هل الفقر قدرٌ مكتوب على الفقير؟ أم هو إفراز لسياسات اقتصادية فاشلة في الدول، تسقط على رؤوس الشريحة الأضعف اقتصادياً في المجتمع وتخلق منها فقراء ومحتاجين؟ وهل المجتمع مسؤول عن ظهور الطبقية والتمييز في الجانب المادي؟...
هل الفقر قدرٌ مكتوب على الفقير؟ أم هو إفراز لسياسات اقتصادية فاشلة في الدول، تسقط على رؤوس الشريحة الأضعف اقتصادياً في المجتمع وتخلق منها فقراء ومحتاجين؟ وهل المجتمع مسؤول عن ظهور الطبقية والتمييز في الجانب المادي؟
هذه الاسئلة وأشباهها، تدور في خلد الكثير، لاسيما ابناء الشريحة الفقيرة، دون أن يجدوا لها جواباً من أهل العلم والفكر الذين كتبوا في هذه القضية التي تحولت الى ظاهرة اجتماعية مريرة في بلادنا، والسبب يعود الى مدخلية هذه العوامل جميعاً في خلق هذه الظاهرة وتحولها الى أزمة حقيقية، بل والى قنبلة موقوتة في هذا البلد وذاك، بيد أن العلماء أكدوا أن الفقر لن يكون المصير النهائي لأي انسان، فالنظام الاقتصادي في الاسلام يتيح فرصاً كبيرة للعمل والإثراء للعيش في أفضل حال.
هذا الأمل الكبير والكامن في بطون الكتب، يعتقد البعض ان ايجاد المصاديق العملية له يتم بالدرجة الاولى على يد المؤسسة الحاكمة، فهي التي يجب عليها توفير فرص العمل، وتقدم المنح المالية، ورواتب التقاعد للموظفين والعسكريين وغيرهم، بما يحقق "التقسيم العادل للثروة".
بيد ان هذا ليس كل شيء، مع انه عامل مؤثر في مكافحة الفقر، بيد أن العلماء والباحثين، يؤكدون ان الفقر ظاهرة اجتماعية قبل ان تكون أزمة اقتصادية، فنوع الثقافة التي يحملها المجتمع لها دور كبير وحاسم في إزالة الفقر والفقراء من وجه هذا المجتمع، ومن الذين كتبوا في هذا المجال المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- لاسيما في كتابه الرائع: "انفقوا لكي تتقدموا"، عندما اشار في مقدمة كتابه الى أن شريحة الاغنياء لهم القدرة الاكبر على امتصاص نقمة الفقراء من خلال "البذل السخيّ للفقراء والمشاريع، وبعدم الاستفزاز في الإنفاق، سواء كان الاستفزاز من نوع الإسراف، أو من نوع التظاهر، أومن نوع الكبرياء، أو من نوع الفساد".
حياة الكفاف
في الوقت الذي يؤكد على العلماء على مبدأ حق التملك في الاسلام، وحرية العمل للإثراء وجمع المال، فانهم يشيرون ايضاً الى مبدأ موازٍ من شأنه حفظ كرامة الانسان وتحقيقه للحياة التي يرضاها، وهو مبدأ الاختبار و"الافتتان"، عندما يكون المال مجرد وسيلة لغايات نبيلة واهداف كبرى، وهكذا جعله النبي الأكرم، وسيلة لتركيز دعائم الاسلام في حديثه المشهور: "ما قام الإسلام إلا بسيف علي ومال خديجة"، لا أن يكون هو بنفسه غاية، فيكون متحكماً بالانسان، وليس العكس، فيحدث ما يحدث من الويلات على نفس هذا الانسان وعلى المجتمع، بما لا يخفى على القارئ.
واذا اراد الفقير الخروج من ناجحاً من هذا الاختبار (الفتنة) ما عليه إلا ان يجعل المال والعقار والامتيازات والسيارات وغيرها من مظاهر الغنى، جسراً يطأه نحو مشاريع البر والعطاء وخدمة الآخرين.
ويجدر بنا الاشارة الى نقطة مهمة لها علاقة بالدوافع النفسية لدى أي انسان، بمن فيهم الفقير، فالكثير يتحدث عن رغبته في أقل الاشياء ليتخلص من بيت الصفيح، والعمل الشاق لتحصيل لقمة العيش، والاكتفاء ببضع المستلزمات الضرورية كما يمتلك الآخرون، ولن يطلب شيئاً بعد ذلك ابدا!
هذا التصور البرئ ربما يكون صادقاً من الكثير، لانهم لم يروا أكداس الاموال امامهم، ولم يجربوا السيارات الحديثة، او بناء البيوت الفارهة، لذا يكتفون بالقليل، وهو حق مشروع، ولهم أكثر من ذلك، بيد أن هذا التصور بحد ذاته من شأنه ان يتحول الى منزلق يودي بصاحبه الى السقوط في الاختبار المصيري.
من أجل ذلك نجد سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي في مولفه القيّم؛ ملامح النظرية الاسلامية في الغنى والفقر، يقلل من الطابع السلبي للفقر، ويشدد على خطورة الغِنى، ويخرج بنتيجة متوازنة، تجعل "الفقر مطلوب ذاتياً للمؤمنين فيما الغنى مرجوحٌ ومطلوب طريقياً". والمقصود بالفقر هنا؛ ليس الحرمان والفاقة الشديدة الى حد التسوّل كما نشهد ذلك في بلادنا، إنما حياة الكفاف التي يمكن ملاحظتها في تجربة المجتمع الاسلامي الاول، وما يسمى بقلّة ذات اليد، بدليل الحديث النبوي الشريف: "ما أحدٌ يوم القيامة غني ولا فقير إلا يود انه لم يؤت منها إلا القوت".
أما الغنى المطلوب فانه في الطريق الى البر والإحسان ومختلف انواع العمل الايجابي، وهو الشرط الذي يشدد عليه سماحة السيد الشيرازي في كتابه هذا، ويحذر في الوقت نفسه من مغبة اتخاذ المال اساساً للتفكير، ويعزو السبب في ذلك الى "أن المال والثروة والشهر والرئاسة مدعاة للعجب والغرور والطغيان، والقدرة والثروة مادة الشهوات والآثام، عكس الفقر الذي يدعو الانسان ليتقرب الى الله تعالى اكثر فأكثر اذ يستشعر حاجته اليه –تعالى- بشكل أعمق وأوضح واكبر".
ولذا يدعو سماحته الى تحقيق التوازن بين الكراهية للمال وبين التحبب الى البذل والعطاء في حالة الغنى، ثم يبين موقف الاسلام تجاه الثروة والغنى وكيفية التعامل مع المال، من خلال ايجاد "هذا الثنائي المزيج من الكره الموضوعي والذاتي للمال، ومن الرغبة الشديدة للوصول الى الغنى والثروة طريقياً لأجل عون العباد وإعمار البلاد، وهو الذي يصنع الانسان المتكامل، فان من يكره الاموال لايعقل ان يرتشي او يسرق أو يغش ويخدع ويرابي لأجل حفنة من الاموال...".
هل يزهد الانسان وهو فقير؟!
الى هذا الحدّ النظرية الاسلامية واضحة ودقيقة في تقديم فرص الغنى لأي انسان، لاسيما الفقير والمعدم، بيد أن السؤال الذي ربما يدور في خلد الكثير من هؤلاء الفقراء؛ ان كيف يخلقون هذا الشعور في انفسهم بالكراهية للمال وهم بعد لم يلمسوه بايديهم؟
نستلهم الاجابة من الآية الكريمة في سورة البقرة التي جاءت في سياق الآيات الداعية الى الانفاق والنظر الى الشريحة الفقيرة في المجتمع، فهي في الوقت الذي تدعو الميسورين للانفاق في سبيل الله مقابل أجر جزيل ومضاعف، فانها تدعو الفقراء ايضاً الى ما يمكن تسميته بـ "العصامية"، وعدم التصاغر طلباً للعطاء، فالآية الكريمة تعرف الفقير ذو الشخصية المحببة بأنهم {...يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} (273- البقرة)، وهي تعد حالة نفسية قابلة للتنمية في داخل أي انسان، لاسيما ذو الدخل المحدود، ومن يعيش الكفاف في معيشته.
وتبدو القضية منطقية الى حد كبير، في أن الذي يتصاغر هنا وهناك للحصول على المال، حتى باتخاذ السبل غير المشروعة وغير الاخلاقية، فانه في حالة الغنى والوصول الى مراتب اجتماعية او سياسية عليا، سيقلب المعادلة انتقاماً من المجتمع، فيبدأ بالتطاول والتجاوز على حقوق الناس، كما نلاحظ ذلك جلياً في عديد بلادنا الاسلامية بصعود ساسة مارسوا في مراحل من حياتهم حالة التصاغر حبّا جماً بالمال والجاه، فيكونوا مطيّة لهذا المال والمنصب يقودهم الى الفضائح و المهالك.
بينما الحالة العصامية وعزّة النفس التي نراها في شريحة واسعة من الفقراء ومن ذوي الدخل المحدود، فانهم وإن حصلوا على الثراء، فان الكرامة الانسانية هي التي تروض المال وتكبح جماحه مهما كان، وهنالك امثلة عديدة من علماء وأثرياء في عالم اليوم، عاشوا الفقر والفاقة في صغرهم، ولم يأكلوا من لقمة الذل والاستجداء، وعندما اصبحوا علماء في الطب او الهندسة او من اصحاب المصانع والشركات التجارية الكبرى، وحتى بلغوا مراتب عليا في الحكم، اصطبحوا معهم تلك العصامية والإباء أمام الاموال والامتيازات.
على هذا الطريق يمكن للفقير المضي في طريق العمل والانتاج لكسب المزيد من الاموال الى حد الإثراء لانه سيضمن حينها سلامة نفسه وسلامة مجتمعه.
اضف تعليق