائية في سرعتها مختلفة عن الانماط المعروفة. وعند الاطلاع على مسيرة التحضر في العالم، والعديد من الدول التي تشترك مع العراق في خصائص مرحلة التطور او الاقتصاد النفطي، نجد ان تزايد نسبة سكان المدن في العراق ينسجم تماما مع...

وصفت هجرة سكان الريف الى المدينة، في كتابات لمثقفين عراقيين، وكأنها من اخطاء السياسة في خمسينات وستينات القرن العشرين. او ان حجم السكان المهاجرين كان كبيرا جدا ما ادى الى ارباك او تغيير سياق التطور السوسيوثقافي المنتظم في المدينة العراقية، وبغداد بالذات. ومن نتائجه، في تصورهم، ظهور انماط سلوك منافية للحداثة وقيم المجتمع المدني.

ونتساءل هل فعلا كانت الهجرة بمعدلات استثنائية في سرعتها مختلفة عن الانماط المعروفة. وعند الاطلاع على مسيرة التحضر في العالم، والعديد من الدول التي تشترك مع العراق في خصائص مرحلة التطور او الاقتصاد النفطي، نجد ان تزايد نسبة سكان المدن في العراق ينسجم تماما مع النمط العام الذي تكشف عنه بوضوح تام بيانات السكان والاقتصاد.

والتفسير الاقتصادي لحركة السكان من الريف الى المدينة بسيط ومعروف لأن النمو الاقتصادي الحديث والمعاصر يجري عبر تحولات في البنية القطاعية للإنتاج. ولذا نلاحظ انخفاض الاهمية النسبية للزراعة في الناتج المحلي الإجمالي وهو مقياس يعبر عن النشاط المنتج للسلع والخدمات كافة، او الحجم الاقتصادي للنطاق الجغرافي السياسي.

وعلى سبيل المثال كانت نسبة القيمة المضافة الزراعية الى الناتج المحلي بالمائة في بنغلاديش والهند وتركيا عام 1960 لأقرب وحدة مئوية 57، و42، و55 اصبحت 13، و15، و6 في الدول الثلاث على التوالي عام 2017. وفي الدول المتقدمة تسهم الزراعة في الناتج المحلي عام 2017 بالمائة في السويد والدانيمارك وبريطانيا على التوالي 1.1، و1.1، و0.5 وفي اليابان والولايات المتحدة عام 2016 بالمائة 1.1 لكل منهما. وتشغّل الزراعة بالمائة من مجموع القوى العاملة 1.7، و1.9 في السويد والولايات المتحدة الأمريكية عام 2017. ويحصل هذا التحول الكبير في ثقل الاقتصاد الوطني من الزراعة الى القطاعات الأخرى من خلال عمليات مترابطة ومتواصلة عبر الزمن:

- ترتفع الانتاجية نتيجة التطور التكنولوجي المقتصد بالعمل الزراعي فتنخفض نسبة القوى العاملة في الزراعة من مجموع قوة العمل تدريجيا وبانتطام، وهكذا يستمر فائض عرض العمل من سكان الريف عن حاجة الانتاج الزراعي.

- توسع الانتاج والتشغيل في قطاعات التعدين والطاقة والصناعة والبناء والتشييد والنقل والتجارة والخدمات فتتزايد حصة هذه القطاعات من مجموع القوى العاملة بإطراد ويستمر التوسع ولم يتوقف الى يومنا في كل العالم.

- القطاعات من غير الزراعة هي، في الغالب الأعم، حضرية. ولأنها تتوسع سريعا فلا يمكن لعرض القوى العاملة من سكان الحضر تلبية طلب هذه القطاعات. وبالنتيجة ينتقل العمل الفائض من الريف لسد الطلب الإضافي على العمل في المدينة. وبذلك ارتبطت عملية الهجرة الى المدن بديناميك النمو الاقتصادي وما ينطوي عليه من تغيرات في الدور النسبي لمختلف انشطة انتاج السلع والخدمات.

- ان انتقال القوى العاملة، ثم السكان، من الريف الى المدينة يولّد طلبا اضافيا على البنى التحتية والخدمات العامة، في المدينة، الى جانب الطلب الاضافي على السلع والخدمات الاستهلاكية. والاستجابة للطلب الاضافي تستدعي تشغيل قوى عاملة اخرى تُستقطب من الارياف. أي ان الهجرة بذاتها تضيف الى عوامل الدفع والجذب لتستمر هذه العملية وصولا الى الاستقرار عند مستويات من التحضر قد تتجاوز 85 بالمائة من السكان.

- ثمة عوامل كابحة للهجرة منها: ان قسما من القوى العاملة الريفية يمكنها العمل في انشطة ليست زراعية مع البقاء على السكن في الريف، وبالأخص سكان الارياف القريبة من محيط المدن، والأبعد منها بمسافة تعتمد على مدى وفرة خدمات النقل وسهولته وتناسب تكاليفه مع العائد اليومي للعمل. وايضا توجد انشطة صناعية وخدماتية في المناطق الريفية تستوعب قدرا من القوى العاملة.

- وهناك عوامل اخرى تدفع السكان من الريف الى المدينة او تساعد على بقائهم في الريف منها الأمن والوصول الى خدمات التعليم والصحة.

- ولما تقدم تقوم سياسات كبح الهجرة الى المدن على تسهيل وصول اهل الريف الى الخدمات من جهة، ونشر الصناعة في المناطق الريفية من جهة اخرى، اضافة الى تيسير خدمات النقل لتمكين اهل الريف من العمل في المدينة والعودة الى مساكنهم في الريف يوميا وهي الظاهرة التي تسمى التردد Commuting.

- تشجيع تكوين المستوطنات البشرية الريفية الصغيرة او القرى لتؤدي وظيفة مراكز التسوق وتقديم بعض الخدمات.

- ايصال الماء الصالح للشرب والكهرباء ونشر شبكات الطرق المعبدة في الريف.

في العراق كانت نسبة التحضر عام 1950 تقريبا 35 بالمائة اصبحت عام 2015 حوالي 70 بالمائة وتشير البيانات المنشورة الى استقرارها عند هذا المستوي، وقد لا تكون بمنتهى الدقة، في السنوات الأخيرة، لكنها لا تبتعد عن الواقع. ونقارن العراق بدول اخرى ونبين نسبة التحضر عام 1950 ثم 2015 بالمائة: الأردن 37، 90؛ لبنان 32، 88 ؛ عُمان 8، 81 ؛ السعودية 23، 83 ؛ تركيا 25، 74 ؛ البرازيل 36، 86 ؛ دول امريكا اللاتينية مجتمعة 43، 80. والتحضر في ايران وبلغاريا يماثل تركيا واوكرانيا تماثل العراق. بينما في سوريا ومصر وصربيا اقل من العراق. هذه امثلة لبيان ان التحضر في العراق او الهجرة من الريف الى المدينة ليست استثنائية بل تمثل النمط الاعتيادي.

بقيت مسألة تركز السكان في بغداد ونستفيد من تقرير الأمم المتحدة، مدن العالم عام 2016، والذي اظهر ان 28 دولة في العالم استوعبت المدينة الأولى فيها مايزيد على 40 بالمائة من السكان الحضر عام 2016. ومن هذه الدول مصر ولبنان وارمينيا واذربيجان وافغانستان... والعراق ليس من هذه المجموعة. وتستوعب مدينة بغداد 18.5 بالمائة من سكان العراق و26.6 بالمائة من السكان الحضر، ثم الموصل واربيل والسليمانية والبصرة بيد ان الفارق كبير بين بغداد والمدن الأربعة التي يسكنها 19.6 بالمائة من الحضر، وبهذا تستوعب المدن ال خمس46.2 بالمائة من الحضر في العراق. وبغداد تقارب الرياض التي تستوعب 21.5 بالمائة من مجموع السكان و 25.8 بالمائة من السكان الحضر، وجدة مدينة ثانية بنسبة 16.4 بالمائة من الحضر. ومدينة حلب يسكنها 27.5 بالمائة من الحضر في سوريا وهي الاولى ودمشق الثانية 19.6 بالمائة. وفي اسطنبول 25.1 بالمائة من الحضر و18.5 بالمائة من مجموع السكان وهي مقاربة للمكانة النسبية لبغداد. وهكذا يتضح من بيانات المقارنة الدولية ان تركز السكان في بغداد اقرب الى الوسط.

لكن خفض التركز السكاني في بغداد سياسة في الاتجاه الصحيح، ومن المحاور الاساسية في التنمية المكانية.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2018
www.fcdrs.com

اضف تعليق